A tourist wearing a protective face mask walks inside the Hagia Sophia Museum in Istanbul on June 26, 2020. - Turkey, a nation…
أي حضارة بشرية بريئة تماما من هذه الفكرة المغرورة المضحكة: نحن نمتلك الحق وقد أتيناكم بقوة السلاح كي نهديكم إليه وندلكم قسرا عليه؟

في أحد مقابلات نعوم تشومسكي، تحدث هو (القادم هو اختصار لفكرته وليس ترجمة حرفية لها) عن كيف أن مصدر العديد من أفكارنا (كبشر عموما) هو القراءات الدينية والتي منها مثلا فكرة أفضليتنا على غيرنا أو الشعور بأحقيتنا باستعمار الآخر من منطلق أننا منفذين لإرادة الإله ومنقذين للآخر باستعماره والإتيان به إلى طريق الحق والصواب والتحضر. 

يضرب تشومسكي مثلا، وهو البداية الاستعمارية العنيفة للأرض الأميركية الشمالية والتي روج لها "الآباء المؤسسون" على أنها "الإتيان بفوائد الحضارة والتي تشتمل الديانة المسيحية للهنود والذين كانوا يترجونها، نحن نقدم لهم خدمة". هذه الفكرة أوعزت لأخرى تقول "بمسؤولية الحماية" والتي هي "اسم آخر للإمبريالية"، حيث أن قدوم الأوروبيون لأميركا ما كان سوى استجابة لرجاء السكان الأصليين للأرض لقدوم هؤلاء وإنقاذهم لهم.

يؤكد تشومسكي أنه حتى هذه اللحظة لا تزال هذه الفكرة مستمرة بوضوح من خلال كل مناحي الحياة الأميركية خصوصا في المجال التعليمي. يضيف تشومسكي أن ثيودور روزفلت، خلال فترة رئاسته الثانية، قال ما معناه إنه من أجل مصلحة الأمة الأصلية نحن أبدناها، حيث أن ذلك مكننا كجنس أعلى لأن نحل محلهم، وهذه كانت فكرة شائعة بين العديد ممن يعتقدهم الشارع الأميركي أبطالا عظماء، والذين شكلوا أسطورة أننا، أي الأميركيين، جميعا أنكلوساكسونيين أصليين. 

نحن "نحتضن" في دول الخليج عديمي الجنسية بيننا، لكننا لا نجنسهم ولو كانوا يعيشون بيننا لأكثر من خمسين سنة، فنقاء الدماء فوق كل شيء

كانت هذه الفكرة قوية إلى درجة أن بنجامين فرانكلين قال إنه لا يجب السماح بهجرة الألمان والسويديين إلى أميركا لأنهم ليسوا بيض بشكل كاف. لا تزال هذه الفكرة، يقول تشومسكي، مستمرة ومتمددة عبر التاريخ الأميركي وصولا لوقتنا الحالي.

لم تنته هذه الفكرة الأميركية، الكلام لي الآن، حتى وقتنا المعاصر، استمرت رائدة في قيادة العديد من الحروب التي دخلتها أميركا، منها مثلا الحرب الأميركية المكسيكية التي مكنت أميركا من ثلث الأراضي المكسيكية وغيرها من التعاملات العسكرية المستمرة إلى اليوم. إلا أن الشيء المختلف في الحيز الأميركي هو إمكانية مناقشة هذه الفجوة الفكرية المظلمة والإفصاح عنها، فحتى لو كان هناك عدم قبول مجتمعي أو هجمات شارع على مثل هذا الرأي، إلا أن القانون الأميركي يحمي الرأي ويمكنه من الظهور ولو استحياءً.

هذا ويمكننا بوضوح رؤية تمثل هذه الفجوة الفكرية المظلمة في مجتمعاتنا وفي تاريخنا بكل غرورها وأصوليتها وعنصريتها وقدمها السحيق. فرغم كل ما أتى به العلم الحديث من معلومات حولنا كبشر بيولوجيا وذهنيا، إلا أننا لا نزال نتمسك بأفكار ومفاهيم عنصرية ساذجة مناقضة لما أثبته العلم ماديا وفكريا. 

أي حضارة بشرية بريئة تماما من هذه الفكرة المغرورة المضحكة: نحن نمتلك الحق وقد أتيناكم بقوة السلاح كي نهديكم إليه وندلكم قسرا عليه؟ كلنا كمجموعات بشرية ندين الآخر بسبب عنفه وتعدياته إلا أننا نطلق أسماء أخرى مختلفة على عنفنا وتعدياتنا: فنحن إصلاحيون، حاضنون للديمقراطية، مقدمون للحضارة، منقذون للبشرية، مرسخون للسلام. عجيب هو أمر البشر، دوما ما يرسخون السلام بالحروب الشعواء. 

في تاريخنا العربي أمثلة لا تعد ولا تحصى ولكن ربما أوضحها وأقلها خطرا في الذكر هي الحالة التناقضية التالية: الدخول الإسرائيلي لفلسطين هو احتلال (وهو كذلك) إلا أن الدخول العربي لإسبانيا هو فتوحات؟ التحليل التاريخي والفلسفي الأكثر عمقا غير ممكن هنا، لأسباب واضحة وضوح الشمس في عز الظهيرة الصحراوية، وهذا هو الفرق بيننا وبين الأميركيين. كلنا كبشر متعصبين ننظر للأمر بتناقض مضحك، إلا أن الأميركيين يستطيعون إبراز مصيبتهم الفكرية تلك، أما نحن فبالكاد يمكننا الإشارة إليها وأيادينا على قلوبنا.

نأمل أن تتسع مساحة التعبير قريبا، أن نستطيع أن ننظر للتاريخ تحليلا ونقدا وتعلما، وأن نعترف أننا أخطأنا هناك، لعلنا نصلح هنا

إلا أن الواضح أن هذه الفجوة الفكرية المظلمة لا تتوقف حد السياسات الخارجية للمجتمعات، بل تدخل في تركيب أعماقها الداخلية. نحن نأتي بالعمالة المنزلية في منطقة الخليج لننقذهم. نحن نعاملهم أفضل معاملة. نحن نشتري لهم الملابس والحاجيات ونأتي بها إليهم لحمايتهم، فنحن لا نسمح لهم بالخروج في أي إجازة حفاظا عليهم. نحن نقدم لهم طريق الهداية ولو إغراءً بالمال، فنحن في الكويت، وأتوقع لهذا المنحى أمثاله في الدول المجاورة، نقدم مبلغا محترما نسبيا لهذه العمالة الفقيرة التي تتحول عن دينها إلى الإسلام. 

نحن "نحتضن" في دول الخليج عديمي الجنسية بيننا، لكننا لا نجنسهم ولو كانوا يعيشون بيننا لأكثر من خمسين سنة، فنقاء الدماء فوق كل شيء، وما تمسكنا بنقاء سلسالنا (لا أدخل أنا فعليا ضمن السلسال النقي بحكم أصولي الفارسية) إلا حفاظا على البشرية بالمحافظة على أرقى أنواعها.

الأمثلة البشرية العالمية والمحلية لا تنتهي، إلا أن مساحة المقال انتهت ومساحة الصراحة صغرت، إن لم تنقبض تماما، ولم يبق الكثير الذي يمكن قوله. ربما لن تتغير أفكارنا البشرية المضحكة حول نقاء دمائنا التي تستوجب المحافظة عليها وعزلها ولا تلك التي هي حول نقاء أهدافنا حين احتلال الآخر سواء عسكريا أو اقتصاديا أو ذهنيا في أي وقت قريب. 

ربما نأمل أن تتسع مساحة التعبير قريبا، أن نستطيع أن ننظر للتاريخ تحليلا ونقدا وتعلما، وأن نعترف أننا أخطأنا هناك، لعلنا نصلح هنا، أن نستطيع كل ذلك دون أن ترفع علينا قضايا مساس وحسبة وإهانة تجعلنا نتراجع عن آرائنا صاغرين ثم نقولها في المحاكم مهانين كما قالها غاليليو ذات يوم "لكنها تدور".

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.