يبدو أن شقاقا عنيفا بدأت تظهر ملامحه بين أطراف نظام السطو والفساد في لبنان، أي النظام الذي تولى إفلاس الدولة والاستحواذ على مدخرات المواطنين. طرفا الشقاق هما الحكومة كممثلة لأركان النظام، والمصارف، وهي المصفاة التي تجمعت فيها ثروات اللبنانيين وودائعهم، وفيها جرت عملية السطو الكبرى عبر تواطؤ بين السياسيين وأصحاب المصارف، كان عنوانه ما أطلق عليه "الهندسات المالية"، التي أعدها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وراحت بموجبها المصرف تقرض الدولة من مدخرات الناس بفوائد خيالية تترك منها فتاتا لأصحاب الودائع وتراكم هي أرباحا على أرباحها، فيما يلوذ أهل الفساد والفشل في الحكومات المتعاقبة بتحويلات المصرف إلى الخزينة!
اليوم باشرت جمعية المصارف مواجهة مع أهل السلطة محملة إياهم مسؤولية الفضيحة الكبرى. الدولة بحسبهم هي من أخل بعقود الإقراض، وهي من تمنع عن سداد الديون للمودعين. هذا الادعاء وإن انطوى على صحة وصواب، إلا أنه لا يقل وقاحة وصلفا عن ذاك الذي تبديه الدولة، ذاك أن المصارف توجهت بملء إرادتها إلى مصرف لبنان، وراحت تتنافس في السنوات الثلاث الأخيرة على شراء سندات الخزينة. فعلت ذلك بشراهة المرابي وحماقة المقامر. فعلت ذلك وهي تعرف أن في نهاية النفق تقع الهاوية. أرباحها في سنوات "الهندسة المالية" فاقت أرباحها على مدى كل سنوات عملها، وموجوداتها في هذه السنوات تضخمت حتى انتفخت وجوه أصحابها، فصرت أينما وليت وجهك في بيروت يلوح لك مبنى لمصرف أو عقارا أو شركة.
المصارف تقاوم وتناور، والسلطة ماضية في خطتها، والناس مقيمون في عزلة كورونا
والحال أن "خطط الإنقاذ" إذ تطرح على نفسها اقتطاعا لرأسمال المصارف، تطرح اقتطاعا رهيبا ومضاعفا من ودائع الناس، يبلغ على ما يبدو نحو 50 في المئة من قيمة الوديعة. المصارف تخوض معاركها لحماية رأسمالها، فيما المودعين، لا سيما متوسطيهم وصغارهم، محجورين في منازلهم من دون قدرة على المواجهة. إنها اللحظة النموذجية لأطراف السلطة كي يقدموا على فعلتهم، فكورونا أسقطت من أيدي الناس القدرة على المبادرة، والسلطة بطرفيها السياسي والمصرفي بلا أخلاق، ولا شيء يردعها عن توظيف خوف الناس من الفيروس في خطوة لاأخلاقية.
الفضيحة لم تعد فضيحة في لبنان، ذاك أن اللعب صار على المكشوف. أركان النظام أعلنوا امتلاكهم لحكومة "التكنوقراط المستقلة"، وكشفوا عن حصصهم فيها. نبيه بري هدد بسحب وزرائه في حال لم تتول الحكومة نقل المغتربين! للرجل وزراء إذا، وجبران باسيل أوقف التعينات القضائية وحبسها في أدراج وزيرة العدل، وسليمان فرنجية يريد حصة من نواب حاكم مصرف لبنان!
وفي هذا الوقت تتسرب "خطة الإصلاح المالي" كنسخة غير منقحة عن سياسات الهدر والفساد. يستمر العمل في مشروع سد بسري، وتتواصل خطط الفساد في ملف الكهرباء من دون أي تعديل، وتتوج الخطة بمشروع الـ"هيركات"، فيما المصارف تشعر أن ثمة من يسعى لتدفيعها جزءا من الثمن، وهو ربع الثروة المنهوبة، فتهب هبة الرجل الواحد، وتباشر تصديها لـ"المؤامرة"، التي كانت إلى الأمس القريب جزءا أساسيا منها.
لا تلحظ "خطة الإصلاح" أي مسؤولية للنظام عن الانهيار، ولا تقترح خطة للمحاسبة، بل تمضي في نفس سياساته التي باشرها منذ عقود
للمصارف قدرة على المواجهة لا يملكها اليوم المواطن المحجور. وسائل الإعلام تعتاش اليوم على إعلانات هذه المصارف، والقدرة على التحكم بودائع أصحاب هذه الوسائل وبمصالحهم ممكنة، وهذا ما لا يبدو أنه متاح لحكومة حسان دياب، على رغم أنه متاح أيضا للأصلاء من أهل السلطة. ثم أن المصارف بدورها استثمرت في كورونا. أقفلت أبوابها في وجه المودعين الصغار والمتوسطين، وفتحت أبوابها الخلفية لزبائنها الكبار. مارست رياء وأبدت قدرا مذهلا من الوضاعة في تعاملها مع الناس في ظل الجائحة. جرى ذلك بينما فقد معظم الناس أعمالهم وتوقفت مداخيلهم بفعل الإقفال.
المواجهة اليوم هي بين نظام الفساد وبين المصارف. 83 مليار دولار هو قيمة الانهيار. رأسمال المصارف يبلغ نحو 20 مليار دولار، فيما المطلوب أن يدفع المودع القيمة المتبقية. هذه المعادلة تعفي السلطة من تبعات فعلتها، وتُحرر أركان النظام من المسؤولية عن الانهيار.
المصارف تقاوم وتناور، والسلطة ماضية في خطتها، والناس مقيمون في عزلة كورونا. وفي هذا الوقت تطلق وعود من نوع إعادة قيمة الـ"هيركات" بعد استعادة الأموال المنهوبة! النظام الذي أقدم على نهب الدولة يعد الناس بإعادة مدخراتهم من الأموال التي نهبها أركانه. يجري ذلك في وقت لا تلحظ "خطة الإصلاح" أي مسؤولية له عن الانهيار، ولا تقترح خطة للمحاسبة، بل تمضي في نفس سياساته التي باشرها منذ عقود.