بين طموحات سياسية لا تنتهي، واتهامات متبادلة بالتخوين، وارتباك حكومي، وانتقادات من هنا وهناك .. وجد المصريون أنفسهم بين شقي رحا تعصر أحلامهم التي فجرت ثورة ظن الجميع أنها ستصعد بمصر إلى القمة فإذا بها تهددها بالسقوط إلى الهاوية.
لم تعرف مصر هدوءا واستقرارا حقيقيا منذ تنحي مبارك في الحادي عشر من فبراير/شباط 2011، حيث ظلت الشوارع والميادين مسرحا شبه دائم لاحتجاجات على أسلوب إدارة المجلس الأعلى للقوات المسلحة للبلاد، ثم تحولت هذه الاحتجاجات لتستهدف خصما جديدا هو الإخوان المسلمين بعد فوز مرشحهم محمد مرسي بالانتخابات الرئاسية في يونيو/حزيران الماضي.
وتفاقمت الأمور بشدة عقب الإعلان الدستوري الذي أصدره مرسي في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي ومهد به للإبقاء على مجلس الشورى الذي يسيطر عليه حلفاؤه والجمعية التأسيسية التي صاغت دستورا لم يرض عنه الليبراليون وأصبح تعديله مطلبا دائما من قوى المعارضة التي لم تقنعها نتيجة الاستفتاء الشعبي الذي جعل الدستور وثيقة تدير شؤون المصريين رغم أنها لا تحظى رضاء الملايين منهم.
منحى جديد بعد ثورة 25 يناير
ومع حلول الذكرى الثانية للثورة في 25 يناير/كانون الثاني الماضي دخلت الأمور منحنى جديدا غلب عليه العنف وراح ضحيته 56 قتيلا على الأقل ومئات المصابين في مختلف المدن المصرية، حتى أن العنف بلغ مستويات غير مسبوقة في مدن القناة الثلاث السويس وبورسعيد والإسماعيلية على نحو استدعى فرض حظر للتجوال لم يتم احترامه في مؤشر بدا خطيرا ودفع الجيش إلى التدخل بل والتلويح بأنه لن يقف ساكنا على عنف وخلافات باتت تهدد مستقبل الدولة المصرية كما قال وزير الدفاع الفريق أول عبد الفتاح السيسي.
رسالة الجيش استقبلها السياسيون الذين رفض فصيل كبير منهم الاحتكام إلى الحوار وفضل البقاء في الشارع أملا في ثورة ثانية قد تطيح بالإسلاميين، لكنها أيضا قد تعيد الجيش إلى سدة الحكم من جديد وتقضي على آمال الديموقراطية في مصر لاسيما وأن قطاعا كبيرا من المصريين عبر عن تأييده لذلك في أكثر من مناسبة بسبب استيائه من صراعات القوى السياسية وتناحرها الذي لم يلق بالا للمواطن البسيط الذي حلم يوم ثورته ب"العيش والحرية والعدالة الاجتماعية".
نزول الجيش
كان نزول الجيش إلى الشارع مرة أخرى خيارا بعيدا حتى وقت قصير لكن في ظل أحاديث عن مؤامرات تستهدف مصر ومحاولات لإظهار قناة السويس على أنها ممر ملاحي غير آمن عبر استهداف السفن العابرة للقناة كما حدث في أعمال العنف التي شهدتها بورسعيد عقب صدور حكم قضائي بإعدام 21 شخصا على خلفية القضية المعروفة باسم "مذبحة بورسعيد"، باتت احتمالات عودة الجيش إلى السلطة قائمة بشدة في حال ما فشل الساسة في وضع خلافاتهم جانبا وإخراج الشارع من صراعاتهم السياسية لاسيما وأن أعمال العنف سببت قلقا دوليا عكسته تصريحات وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون التي حذرت فيها من مغبة أعمال العنف في مصر.
إذن فطرفي النزاع في مصر، الحكومة والمعارضة، أصبحا مضطرين للتوافق وإلا فإنهما قد يخسرا كل شئ، ولكن هل يمتلك الطرفان تأثيرا على الشارع يمكنهما من إعادة الهدوء إليه؟.
قد تكون الإجابة غير مشجعة، فبعد أقل من ساعة على اجتماع أهم القوى السياسية والدينية في مصر لإصدار وثيقة الأزهر لنبذ العنف يوم الخميس أعلنت 18 حركة وحزبا سياسيا من بينها أحزاب شاركت في إصدار الوثيقة، عن نيتها تسيير تظاهرات يوم الجمعة تحت مسمى "مليونية الخلاص" قالت عنها جبهة الإنقاذ الوطني إنها "تأكيد على الرفض القاطع لنظام يرغب في فرض إرادته المنفردة على الشعب"، في إشارة لجماعة الإخوان المسلمين.
لكن رغم أن ذلك يبدو مناقضا لتعهدات قطعتها هذه القوى عبر وثيقة الأزهر، فإن المدقق فيها يراها اعترافا بعجز هذه القوى عن التأثير في الشارع ووضع حد للعنف إذا ما أرادت، لأن أحدا لا يعلم على وجه اليقين الجهة التي تقف خلف العنف في مصر لاسيما بعد ظهور جماعات أطلقت على نفسها اسم "البلاك بلوك" وصمتها سلطات الأمن بالإرهاب واستهدفت أعضاءها، وجماعات شبابية أخرى من الألتراس مارست العنف في بورسعيد احتجاجا على الحكم بإعدام أعضاء منها فضلا عن عناصر من الخارجين عن القانون الذين استغلوا الفوضى لممارسة النهب والسرقة.
كل هذه العناصر التي وجدت في الشارع ملجأ وحيدا للتعبير عن غضبها أو لتحقيق أهدافها المشروعة أو غير المشروعة زادت من تعقيد الموقف على نحو جعل التنبؤ بملامح الفترة المقبلة أمرا صعبا، فإما يستمر الغليان في الشارع ويهيمن الحل الأمني على المشهد بشكل يضع مكاسب الثورة في خطر وينذر باستعادة الجيش السيطرة على السلطة مرة أخرى ويهدد الانتقال الديموقراطي في مصر، أو يقبل السياسيون بالحوار ويضعون خلافاتهم جانبا ويؤسسون لعملية ديموقراطية تغير من وجه مصر.
ولكن لتحقيق هذه الأمور التي من شأنها نزع فتيل الأزمة يتعين على الطرفين تقديم تنازلات تفتح المجال للتوصل إلى حلول توفر مناخا يشجع المصريين على الإيمان بالثورة مرة أخرى ويزيل الاحتقان من الشارع ويمهد الطريق لانتخابات برلمانية تكمل مؤسسات الدولة وتعيد الثقة مرة أخرى إلى الاقتصاد المصري الذي مازال ينزف والمواطن الذي مازال يحلم ب"العيش والحرية والعدالة الاجتماعية".