وافق مجلس النواب المصري على قرار الرئيس عبدالفتاح السيسي بقبول منحة مليوني دولار قدّمها بنك التنمية الأفريقي للمساهمة في إعداد المرحلة الثانية من دراسات مشروع VICMED، الذي يهدف للربط بين بحيرة فيكتوريا، والبحر المتوسط.
ويحظى هذا المشروع باهتمام كبير من القيادة المصرية، حتى أن وزير النقل كامل الوزير وصفه بأنه سيكون "شريان حيوي" لتنمية التجارة في أفريقيا.
ما تفاصيل هذا المشروع؟ وما هم حجم تكلفته؟ وهل يُمكن تنفيذه على أرض الواقع؟ أم سيبقى مجرد حلم يناقشه الرؤساء الأفارقة في اجتماعاتهم الدورية؟
نظام نقل متعدد الوسائط
يقول الدكتور عباس محمد شراقي أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بجامعة القاهرة، إن فكرة المشروع تهدف إلى ربط بحيرة فيكتوريا بالبحر المتوسط، موضحًا أن "الربط ليس معناه توفير ممر ملاحي كامل تسير فيه السفن التجارية بطول نهر النيل من البحيرة حتى البحر".
واعتبر شراقي حديثه لموقع "الحرة"، أن حالة نهر النيل لا تسمح بهذا، فرغم أن طبيعة نهر النيل في مصر جيدة جدًا للملاحة إلا أن ذلك ينطبق فقط على المسار في المناطق الواقعة بعد السد العالي الذي يشكّل حاجزًا ضد حركة السفن لأنه لا يحوي "هاويس" (فتحة داخل السد تسمح بمرور السفن) مثل التي نجدها في مشروعات القناطر على سبيل المثال.
إعاقة حركة السفن في النيل لا يقوم بها السد العالي وحده، وإنما هناك سدود أخرى تقوم بنفس الأمر مثل سد أوين (نالوبالي حاليًا) المُقام على بُعد كيلومترين تقريبًا من بحيرة فيكتوريا، وبعده بـ7 كيلومترات يوجد سد "بوجا جالي"، وغيرها من السدود التي لا تمتلك "هاويسًا" يسمح بمرور السفن من خلالها، لذا تمثّل عائقا دائما لحركتها في مجرى النهر.
وبخلاف تلك السدود، فإن بعض مسارات النيل تصعب حركة السفن بها بسبب عوائق طبيعية مثل الشلالات والجنادل (كتل صخرية ضخمة تبرز في منتصف النهر) أو العُمق الصغير في بعض المناطق بشكلٍ لا يسمح للسفن الضخمة بالسير فيها.
لهذا اعتبر شراقي أن المشروع يهدف إلى الاستفادة القصوى من مجرى النيل كممر تجاري عبر تطهير أغلب ممراته حتى تكون صالحة للملاحة، على أن يجري إنشاء بدائل في المناطق التي تشهد عوائق طبيعية يستحيل التغلب عليها كالشلالات مثلاً، عبر تدشين خطوط سكك حديدية وطرق برية تنقل البضائع إلى أقرب منطقة،تعود فيها حركة الملاحة النيلية للتحسن.
ومن المتوقع أن يزيد طول هذا الممر التجاري عن 6 آلاف كيلومتر، وسيُحقق استفادة مباشرة لدول بوروندي، الكونغو، ومصر، وكينيا، ورواندا، وجنوب السودان، والسودان، وتنزانيا، وأوغندا.
وفيما لم يستبعد شراقي وجود دول أخرى ستستفيد بشكلٍ غير مباشر من هذه الخطط حال إتمامها، منها إثيوبيا وتشاد اللتان لا تُطلّان على مسار هذا المشروع، لكنه سيعود بفوائد عليهما عبر ربط طُرقهما الداخلية بشبكة الطرق المزمع إنشاؤها تحت مظلة المشروع بشكلٍ يسهّل حركة التجارة بينها وبين باقي دول حوض النيل وأفريقيا بأسرها.
وهذه المزايا المشتركة والمتبادلة بين الدول تمنح المشروع أهمية كبيرة ترجمتها موافقة كثيرٍ من الدول الأفريقية على الدخول به، بما فيه إثيوبيا رغم علاقتها المتوترة بمصر، لأنه يقدّم "مزايا حقيقية" لهذه الدول بدلاً من المشروعات القديمة مثل قناة جونجلي في جنوب السودان التي تستفيد مصر منها أكثر بكثير من جنوب السودان.
11 مليار دولار التكلفة المبدئية لتنفيذ المشروع، رقم رغم ضخامته فإنه لن يمثل مشكلة كبرى بعد إعلان الولايات المتحدة في وقتٍ سابق استعدادها تمويل جزء من المشروع، ومثلها فعل الاتحاد الأوروبي، مع وجود فرصة للاستعانة بمؤسسات دولية كبرى مثل البنك الدولي، تهتمُّ بتمويل مثل هذه النوعية من المشاريع.
98 بالمئة.. السيسي يؤكد أهمية النيل للمصريين ويتجنب ذكر "إثيوبيا"
أكد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الأحد، أن بلاده تضع المياه على رأس أولوياتها، معتبرا نهر النيل تحديدا قضية ترتبط بحياة الشعب المصري وبقائه، كونه يشكل المصدر الرئيسي للمياه في مصر بنسبة تتجاوز 98%.
رحلة المشروع
وقال روني بيرندستون أستاذ الموارد المائية، نائب مدير مركز الدراسات المتقدمة للشرق الأوسط لـ"الحرة"، إن فكرة هذا المشروع طُرحت للمرة الأولى خلال اجتماع الاتحاد الأفريقي 2013 في أديس أبابا، سعيًا لبناء نظام نقل متعدد الوسائط بين دول النيل، بما يسهم في تحقيق التكامل الاجتماعي والاقتصادي ويرفع معدلات التنمية الاقتصادية ويربطها أكثر ما يكون بالنظام الاقتصادي العالمي.
وانتهت هذه القمة بمنح القاهرة تفويضًا بالمُضي قُدمًا في بحث تنفيذ هذه الخطط الطموحة، إلا أنها تعرضت لتعثّر سريع بعد قرار الاتحاد الأفريقي بتجميد عضوية مصر بالعام نفسه، إثر عزل الرئيس الراحل محمد مرسي بعد خروج مئات الآلاف من المتظاهرين ضده في 30 يونيو، الأمر الذي اعتبره الاتحاد الأفريقي "تغييرا غير دستوري في السلطة" فعلّق مشاركة مصر بجميع أنشطة الاتحاد، وهو قرار تراجع عنه لاحقًا بعد 11 شهرًا فقط.
وفور عودتها أعادت مصر الاهتمام لهذا المشروع حتى أنها موّلت ما يُعرف بـ"دراسات ما قبل الجدوى" بـ500 ألف دولار، كما أنشأت إدارة خاصة لمتابعة تنفيذه بالتنسيق مع "الكوميسا"، وهي منظمة دولية لتعزيز التجارة في شرق وجنوب أفريقيا.
وفي 2015 زادت المساعي المصرية لإقناع الدول الأفريقية بأهمية المشروع، فبعدما استضافت ورشة عمل لعرض هذه الدراسات على بعض وزراء الدولة الأفريقية المشاركة في المشروع، بدأت في إرسال وفود من وزارة النقل إلى الدول الأفريقية، لإطلاعها على نتائج الدراسات لإثبات مدى أهميته وفائدته لها.
وفي العام التالي بدأت وزارة الري في تنفيذ المرحلة الأولى من دراسات الجدوى للمشروع، وفق منحة تبلغ 650 ألف دولار قدّمها البنك الأفريقي للتنمية.
السنة نفسها شهدت إعلان مستشار وزير النقل أن هذا المشروع يحظى باهتمام كبير من "القيادة السياسية"، وبنهاية 2017 الرئيس السيسي بدعمه الكبير لهذه الخطط، أمر الرئيس المصري بعدها بعام.
لماذا تفعل مصر ذلك؟
"مصر هي أكثر الدولة استفادة من هذا المشروع على جميع الأصعدة"، هكذا بدأت دكتورة إيمان الشعراوي، الباحثة في الشأن الأفريقي حديثها لموقع "الحرة".
حال تنفيذ هذا المشروع بنجاح سيكون شريانا لتدفق حركة التجارة والسياحة من منتصف أفريقيا للخارج، وهو ما سيُحوّل مصر لـ"حلقة ربط" بين أفريقيا وأوروبا بشكلٍ يُعزز مكانتها في القارة السمراء.
وبحسب الشعراوي فإن خطط المشروع ستخفف حجم الكميات المفقودة من مياه نهر النيل لأن عمليات رفع جودة المجاري المائية ستقضي على المستنقعات والبحيرات الصغيرة، التي تهدر كميات كبيرة من المياه، وهو أمر ينعكس إيجابًا على مصر.
وبعدما أعلنت إثيوبيا رغبتها في إعادة التفاوض بشأن توزيع حصص مياه النيل، في دعوة لقيت تأييدًا من أغلب الدول الأفريقية أدركت مصر مدى أهمية مواقف تلك الدول وضرورة العمل على اجتذابها، "هذا المشروع يخلق نوعًا من (موازنة القوى) مع إثيوبيا ويمنعها من التوغل أكثر في القارة السمراء على حساب مصر"، تقول الشعراوي.
وقبل أيامٍ تعرضت مصر لضربة سياسية كبيرة بعدما صادقت دولة جنوب السودان بشكلٍ مفاجئ على اتفاقية عنتيبي المعنية بإلغاء نظام الحصص المائية، الذي كفل لمصر والسودان 55.5 مليار متر مكعب سنويًا من الماء.
وفور الإعلان عن هذه الاتفاقية اتخذت مصر منها موقفًا معارضًا لأي مساس بحصتها المائية، وحتى أيامٍ مضت لم تدخل الاتفاقية حيّز التنفيذ بعدما اقتصرت الدول الموقعة عليها على 5 فقط، هي: إثيوبيا، رواندا، تنزانيا، أوغندا، بوروندي، في انتظار توقيع دولة إضافية لتصل الاتفاقية إلى النصاب القانوني اللازم لإقرارها.
توقيع جنوب السودان الأخير فعّل الاتفاق وسيمثّل البداية لتدشين مفوضية حوض نهر النيل التي ستكون معنية بإدارة المياه وإعادة توزيعها وفقًا لمعايير جديدة لا تخضع لنظام الحصص القديم.
وتقول إيمان "لو امتلكت مصر قوة تصويتية كبيرة في هذه المفوضية فإن إثيوبيا لن تستطيع المساس بحصة مصر المائية".
بجانب ذلك فإن نجاح هذا المشروع على المدى الطويل في خلق منافع اقتصادية حقيقية لدول القارة سيمنح مصر أدوات قوية للضغط على إثيوبيا في ملف النيل، بعدما سيجعلها في احتياج إلى مصر حتى تسمح للدولة الحبيسة بتصدير منتجاتها إلى العالم عبر أراضيها، وهو موقف تستطيع القاهرة اعتماده ورقة للضغط على أديس أبابا حال استمرت على مواقفها الداعية لخفض حصة مصر المائية.
من ناحيته توقّع بيرندستون أن الآثار الاقتصادية الجيدة لهذا المشروع ستلعب دورًا في زيادة التعاون التجاري بين مصر وإثيوبيا، ومن ثم تؤدي لتحسين العلاقات معها، بشكلٍ قد يؤدي لحل المشكلات العالقة معها ويخفّف حجم العداء بين البلدين.
"هذه الخطط قد تفيد مصر في تنفيذ بعض المشروعات المعطلة في أفريقيا بسبب حساسيات سياسية مثلما جرى معنا في جنوب السودان"، كشف شراقي بُعدًا إضافيًا لفوائد المشروع لمصر.
منذ أعوامٍ طويلة تبنّت مصر تدشين قناة "جونجلي" بطول 360 كم على النيل الأبيض بهدف توفير 10 مليارات متر مكعب من المياه سنويًا، إلا أن ذلك المشروع توقف رغم إتمام 260 كم منه بسبب رفض دولة جنوب السودان إتمامه طيلة السنوات الفائتة.
"لو انتهينا من هذه القناة ضمن هذا المشروع سيكون إنجازًا كبيرًا لمصر بشكلٍ غير مباشر، وفي هذا الحال سيكون تحت غطاء دولي وليس فقط بسبب رغبة القاهرة في إتمامه والانتفاع به وحدها، قد تكون هذه أحد الأسباب غير المعلنة للمشروع"، قال شراقي.
ورغم الحماس الرسمي الكبير لتنفيذ المشروع فإن ليس من المنتظر أن نشهد إطلاقه قريبًا؛ فالمرحلة التالية من دراسات الجدوى لن تنتهي قبل 5 سنوات على الأقل، بعدها يمكن الشروع في تنفيذ هذه الخطط على أرض الواقع لمدة لا يُمكن تحديدها لأنها تخضع لعوامل كثيرة، حسبما ذكرت إيمان الشعراوي.