"لا يوجد أمل في مستقبل أفضل.. لأن خططنا أصبحت مستحيلة"، هكذا لخص المهندس المعماري في إحدى أكبر الشركات العقارية في مصر، كريم أبو المجد، رؤيته للوضع الحالي في مصر بعد الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها البلاد حاليا.
ويتحدث أبو المجد لموقع "الحرة" عن استبداله لخططه المستقبلية مثل شراء سيارة حديثة ومنزل ملك له ولأبنائه بدلا من الإيجار، بالجلوس في المقاهي والكافيهات، قائلا: "بعد تعويم الجنيه والارتفاع الجنوني لأسعار كل شيء، أصبحت مدخراتي في البنك بلا قيمة، وكذلك مرتبي، ولا يوجد أي أمل في التحسن قريبا، لذلك قررت ألا أفكر كثيرا وأعيش اليوم بيومه وأقضي وقتي في المقاهي أو الكافيه".
وفي ظل ما تمر به مصر من تدهور اقتصادي والذي أثر بشكل مباشر على الاحتياجات الأساسية للطبقة الوسطى، إلا أن عددا من خبراء علم الاجتماع وعلم النفس رصدوا اتجاهات للإنفاق الاستهلاكي بشكل لا يتناسب مع طبيعة الدخل والأزمة.
وفي حديثهم لموقع "الحرة" ربط خبراء النفس والاجتماع الصحة العقلية بطريقة تعامل البشر مع المال، مؤكدين أن الأزمة الاقتصادية، التي حدثت بوتيرة سريعة في مصر، أثرت سلبا على السلامة النفسية والعقلية للمواطنين، وبالتالي طرق إنفاقهم.
عدم الأمان المادي يؤدى إلى الهوس في الإنفاق
وقال استشاري الطب النفسي، نبيل خيري، إنه إذا كان الشخص "يشعر بالإحباط أو الاكتئاب أو الخلل النفسي بسبب شعوره بعدم الأمان المادي، فقد يفتقر إلى الدافع لإدارة أمواله بشكل عملي وصحيح. وقد لا يبدو أن الأمر يستحق المحاولة".
وأضاف في حديثه لموقع "الحرة": "قد يمنحك الإنفاق إحساسا جيدا لفترة وجيزة، لذلك قد تبالغ في الإنفاق حتى تشعر بالتحسن. وقد تتخذ قرارات مالية متهورة عندما تعاني من هذا الهوس".
ويرى الطبيب النفسي أن الصحة العقلية تؤثر على قدرة الشخص على العمل أو الدراسة أو إيجاد بدائل وحلول، وبالتالي فقد يؤدي ذلك إلى تقليل الدخل بشكل أكبر.
وأوضح أن التأثير النفسي السلبي لعدم الشعور بالأمان المادي قد يدفع الشخص لتجنب الاطلاع على أمور متعلقة بأمواله، مثل فتح الفواتير أو التحقق من حسابك المصرفي، لأنه قد يحاول تجنب التفكير في المال تماماً، وهذا ينتهي الحال به في نهاية الأمر إلى السقوط في فخ الديون والإفلاس.
وأكد أن تواجد مشكلة في الصحة العقلية قد يؤثر على طريقة تفكير الأشخاص بشكل منضبط في الإنفاق والاستهلاك، لذلك ينتهي بهم الأمر إلى دفع المزيد من المال ليشعر بأي متع صغيرة، لكنه سيستيقظ في اليوم التالي وهو يشعر بمشاعر شديدة من الذنب والقلق والانزعاج.
وتعيش مصر أزمة اقتصادية تفاقمت، منذ العام الماضي، بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وسط نقص في احتياطي العملة الصعبة، وارتفاع التضخم، وفقدان الجنيه لأكثر من نصف قيمته مقابل الدولار خلال عام واحد.
ووصل معدل التضخم السنوي في مصر إلى 39.7 في المئة، خلال أغسطس الماضي، وفق ما أظهرت الأرقام الرسمية، الأحد، وهو مستوى قياسي فيما تعاني البلاد من أزمة اقتصادية خانقة.
وأفاد الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، بارتفاع سنوي بنسبة 71.9 بالمئة في أسعار المواد الغذائية، و15.2 بالمئة بالنسبة لأسعار النقل، و23.6 بالمئة لأسعار الملابس.
القلق المادي يؤدى إلى خلل اجتماعي
وتتحدث الموظفة في إحدى شركات التأمين، سالي راشد، لموقع "الحرة" عن طريقة معايشتها مع الأزمة الاقتصادية الحالية، قائلة: "لدي ثلاثة أبناء في مراحل تعليمية مختلفة، وبعد ارتفاع أسعار كل السلع والخدمات بشكل مبالغ فيه، ومنها مصروفات المدارس بالطبع، اضطررت لإخراجهم من مدرستهم ونقلهم لأخرى أقل في المصروفات وجودة التعليم".
وأضافت: "هكذا ببساطة في ظرف سنتين أو ثلاثة ضاعت أحلام ومستقبل أولادي، ولا يوجد أمل في مستقبل أفضل، ولذلك قررت أنا وزوجي أن نعوضهم قليلا بالخروج وبالسفر إلى المصايف".
وتابعت: "أعلم أن هذه ليست سوى مسكنات لا فائدة منها وليست حلا، لكن لا يمكن أن أحرمهم من جميع وسائل الترفيه في الحياة فجأة".
وقالت أستاذة علم الاجتماع بالجامعة الأميركية في القاهرة، نادية سعدالدين، لموقع "الحرة" إن مشاعر مثل القلق والحزن والغضب المرتبطة بعدم الأمان المادي والتحديات التي تنشأ عنه، يؤدي إلى خلل في السلوكيات والتصرفات الاجتماعية والتي قد تظهر بشكل عكسي في طرق الإنفاق.
وأضافت أن المجتمعات الصحية تعتمد على الطبقة المتوسطة في الادخار من أجل التطور التعليمي والاجتماعي، لكن مع فقدان الأمان الاجتماعي والمادي، ينقلب الأمر بصورة عكسية وتصبح هذه الطبقة أكثر ميلا للمبالغة في الإنفاق الاستهلاكي على الكماليات لتشعر بأنها مرئية، بدلا من الادخار من أجل ضمان مستقبل اجتماعي وتعليمي أفضل.
وتابعت أن الأزمة الاقتصادية في مصر بدأت بالفعل في تدمير الطبقة المتوسطة، والمعايير المنطقية في ترتيب الأولويات، وهذا يدمر الأسرة لأنه يؤثر سلبا على الأطفال أيضا.
وترى أستاذ الاجتماع أن مخاوف الآباء بشأن المستقبل وتوفير المال يصل بصورة مباشرة وسريعة للأطفال، ويزيد من عدم الثقة الأبناء في أن البالغين سينجحون في الواقع في حل المشكلة.
وتحدثت سعدالدين عن تجربتها مع طالبة مدرسة ثانوية تتلقى العلاج لديها، والتي قالت لها: "إن عائلتي لا تقول أي شيء حقً، لكن يمكنك أن تقرأ ذلك الخوف والقلق في وجوههم أو إذا لم يكن لديهم المال، فأنا أعلم على الفور. لا يتعلق الأمر حقا بما يقولونه، بل يتعلق فقط بالطريقة التي يتصرفون بها عندما ينفد المال لديهم وتسألهم: 'لماذا لم تذهب إلى المتجر؟' ولا يجيبون.. أو يحاولون فقط إيجاد طرق أخرى".
وتشير أستاذة الاجتماع إلى المشاكل المالية يمكن أن تؤثر على الحياة الاجتماعية والعلاقات البشرية، إذ قد يشعر الشخص بالوحدة أو العزلة، أو أنه لا تستطيع القيام بالأشياء التي تريدها، وبالتالي قد يرتد الأمر بشكل عكسي من خلال سعيه لحضور أي تجمعات ومناسبات اجتماعية بشكل مبالغ فيه وبالتالي المزيد من الإنفاق والاستهلاك غير المحسوب.
الحقد الطبقي نتيجة للفجوة المتزايدة بين الطبقات الاجتماعية
ويتحدث الموظف بإحدى شركات الدعاية والإعلان، أحمد علي، لموقع "الحرة" عن تجربته مع الزواج، قائلا إنه يحضر لزواجه من حبيبته منذ أن كان شابا في الجامعة وكان يعمل خلال دراسته لتحقيق هذا الحلم سريعا، لكن بعد الارتفاع المفاجئ في أسعار جميع مستلزمات الزواج أصبح هذا الحلم بعيد المنال.
وأضاف أنه فسخ خطبته، وحاليا لا يفعل شيئا سوى الذهاب للعمل بدون أمل، ثم التجمع مع أصدقائه على أحد المقاهي أو الكافيهات، وحضور المناسبات الاجتماعية والسفريات.
وذكر أنه إذا تابع أحد حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي، قد يشعر بأنه ليس لديه أي مشاكل مادية أو اجتماعية، لكن الحقيقة عكس ذلك، لأنه "يهرب من واقعه" ليس إلا.
وقال أستاذ علم الاجتماع، سليم محمد سلام، لموقع "الحرة" إن ما عانته الطبقة المتوسطة خلال الفترة الأخيرة من أزمات اقتصادية أثرت فيها، دفعها إما إلى الهبوط إلى طبقة أقل على نحو غير متسارع، أو التمسك بطبقة أعلى ولو حتى بشكل ظاهري.
وأضاف أن بعض أفراد الطبقة المتوسطة تحاول التمسك بطبقة عليا، وإن لم تستطع فستنتقد وتهاجم سلوكيات الطبقة التي تعلوها بجميع تفاصيلها، مثلما نرى سنويا في أزمة المصايف وما يعرف بـ"الساحل الطيب والشرير"، لكن ذلك الانتقاد لن يستمر في حال وصلت تلك الطبقة المتوسطة إلى الطبقات المرتفعة.
ويحذر أستاذ علم الاجتماع أن ذلك الأمر سيكون له تأثير كبير "يتمثل في عنف مجتمعي وانهيار اجتماعي وأخلاقي كما نرى الآن".
وأشار سلام إلى أن مفهوم "الكمباوند" اتسع في مصر ليشمل الشواطئ والأندية وبعض الأماكن التي كانت متنزهات لكثير من الأسر، وتفاقم الأمر ليصل إلى مجالات التعليم والسكن والأندية والمطاعم والملابس.
واعتبر أن المجتمع المصري بات منقسماً بشكل ملحوظ "لكن ستجد أسراً من الطبقة المتوسطة تحاول اللحاق بهذه المظاهر، ولو من خلال العمل طوال اليوم وتجاهل أطفالهم وكذلك مبادئهم".
وأوضح سلام أن تلك الفجوة سيكون لها تأثير خطير في المستقبل ودلالاتها تظهر من خلال الأحاديث على مواقع التواصل الاجتماعي من هجوم وسخرية متبادلة ما بين الطبقات المختلفة، وهذا سيكون له تأثير سلبي كبير على المجتمع وتفككه، لأن الأمر يتحول إلى حقد طبقي.