للأسبوع الثاني على التوالي تتخذ مصر إجراءات للحد من كبح جماح التضخم، الذي وصل لمستويات غير مسبوقة في البلاد التي تعاني من أزمة اقتصادية، ويكشف مسؤولون ومختصون تحدث معهم موقع "الحرة"، عن أسباب تلك الخطوات المتتالية، وعلاقتها بـ"تخفيض مرتقب لسعر صرف الجنيه".
والأربعاء، أعلنت الرئاسة المصرية توجيه الحكومة لإصدار "حزمة اجتماعية عاجلة لتخفيف الأعباء المعيشية على المواطنين"، وذلك للمرة الثانية خلال أقل من 6 أشهر، وبعد أيام قليلة من رفع البنك المركزي المصري أسعار الفائدة 200 نقطة أساس لمواجهة التضخم.
والخميس الماضي، رفع المركزي المصري سعر الفائدة على الإقراض لليلة واحدة إلى 22.25 في المئة من 20.25 في المئة، كما رفع الفائدة على الإيداع لليلة واحدة إلى 21.25 في المئة من 19.25 في المئة، حسبما ذكر في "بيان".
وفي سبتمبر 2023، وجه الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، بزيادة علاوة "غلاء المعيشة الاستثنائية"، لكل العاملين بالجهاز الإداري للدولة، والهيئات الاقتصادية، وشركات قطاع الأعمال والقطاع العام، لتصبح 600 جنيه، بدلا من 300 جنيه.
ما وراء "توجيهات السيسي"؟
وفي تصريحات لموقع "الحرة"، يكشف رئيس لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب المصري، فخري الفقي، أن توجيهات السيسي جاءت لمواجهة "ارتفاع معدلات التضخم، ومواجهة ارتفاع الأسعار، وتمهيدا لتحريك متوقع لسعر صرف الجنيه".
وتهدف إجراءات الدولة المتعاقبة لـ"تخفيف الأعباء المعيشية على المواطنين في مواجهة الغلاء، وضمان انخفاض معدلات التضخم المرتفعة"، وفق الفقي.
وذكر "الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء" أن التضخم السنوي في المدن المصرية انخفض إلى 33.7 في المئة بشهر ديسمبر من 34.6 في المئة في نوفمبر ومن مستوى قياسي عند 38 في المئة في سبتمبر الماضي.
ويوضح الفقي أن "مرونة سعر صرف الجنيه مطلوبة، ووجود سعرين لصرف العملة المحلية قد يعوق الاستثمار والتحويلات وحصيلة السياحة"، في إشارة لتفاوت الأسعار بين السوق الرسمية والموازية.
وتسعى الدولة المصرية لتوحيد سعر الصرف، وذلك بتحريك سعر صرف العملة المحلية وتحقيق المرونة، ولكن لا يمكن القيام بذلك، دون وجود "حصيلة دولارية كافية"، حسبما يؤكد رئيس لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب المصري.
ويشير الفقي إلى أنه "عند وجود حصيلة دولارية كافية، فسعر صرف الدولار بالسوق السوداء سوف ينخفض".
وفي مصر، يبلغ سعر الدولار نحو 30.85 جنيها بالبنوك والسوق الرسمية، ووصل إلى نحو 71 جنيها في السوق الموازية "السوداء"، قبل أن ينخفض إلى 60 جنيها خلال الأيام الماضية.
ويؤكد الفقي أنه "لا يمكن تحقيق المرونة دون وجود ضمانات اجتماعية تحمي الطبقات الاجتماعية الأكثر احتياجا".
ويظهر مؤشر "هانك" للتضخم، الذي يعده بروفيسور الاقتصاد التطبيقي في جامعة جون هوبكنز، ستيف هانك، أن التضخم ارتفع لأكثر من 131 في المئة في مصر.
#HankeInflationDashboard:
— Steve Hanke (@steve_hanke) February 7, 2024
This week's top five inflaters:
1.🇿🇼Zimbabwe (1347%/yr)
2.🇦🇷Argentina (241%/yr)
T-3.🇸🇩Sudan (131%/yr)
T-3.🇪🇬Egypt (131%/yr)
5.🇸🇾Syria (122%/yr) pic.twitter.com/EjT4oOtv8W
ويقيس المؤشر التضخم على أساس تعادل القوة الشرائية واحتساب أسعار الصرف في السوق السوداء.
كبح جماح "التضخم"
ويرى المحلل الاقتصادي، وائل النحاس، أن حزمة الدعم الاجتماعية الجديدة ستؤثر بشكل كبير في "الحالة المزاجية للمواطنين، وتخفف عنهم الضغط الذي تفاقم مع ارتفاع الأسعار لمستويات غير مسبوقة"، مشير إلى أن السلع زادت منذ بداية العام "بنسب تتراوح بين 30 إلى 50 في المئة".
ويوضح في حديث لموقع "الحرة" أن هذه الحزمة ستطال أكثر من 23 مليون شخص في مصر وهم "نحو 5 ملايين من العاملين في المؤسسات الرسمية والهيئات الاقتصادية، و5 ملايين من الذين يستفيدون من برنامج تكافل وكرامة، و13 مليونا من أصحاب معاشات التقاعد".
ويشرح أن هذه "الحزمة ستمتص الزيادة التي طالت الأسعار خاصة للسلع والخدمات الأساسية، من خلال الزيادات في الرواتب للموظفين أو حتى بالدعم المقدم للطبقات الأكثر تضررا".
ويقول النحاس إن هذه الحزمة، قد لا تعالج "الخلل الهيكلي الذي طال أسعار صرف الدولار خاصة بالتباين الهائل بين السعر الرسمي والسعر في السوق الموازية، إلا أنه سيمكن خاصة ذوي الدخل المحدود والمتدني من تجاوز أزمة التضخم".
ويؤكد أن الحزمة تتسق تماما مع متطلبات صندوق النقد الدولي الذي أكد على ضرورة وجود شبكة ضمان اجتماعي لحماية الطبقات محدودة الدخل.
ومؤخرا، شدد وفد صندوق النقد الدولي على "الأهمية الحاسمة لتعزيز الإنفاق الاجتماعي لحماية الفئات الضعيفة" و"ضمان ظروف معيشية مناسبة للأسر ذات الدخل المنخفض والمتوسط" في مصر.
ومن جانبه، يقول الخبير الاقتصادي المصري، علي الإدريسي، إن الحزمة "ستعزز من تلبية متطلبات صندوق النقد الدولي الذي أكد على ضرورة الحماية الاجتماعية"، ولكنها ليست بالضرورة تعني "أن التعويم قادم لا محالة".
ويضيف لموقع "الحرة" أن التوقيت "مناسب جدا لإطلاق هذه الحزمة قبل قدوم شهر رمضان، وبما سيساهم من تخفيف أثر التضخم على المواطنين من ذوي الدخل المحدود.. والتي ستشمل شريحة كبيرة من الأسر المصرية".
تفاصيل الحزمة الاجتماعية
الحزمة العاجلة التي وجه بها السيسي، بقيمة 180 مليار جنيه (حوالي 5.8 مليار دولار)، تتضمن:
- رفع الحد الأدنى للأجور 50 في المئة إلى ستة آلاف جنيه (194 دولارا) اعتبارا من مارس المقبل.
- زيادة أجور الأطباء والأساتذة والممرضين في القطاع العام.
- زيادة دخول العاملين بالدولة والهيئات الاقتصادية بدءا من مارس بحد أدنى يتراوح بين 1000 جنيه (33 دولارا) إلى 1200 جنيه، بالإضافة الى رفع الحد الأدنى للأجور بنسبة 50 في المئة.
- رفع حد الإعفاء الضريبي لكافة العاملين بالحكومة والقطاعين العام والخاص بنسبة 33 في المئة من 45 إلى 60 ألف جنيه.
- وضع مخصصات لتعيين 120 ألفا من أعضاء المهن الطبية والمعلمين والعاملين بالجهات الإدارية الأخرى.
- زيادة معاشات "تكافل وكرامة"، وزيادات في المعاشات لـ13 مليون مواطن.
وفي مواجهة أزمة اقتصادية غير مسبوقة تعاني منها مصر، اتخذت الجهات المختصة عدة إجراءات لكبح جماح الأزمة، لكن تلك الخطوات لم تنعكس حتى الآن على المواطنين الذين مازالوا يعانون من ارتفاع أسعار السلع والخدمات، حسب تقرير سابق لموقع "الحرة".
ويظهر تقرير حديث للبنك الدولي تزايد انعدام الأمن الغذائي حول العالم، حيث زاد تضخم أسعار الغذاء في مصر بنسبة 35 في المئة منذ بداية 2023 مقارنة مع العام الذي سبقه، وهو الرقم الأعلى بين الزيادات التي شهدتها دول أخرى.
وتعاني مصر واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في تاريخها بعدما سجل معدل التضخم السنوي مستوى قياسيا يبلغ حاليا 35.2 في المئة مدفوعا بتراجع قيمة العملة المحلية ونقص العملة الأجنبية في ظل استيراد القسم الأكبر من الغذاء، بحسب وكالة "فرانس برس".
خطوة تسبق "تحريك سعر الصرف"؟
وسيتم تحريك سعر الصرف وتحقيق المرونة "قريبا جدا"، وسيكون السعر "التوازني" بما يعادل 45 جنيها للدولار الواحد، وفق ما يكشفه الفقي.
ويشير رئيس لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب المصري إلى أنه "على المدى الطويل وبعد استقرار سعر الصرف، فالقيمة العادلة للجنيه أمام الدولار سوف تتراوح بين 35 إلى 40 جنيها، وقد يكون ذلك خلال عام 2025".
ومن جانبه، يرجح النحاس اتخاذ خطوات أخرى تعزز "السيطرة على أسعار الصرف ما قد يهيئ الظروف من أجل اتخاذ قرار تعويم للجنيه".
ويرى أن "فترة منتصف مارس قد تكون مناسبة جدا إذا ما أرادت السلطات اتخاذ قرار التعويم، حيث سيظهر أثر إجراءات الحكومة والبنك المركزي بالحد من التضخم، ودفع أسعار الصرف لمستويات مقبولة".
أما الإدريسي فيشير إلى أنه "منذ منتصف العام 2023 يجري الحديث عن التعويم، ولكن الإجراءات الأخيرة لا يمكن الجزم بأنها تسبق التعويم، ولكنها تنطوي على ممارسات لكبح التضخم ومساعدة الأسر على تجاوز صدماته"، خاصة في ظل "وجود سعرين للصرف بما يحدث خللا في تسعير السلع والخدمات".
ويعول الإدريسي على إجراءات حكومية أخرى ستساعد الاقتصاد المصري بشكل أكبر، أكان من خلال قرض صندوق النقد الدولي أو بمشروع رأس الحكمة بما سيوفر موارد دولارية هامة للاقتصاد.
واعتمدت مصر لسنوات طويلة على التمويل الممنوح من صندوق النقد الدولي عبر القروض أو على ودائع الحلفاء الخليجيين، وفقا لوكالة "فرانس برس".
وتعتبر مصر من إحدى أكثر الدول التي تلقت أكبر قدر من التحويلات المالية الخارجية خلال العام 2023، حيث تلقت 24 مليار دولار بحسب بيانات البنك الدولي.
ويتردد مصريون بالخارج في إرسال مدخراتهم المالية إلى بلادهم عندما يكون سعر العملة منخفضا بفارق كبير عن قيمتها في السوق السوداء وذلك مع استشراء التضخم.
وهوت تحويلات العاملين بالخارج بما قيمته 9.85 مليار دولار في السنة المالية التي انتهت في 30 يونيو، ثم انخفضت 1.93 مليار دولار أخرى في الفترة من يوليو إلى سبتمبر، وفقا لأرقام البنك المركزي.
وتراجعت صادرات الغاز الطبيعي ملياري دولار على أساس سنوي في الفترة من يوليو إلى سبتمبر، وفقا لبيانات البنك المركزي وذلك نتيجة انخفاض الإنتاج المحلي وانخفاض الأسعار العالمية.
وبلغت قيمة صادرات مصر من الغاز الطبيعي في السنة المالية 2022-2023 زهاء 7.20 مليار دولار.
وتباطأت، بسبب الحرب الإسرائيلية في غزة، السياحة التي حققت رقما قياسيا بلغ 13.63 مليار دولار في السنة المالية 2022-2023.
ودفع نقص العملة الصعبة في البلاد بنك "جي بي مورغان" في وقت سابق من الشهر الحالي إلى استبعاد مصر من بعض مؤشراته.
كما خفضت وكالة "موديز" للتصنيف الائتماني النظرة المستقبلية لمصر من "مستقرة" إلى "سلبية"، مشيرة إلى مخاوف بشأن التمويل الخارجي والفارق بين سعر الصرف الرسمي وفي السوق الموازي.
والخميس الماضي، قال صندوق النقد الدولي، إنه اتفق مع مصر على مكونات السياسة الرئيسية لبرنامج الإصلاح الاقتصادي، في علامة أخرى على أن الاتفاق النهائي لزيادة قرض بقيمة ثلاثة مليارات دولار يقترب من الاكتمال.
وتعاني مصر من أزمة اقتصادية ونقص مزمن في العملة الأجنبية، وأجرت محادثات مع الصندوق على مدى الأسبوعين الماضيين لإحياء وتوسيع اتفاقية القرض الموقعة في ديسمبر 2022.
وتتضمن الاتفاقية تعهدات بأن تنتقل مصر إلى نظام سعر صرف مرن وتقلص تواجد الدولة في الاقتصاد مع تشجيع القطاع الخاص.
والاثنين، قال البنك المركزي المصري، إن صافي احتياطي البلاد من العملة الأجنبية ارتفاع بشكل طفيف إلى 35.25 مليار دولار في يناير من 35.22 مليار دولار في ديسمبر.
وتضاعفت ديون مصر الخارجية أكثر من ثلاث مرات في العقد الأخير لتصل إلى 165 مليار دولار، وفقا للأرقام الرسمية، بينها أكثر من 42 مليار دولار مستحقة هذا العام.