جانب من العاصمة الإدارية الجديدة شرق القاهرة- صورة أرشيفية.
جانب من العاصمة الإدارية الجديدة شرق القاهرة- صورة أرشيفية.

في بيان وصفه البعض بـ"الغامض"، أعلنت الحكومة المصرية، عن الموافقة على "أكبر صفقة استثمار مباشر بالشراكة مع كيانات كبرى"، ما أثار التساؤلات حول تفاصيل تلك الصفقة، وماهية تلك الكيانات، وهو ما يرسم ملامحه الأولية مسؤولون ومختصون تحدث معهم موقع "الحرة".

صفقة ضخمة وكيانات "كبرى"

وفي بيان رسمي الخميس، أعلن مجلس الوزراء المصري، الموافقة على "أكبر صفقة استثمار مباشر" من خلال شراكة استثمارية مع "كيانات كبرى".

في اجتماع برئاسة مدبولي: مجلس الوزراء يوافق على أكبر صفقة استثمار مباشر بشراكة استثمارية مع كيانات كبرى وافق مجلس...

Posted by ‎رئاسة مجلس الوزراء المصري‎ on Thursday, February 22, 2024

وتأتي الصفقة في ضوء جهود الدولة حاليا لجذب الاستثمار الأجنبي المباشر، وزيادة موارد الدولة من النقد الأجنبي، وفق ما ذكره "بيان مجلس الوزراء".

وقال رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، إن الصفقة تحقق "مستهدفات الدولة في التنمية، والتي حددها المُخطط الاستراتيجي القومي للتنمية العمرانية"، مشيرا إلى أن هذه الصفقة "بداية لعدة صفقات استثمارية، تعمل الحكومة عليها حالياً، لزيادة موارد الدولة من العملة الصعبة".

وأوضح رئيس الوزراء المصري أنه سيتم إعلان تفاصيل هذه الصفقة كاملة، مع توقيع الاتفاقيات الخاصة بها، مشيرا إلى أن نجاح الحكومة في جذب استثمارات أجنبية ضخمة، يؤكد ثقة الكيانات الاستثمارية الكبرى في الاقتصاد المصري، وقدرته على تخطي التحديات، بحسب البيان. 

والمشروعات التي تنتج عن هذه الصفقة ستوفر مئات الآلاف من فرص العمل، وستسهم في إحداث انتعاشة اقتصادية وكذا مشاركة مختلف الشركات والمصانع المصرية في المشروعات المُنفذة، ومزايا متعددة للدولة المصرية، حسبما ذكر مدبولي.

ملامح أولية للصفقة "الغامضة"

لم يحدد البيان الحكومي المصري "هوية الكيانات الكبرى"، ولم يذكر تفاصيل "الصفقة"، ولا مكان "المشروعات الناتجة عن الصفقة"، أو موعد انطلاق تلك المشروعات.

وفي تصريحات لموقع "الحرة"، يشير المتحدث باسم مجلس الوزراء المصري، المستشار محمد الحمصاني، إلى أنه سيتم عقد مؤتمر صحفي اليوم الجمعة، للإعلان عن "الصفقة الكبرى"، والتي تمثل "شراكة بين الحكومة وكيانات اقتصادية كبرى".

والغرض من الصفقة "إنشاء مخطط عمراني كبير"، ما يدر" موارد من النقد الأجنبي، ويساعد الحكومة على تجاوز التحديات الراهنة، وتوفير فرص العمل"، وفق المستشار الحمصاني.

ويوضح المتحدث باسم الحكومة المصرية أن "المصانع والشركات المصرية سوف تساهم في تنفيذ الصفقة"، لكنه رفض الإفصاح عن المزيد من التفصيل.

ومن جانبه يكشف رئيس لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب المصري، فخري الفقي، لموقع "الحرة"، بعض الملامح الأولية "الصفقة الكبرى".

وستتم مراسم توقيع الشراكة الاستثمارية مع التحالف المستثمر، الساعة الثانية ظهر اليوم الجمعة، "من قلب العاصمة الإدارية الجديدة"، وفق حديثه.

وسيعقب مراسم التوقيع "الإعلان رسميا عن جميع ملامح الصفقة الكبرى، وقيمة مبلغ الاستثمار"، حسبما يوضح الفقي.

ويشير رئيس لجنة الخطة والموازنة إلى أن "الصفقة سيترتب عليها، مشروعات تنمية عمرانية كبرى في مجالات السياحة والزراعة والصناعة، في تلك (المنطقة)".

 لكن الفقي رفض الإفصاح خلال حديثه عن "ماهية المنطقة الذي تحدث عنها".

من جانبه، يشير الخبير الاقتصادي، عبدالنبي عبدالمطلب، إلى أن "ملامح البيان الحكومي غامضة"، ما يجعل "تفصيل الصفقة وموقع تدشين المشروعات المرتبطة بها "مجهولة وغير معروفة".

وبيان مجلس الوزراء الصادر الخميس، لم يقدم جميع المعلومات والمعطيات التي يمكن من خلالها معرفة تفصيل أو عوائد الصفقة المرتقبة، وفق حديثه لموقع "الحرة".

رأس الحكمة؟

قفزت أسعار الأسهم في البورصة المصرية خلال الأسابيع القليلة الماضية بعد تقارير إعلامية أفادت بأن رجال أعمال إماراتيين يشاركون في مشروع بقيمة 22 مليار دولار لتطوير أرض بكر إلى حد كبير في "شبه جزيرة رأس الحكمة"، على بعد 200 كيلومتر إلى الغرب من الإسكندرية.

ويجري تحالف إماراتي محادثات من أجل "صفقة رأس الحكمة"، بقيمة 22 مليار دولار للاستحواذ على أرض "رأس الحكمة" بالساحل الشمالي لمصر، بحسب وكالة "بلومبرغ".

وعن ارتباط الصفقة المرتقبة، بمشروع رأس الحكمة، يقول رئيس لجنة الخطة والموازنة بالبرلمان:" كان هناك حديث عن تحالف إماراتي ومن كيانات أخرى في رأس الحكمة، لكن الصفقة الحالية لن تكون الوحيدة مع (كيانات عالمية) وسيعقبها صفقات أخرى أكبر بكثير".

لكن الفقي رفض "الإفصاح" عن مدى ارتباط الصفقة بمشروع رأس الحكمة، وكذلك رفض المتحدث باسم مجلس الوزراء الذي اكتفي بالقول:" سوف نعلن عن جميع التفاصيل اليوم".

ومن جانبه، يعتقد الباحث بالاقتصاد السياسي، أبو بكر الديب، أن "مشروع رأس الحكمة سيكون جزءًا من الصفقة الكبرى".

وفي حديثه لموقع "الحرة"، يشير إلى أن المشروعات الاستثمارية المنتظر طرحها في رأس الحكمة، وتنقسم إلى مجتمعات عمرانية وصناعية وغير ذلك.

لكن على جانب أخر، يستبعد عبدالمطلب ارتباط الصفقة المرتقبة بـ"مشروع رأس الحكمة"، نظرا لاشتمال المشروعات المرتبطة بالصفقة على "جوانب زراعية".

ورأس الحكمة منطقة "صحراوية" ولا يوجد بها مصادر المياه ولا التربة أو المناخ المناسب لتدشين "مشروعات زراعية"، وفق الخبير الاقتصادي المصري.

بيع "أصول الدولة"؟

بعدما اعتمدت لسنوات على دعم من دول الخليج بشكل ودائع في البنك المركزي، تحاول القاهرة بيع أصول للدولة أو إطلاق مشاريع على أراضيها للمستثمرين الخليجيين الذين باتوا يقولون إنهم يريدون "عوائد على الاستثمار"، وفق وكالة "فرانس برس".

ومؤخرا، باعت الحكومة المصرية فندق "مينا هاوس" التاريخي، وستة فنادق تاريخية أخرى وهي "سوفيتيل وينتر بالاس في الأقصر، والشلال القديم في أسوان، وشتيجنبرجر سيسيل على ساحل الإسكندرية"، حسب تقرير لصحيفة "الغارديان" البريطانية.

واحتفل رئيس الوزراء المصري،  بالبيع بقيمة 800 مليون دولار، وأشاد بعملية الاستحواذ لجلبها العملة الأجنبية.

وتضاعفت ديون مصر الخارجية أكثر من ثلاث مرات في العقد الأخير لتصل إلى 164.7 مليار دولار، وفقا للأرقام الرسمية، بينها أكثر من 42 مليار دولار مستحقة هذا العام.

ويرى الديب أن "الصفقة المرتقبة" سوف تشمل بيع "أصول للدولة وفنادق تاريخية ومباني حكومية".

وشهدنا خلال الأيام الماضية، تخصيص مباني حكومية في القاهرة للصندوق السيادي تمهيدا لطرحها للاستثمار، وجميعها مباني وقصور "تاريخية" مرتفعة الثمن، ويمكن أن تكون تلك المشروعات ضمن "الصفقة الكبرى"، وفق الباحث بالاقتصاد السياسي.

ويشدد على أن الحكومة تمهد لطرح أصول شركات حكومية لـ"مستثمرين استرايجيين"، فضلا عن برنامج "الطروحات الحكومية".

من المستفيد؟

تعاني مصر واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في تاريخها بعدما سجل معدل التضخم السنوي مستوى قياسيا يبلغ حاليا 35.2 في المئة مدفوعا بتراجع قيمة العملة المحلية ونقص العملة الأجنبية في ظل استيراد القسم الأكبر من الغذاء.

يشدد الفقي على أن هناك ثلاثة أطراف سوف تستفيد من "الصفقة المرتقبة" والتي ستكون بشراكة بينهم وهم "الحكومة المصرية، والتحالف (العالمي)، والقطاع الخاص في مصر".

ويرى أن "الصفقة المرتقبة وما يتبعها من مشروعات، سوف تعزز معدلات النمو بالناتج المحلي للبلاد، وستضمن زيادة الإنتاج في عدة مجالات، وستوفر مئات الآلاف من الوظائف للمصريين على مدار سنوات".

وسوف يتيح المشروع للقطاع الخاص "المشاركة في تعزيز النمو، حاليا ومستقبلا"، نظرا لمشاركته في "الشراكة الاستثمارية التي تضم أيضا التحالف الدولي "قطاع خاص وليس حكومي) والحكومة المصرية"، وفق ما يكشفه رئيس مجلس النواب.

مصر تعاني واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في تاريخها
رغم "رفع الفائدة وتراجع الدولار".. لماذا لم تنخفض الأسعار في مصر؟
في مواجهة أزمة اقتصادية غير مسبوقة تعاني منها مصر، اتخذت الجهات المختصة عدة إجراءات لكبح جماح الأزمة، لكن تلك الخطوات لم تنعكس حتى الآن على المواطنين الدين مازالوا يعانون من ارتفاع أسعار السلع والخدمات، حسبما يوضح مختصون تحدث معهم موقع "الحرة".

ومن جانبه يشير الديب إلي أن "عوائد العملة صعبة سوف تخفض الضغط على الجنيه المصري"، لكن يؤكد أن ذلك "لا يمثل  حلا سحريا للأزمة الاقتصادية في مصر".

والصفقة الكبرى سوف تدخل تضمن وجود "مداخيل من العملة الصعبة، لكنها مجرد مسكنات"، وفق الباحث بالاقتصاد السياسي.

ويشير إلى ضرورة " زيادة الصادرات المصرية، ودعم الصناعة، والمشروعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر، لتغطية احتياجات مصر من العملة الصعبة، لتحقيق توازن بين العرض والطلب وانعاش الجنيه أمام الدولار.

سفينة حربية تعبر قناة السويس - AFP
سفينة حربية تعبر قناة السويس - AFP

ضجة كبيرة عاشتها مصر في الأيام الأخيرة إثر نشر فيديو زعم متداولوه أنه يخص "بارجة حربية إسرائيلية تعبر قناة السويس".

وفي ردها على الجدل الذي أثاره الموضوع، ذكرت هيئة قناة السويس أن إدارتها للمجرى الملاحي تخضع لبنود اتفاقية القسطنطينية التي تمنح لجميع دول العالم الحق في أن تعبر سفنها القناة "دائمًا بجميع الأحوال ومهما كانت جنسيتها".

 

فما قصة هذه الاتفاقية؟ وهل التزمت مصر بتطبيقها منذ توقيعها؟ وكيف تعاملت إدارة القناة مع سفن إسرائيلية سعت للمرور من القناة من قبل بموجب الاتفاقية؟

القناة المحايدة

بموجب قرار في العام 1856، أقرّت مصر حرية الملاحة في القناة "بشكلٍ محايد" لجميع السفن مهما كان حجم الصراعات بينها، طالما أن مصر ليست طرفًا فيها. ونصّت المادة 14 من القرار على أن "القناة البحرية الكبرى مفتوحة على الدوام بوصفها ممرًا محايدًا لكل سفينة".

غير أن مصر ستشهد في 1882 حدثًا استثنائيًا حينما قاد الضابط أحمد عرابي تمردًا عسكريًا ضد الخديوِ توفيق فأرسلت بريطانيا حملة عسكرية لحماية عرش الخديو، مستخدمة القناة للوصول إلى مدينة الإسماعيلية ومنها زحفت القوات البريطانية إلى القاهرة حيث أنهت تمرد الجيش وسيطرت على القاهرة، وكانت تلك اللحظة بداية الاحتلال الإنجليزي لمصر.

ووفق ما أورده عبده مباشر في كتابه "قناة السويس: المشروع والصراع" فإن هذا الاحتلال كان بداية لزيادة سيطرة الإنجليز على القناة، فجرى استدعاء مديرها الفرنسي فرديناند ديليسبس إلى لندن 1883 لتوقيع اتفاق جديد قضى برفع حصة الإنجليز في مجلس الإدارة وعدد الملاحين، كما نص على أن تنشئ الشركة لها مكتبًا في لندن أسوة بمكتبها في فرنسا.

السيطرة الإنجليزية على القناة أشعلت غضب فرنسا فاقترحت لندن وضع نظام جديد لإدارة القناة بشكلٍ يرضي جميع الأطراف، وفي مارس 1885 بدأت مباحثات بين البلدين حول إبرام معاهدة دولية تنظّم المرور في القناة.

وطيلة 3 سنوات اشتعل الشقاق بين فرنسا وبريطانيا حول كيفية إدارة القناة حتى اتفقتا أخيرًا على بنود معاهدة القسطنطينية ومعهما دول أخرى.

وفي 29 أكتوبر 1888، وقّع مندوبو 9 دول على اتفاقية من 17 مادة نظّمت قواعد مرور السفن في القناة أبرزها أن "تكون قناة السويس البحرية على الدوام حرة مفتوحة في زمن السلم والحرب لكل سفينة تجارية أو حربية دون تمييز بين جنسياتها".

ولم تلعب القاهرة دورا كبيرا في إبرام الاتفاقية بعدما مثّلتها الدولة العثمانية، صاحبة السيادة الإسمية عليها حينها، وبريطانيا التي فرضت احتلالاً عليها أدارت بموجبه شؤونها الخارجية والداخلية.

وبحسب بحث "موقف الدولة العثمانية من اتفاقية القسطنطينية للملاحة في قناة السويس"، فإن حتى الدولة العثمانية لم تلعب دورًا كبيرًا في صياغة بنود الاتفاقية بعدما تلقتها عقب اتفاق بريطانيا وفرنسا على أغلب بنودها.

ويقول محمد عبد الرحمن في كتابه "قناة السويس: أهميتها السياسية والاستراتيجية" إن بريطانيا، رغم توقيعها على الاتفاقية، فقد ألحقت بها تحفظًا يبيح لها التحلل من أحكامها إذا ارتأت أن تطبيق هذه البنود يتعارض مع مقتضيات احتلالها للقناة ويحرمها من بناء قواعد عسكرية لها على جانبي القناة حال الضرورة لذلك.

ولم تسحب بريطانيا هذه التحفظات إلا بعد الاتفاق الودي الذي جرى بينها وبين فرنسا 1904 وتقاسمت بموجبه البلدان النفوذ في الشرق الأوسط، وفق ما ذكره عبد الخالق لاشين في كتابه "مصريات في الفكر والسياسة".

وبحسب كتاب فتحي المحلاوي "قناة السويس بين الوثائق والمزاعم"، فإن القناة حاولت الالتزام بـ"الحياد العسكري" خلال حرب الدولة العثمانية وإيطاليا 1911، فحينما أرسلت إسطنبول قوة من 400 جندي إلى سوريا اشترط عليهم تجريدهم من السلاح وعبور القناة في حراسة البوليس المصري.

الحياد في زمن الحرب

في 1914، استقلت مصر عن الدولة العثمانية وورثت عنها التزاماتها الرسمية في المعاهدة، وباتت طرفًا فاعلاً فيها لأول مرة. العام ذاته شهد اندلاع الحرب العالمية الأولى التي خاضتها بريطانيا بفاعلية، وبالتالي كان الحفاظ على حياد القناة الخاضعة لسيطرتها أمرًا صعبا.

أعلنت بريطانيا الحماية على مصر وبالتالي صارت القناة جزءًا من دولة في معسكر الحلفاء وباتت هدفًا عسكريًا، بعدما حاولت قوة ألمانية تركية الاستيلاء على القناة فتصدّت لهم قوة بحرية بريطانية.

وخلال الحرب قضت بريطانيا على مفهوم "حياد القناة" تمامًا بعدما منعت سفن أعدائها من العبور وأقامت لنفسها قواعد عسكرية في القنطرة والإسماعيلية ربطتهما بالقاهرة عبر خط سكة حديدية.

وبحسب ما روته لطيفة سالم في كتابها "مصر في الحرب العالمية الأولى"، فإن هذه التصرفات استدعت "إدانة شديدة" من الحكومة العثمانية بعدما اعتبرتها تناقض بنود اتفاقية القسطنطينية.

ووفق ما ذكره جورج كيرلس في كتابه "قناة السويس من القِدم إلى اليوم"، فإن عدم التزام القوى الكبرى باتفاقية القسطنطينية خلال الحرب وتصارعها حولها وداخلها في بعض الأحيان خفّض حركة الملاحة فيها بنسبة 45 في المئة.

وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، عرفت القناة "حيادًا جزئيًا" خلال احتلال إيطاليا لإثيوبيا 1935 بعدما سُمح لما يزيد عن نصف مليون جندي إيطالي بعبور قناة السويس، بينما رُفض عبور سفن كانت تحمل أسلحة إلى الحبشة، وفق ما ذُكر في كتاب "مصر والصراع حول القرن الأفريقي".

هذا الأمر تكرر أيضًا خلال الحرب العالمية الثانية التي شهدت سقوط فرنسا على أيدي الألمان الأمر الذي منح بريطانيا سيطرة مطلقة على القناة فكررت استغلالها لصالح مجهودها الحربي، وهو ما حاولت قوات دول المحور إنهاءه فأغارت عليها طائراتها 64 غارة من يناير 1941 وحتى يوليو 1942، كما هاجمتها الغواصات الألمانية 17 مرة.

وبحسب كيرلس فإنه طيلة هذه الحرب تعطلت الملاحة بالقناة 76 يومًا على فترات متقطعة بسبب إغراق عددٍ من السفن والألغام بها، وفي بعض الأوقات بلغت نسبة انخفاض حركة الملاحة 70 في المئة.

بعد 1948.. "ممنوع العبور" لإسرائيل

يكشف الكاتب عبد العظيم رمضان، في كتابه "المواجهة المصرية الإسرائيلية في البحر الأحمر"، أن القاهرة "لم تعتبر اتفاق الهدنة 1949 الذي وقعته مع إسرائيل أنهى حالة الحرب معها، وبالتالي رخّصت لنفسها الحق في منع أي سفينة تقصد إسرائيل مستندة إلى المادة العاشرة من المعاهدة والتي كفلت ألا تتعارض موادها مع التدابير التي قد يجري اتخاذها لـ"ضمان الدفاع عن مصر وإقرار النظام العام".

هذا المنع لم يُطبّق على السفن الإسرائيلية فقط وإنما كذلك على السفن المحايدة التي تحمل بضائع من دول أخرى تجاه الموانئ الإسرائيلية.

هذا الحصار أثار غضب إسرائيل فقدّمت إلى مجلس الأمن شكوى في يوليو 1951 لتأكيد أن هذا الموقف مخالف لاتفاقية 1888، وهو أمر أيّدها به المجلس وأصدر قرارًا بالأغلبية يدعو مصر للوفاء بالتزاماتها البحرية إلا أن مصر لم تستجب.

ويروي الدبلوماسي عصمت عبدالمجيد في كتابه "زمن الانكسار والانتصار"، أن إنجلترا، التي كانت تتمتع بنفوذ كبير في مصر وقتها، حاولت التدخل عبر إقناع الحكومة المصرية على الأقل بالسماح بعبور ناقلات البترول المتجهة إلى حيفا عبر قناة السويس إلا أن القاهرة رفضت ذلك الأمر.

وظلّت مصر متمسكة بهذا الموقف حتى بعد اندلاع ثورة يوليو، وفي سبتمبر 1954 حاولت إسرائيل تحدّي قرار الحكومة المصرية فأرسلت سفينة تحمل العلم الإسرائيلي نحو قناة السويس فصُودرت حمولتها وسُجن بحارتها 3 أشهر أعيدوا بعدها إلى بلدهم.

خلال هذه الأزمة أعلن عمر لطفي مندوب مصر في مجلس الأمن أن بلاده "تخشى بسبب حالة العداء التي تجمعها بإسرائيل أن تنفذ أي سفينة تابعة لها عملية تخريبية تمنع الملاحة في القناة"، لذا فإنه "يعتبر أن منع إسرائيل من استخدام أمر واجب" وفقًا لتفسيره لمواد اتفاقية القسطنطينية.

وعلى وقع هذه الأزمة عقد مجلس الأمن 7 جلسات امتدت حتى يناير 1955 دون أن ينجح في اتخاذ أي قرار، أمر اعتبرته القاهرة انتصارًا لها وأعلنت كذلك أن "قرار 1951" سابق الإصدار مجرد توصية غير ملزمة، وهو وضعٌ استمرّ حتى تأميم القناة 1956.

أزمة التأميم

في 1956، أعلن الرئيس جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس. خطوة كان متوقعًا أن تثير غضب الغرب ضده فبادر بإعلان "الاحترام الكامل" لاتفاقية القسطنطينية، إلا أن ذلك لم يُفلح في امتصاص غضب الحكومة البريطانية على القاهرة بعدما أظهر رئيس الحكومة أنطوني إيدن ميوله لاستعمال القوة العسكرية إن لم يتراجع ناصر عن التأميم.

تعتبر قناة السويس معبرا حيويا للملاحة الدولية

وفي محاولة لتبرير الهجوم على مصر، اعتبر إيدن أن قرار التأميم يهدم اتفاقية القسطنطينية التي نصّت على أن حرية الملاحة ترعاها شركة القناة الدولية وأن استيلاء مصر عليها يتعارض مع الاتفاقية.

وحسبما روت لطيفة محمد سالم في كتابها "أزمة السويس: جذور، أحداث، نتائج"، فإن هذا الموقف لم يشاركه به الرئيس الأمريكي أيزنهاور حينما بعث له رسالة عارَض فيها تنفيذ أي عمل عسكري داعيًا لمناقشة القضية من خلال اجتماع تعقده الدول الموقعة على اتفاقية القسطنطينية.

خطوة المؤتمر تمّت بالفعل في لندن بعدما رعت مؤتمرًا ضمّ الدول الموقعة على الاتفاقية ودول أخرى معنية بالملاحة في القناة بسبب حجم تجارتها الكبير الذي يمرُّ منها مثل أميركا والبرتغال واليابان وغيرها، لكن مصر رفضت حضور هذا المؤتمر ما أدى لفشله.

وبعد انتهاء الأزمة بنجاح مصر في ترسيخ سيادتها على القناة، اضطرت للتراجع عن موقفها بمنع أي سفينة من العبور لإسرائيل فوافقت لأول مرة على مرور البضائع الإسرائيلية غير العسكرية، بشرط أن تكون محمولة على سفن غير إسرائيلية.

من ناحيتها، فرضت القاهرة قيودًا على تعريفها للشحنات "غير العسكرية" وحدّدتها بالشحنات الغذائية فقط، فيما اعتبرت "النقود والسبائك الذهبية والفضية والأوراق المالية" شحنات عسكرية لا يُسمح بمرورها إلى إسرائيل.

هكذا سمح عبد الناصر للسلع غير الاستراتيجية بالوصول إلى إسرائيل عبر قناة السويس طيلة سنوات ما بعد 1956 بشرط عدم الإعلان، وفي مايو 1959 أعلنت إسرائيل أنها تستعد لاستقبال باخرة دنماركية عبر قناة السويس فأوقفتها القاهرة، بعدها توصل ناصر إلى اتفاق عبر الأمم المتحدة يقضي بالسماح لهذه السلع بالعبور شريطة عدم إعلان إسرائيل عن هذه الشحنات.

وخلال سنوات حُكمه عبّر الرئيس جمال عبدالناصر مرارًا عن موقفه الرافض للسماح لإسرائيل باستخدام القناة، منها قوله في يوليو 1959 إن "مرور سفن إسرائيل لا يعتبر بأي حال من الأحوال ضمان حرية الملاحة في قناة السويس".

وظلَّ هذا الموقف غير مقبولا في إسرائيل واعتبرته "استمرارًا للحصار البحري ضدها" وقدّمت عدة شكاوى في مجلس الأمن لم تغيّر من موقف القاهرة، استمر هذا الوضع حتى اندلعت حرب 1967 التي كانت سببًا في تعطيل الملاحة في مجرى القناة لسنواتٍ طويلة لم تنتهِ إلا باندلاع حرب أكتوبر.

ما بعد أكتوبر

في مارس 1975، أعلن السادات نيته إعادة افتتاح قناة السويس مع التأكيد أن سفن إسرائيل ستظلُّ محرومة من استخدامها في ظل عدم إنهاء حالة الحرب بين البلدين.

هذا الوضع تغير قليلاً خلال أشهر معدودة بعدما وقعت مصر وإسرائيل اتفاقية فض الاشتباك الثانية التي ورد بالمادة السابعة بها السماح بـ"مرور البضائع الإسرائيلية غير العسكرية بشرط أن تكون محمولة على سفن غير إسرائيلية"، وهو ما وصّفه بطرس غالي وقتها بأنه عودة إلى الوضع الذي كان سائدًا بين عامي 1957 و1967.

وظلَّ هذا الوضع قائمًا حتى انتهت حالة الحرب رسميًا بين البلدين عقب توقيع اتفاقية كامب ديفيد 1979، التي نصّت على حرية مرور السفن الإسرائيلية في خليج السويس وقناة السويس "على أساس اتفاقية القسطنطينية لعام 1888"، لتتمتع إسرائيل بموجبها بالحق في عبور جميع سفنها التجارية والحربية قناة السويس لأول مرة بلا أي قيود منذ 1948، وهو الأمر المستمر حتى اليوم.