أعاد صندوق النقد الدولي التشديد على ضرورة محافظة مصر على "نظام سعر الصرف مرن ونظام صرف أجنبي مُحرر" لتجنب تراكم الاختلالات الخارجية، مما يضع الجنيه المصري في دائرة الضوء على اعتبار أن هذا الإصلاح كان يقف وراء تأجيل برنامج التمويل خلال العام الماضي.
وفي بيانه الصادر قبل أيام بعد موافقة المجلس التنفيذي على صرف شريحة جديدة من برنامج القرض الذي تم الاتفاق على استئنافه في مارس الماضي، أعلن صندوق النقد الدولي، الاثنين، استكمال مراجعة تسمح لمصر بسحب 820 مليون دولار من قرض بقيمة 8 مليارات دولار.
وقال إن الجهود المبذولة لاستعادة الاستقرار على صعيد الاقتصاد الكلي بدأت تؤتي ثمارها، لكنه حث على مزيد من التقدم في كبح سيطرة الشركات المملوكة للدولة وضرورة الحفاظ على نظام سعر الصرف المرن.
ومنذ السادس من مارس الماضي، سمح البنك المركزي المصري لسعر الصرف أن يتحدد وفقا لآليات السوق. وقال إن توحيد سعر الصرف إجراء بالغ الأهمية، حيث يساهم في القضاء على تراكم الطلب على النقد الأجنبي في أعقاب إغلاق الفجوة بين سعر صرف السوق الرسمي والموازي.
وكان تحرير سعر الصرف على رأس إصلاحات يطالب بها صندوق النقد الدولي مصر منذ ديسمبر من العام 2022، حينما تم الاتفاق على برنامج التمويل الذي تعثر لأكثر من عام بسبب رفض السلطات الشروع في بعض الإصلاحات، حتى تم التوافق على استئنافه قبل أشهر، على خلفية البدء بتحرير سعر الصرف.
وسمح البنك المركزي لسعر صرف الجنيه بالتراجع بنسبة 60 بالمئة قبل 4 أشهر، إذ بلغت قيمة الدولار 50 جنيها، قبل أن يتراجع إلى مستوى 48.6 جنيه للدولار حتى تعاملات الخميس.
لماذا التشديد على ذلك؟
ومع ذلك يفتح تشديد الصندوق المتكرر على ضرورة استمرار سياسة سعر الصرف المرن، الباب أمام تساؤلات عدة فيما يتعلق بذلك، خصوصا حول ما إذا كان هناك مخاوف حقيقية في أن تتراجع السلطات عن هذا الإصلاح الذي يُنظر إليه باعتباره "حجر زاوية" برنامج الإصلاح.
وقال صندوق النقد في بيانه هذا الأسبوع إن "المتوقع أن يؤدي التحول المستدام إلى نظام سعر الصرف المرن ونظام الصرف الأجنبي المحرر، والاستمرار في تنفيذ موقف السياسة النقدية الصارمة، والمزيد من ضبط الأوضاع المالية إلى جانب التنفيذ السليم للإطار اللازم لمراقبة ومراقبة الاستثمار العام، إلى دعم التوازن الداخلي والخارجي".
واعتبر أستاذ التمويل والاستثمار، هشام إبراهيم، أن "مطالب صندوق النقد الدولي المتكررة فيما يتعلق بسياسة سعر الصرف المرن في مصر أمر منطقي؛ لأنه من غير الطبيعي أن تكون أسعار العملات الأجنبية ثابتة على نحو دائم في أي اقتصاد حول العالم".
وقال إبراهيم في اتصال هاتفي مع موقع "الحرة" إنه "ليس من الضرورة أن يكون سعر الجنيه ثابتا؛ لأن هذا دليل على أن الاقتصاد في حالة سكون لا يتأثر بأي متغيرات، وهذا أمر غير وارد على الإطلاق اقتصاديا".
وأضاف أن الأزمات التي تعرض لها اقتصاد مصر على مدار العقد الماضي، جاءت نتيجة الإبقاء والتحكم في أسعار الصرف، "وهي السياسة التي لطالما كان التخلي عنها مكلفا على مستوى المعيشة، إذ تحدث صدمة تضخمية سريعة لأن سعر الصرف خلال تلك الفترة كان لا يعتبر عن القيمة الحقيقية".
وجاءت سياسة البنك المركزي المصري بشأن "تحرير سعر الصرف" قبل أشهر في أعقاب الاتفاق مع الإمارات على ضخ 35 مليار دولار استثمارات مباشرة، لتنمية منطقة "رأس الحكمة" على البحر المتوسط بشمال غرب البلاد، وهي الأموال التي قالت القاهرة إنها ستساعد في حل أزمة نقص العملات الأجنبية.
وتسببت أزمة نقص النقد الأجنبي في مصر في انتعاش السوق الموازية، إذ وصل الدولار إلى مستوى 70 جنيها خلال شهر فبراير الماضي.
بدوره، رأى الخبير الاقتصادي، وائل النحاس، في تصريحات لموقع "الحرة" أن "ما يهم صندوق النقد الدولي في تشديده على سياسة سعر الصرف المرن، هو توافر العملات الأجنبية في السوق المصرية، وعدم حدوث شح كما كان ذلك قبل أشهر".
وأضاف أن "هذه السياسة في المجمل تهدف إلى منع تسرب العملات الأجنبية إلى السوق الموازية، وهو ما يندرج ضمن توحيد السياسات، حيث يطالب الصندوق مصر دائما بتوحيد السياسات المالية والنقدية، بما في ذلك أسعار الصرف والمواد البترولية والضرائب، وهو لا يفضل فكرة وجود أكثر من سياسة أو سعر في السوق الواحدة".
وأشار النحاس إلى أن القاهرة نجحت منذ مارس في توحيد سوق الصرف، "وتخلت الدولة عن سياسات الشراء من السوق الموازية التي اعترفت بها خلال الأزمة باعتبارها كانت أكبر مشتر للعملات الأجنبية، لهذا كان التشديد على ضرورة استمرار هذه السياسة لمنع تكرار الأزمة".
"تحركات سعر الصرف"
ومنذ مارس تتحرك أسعار صرف الدولار أمام الجنيه بالسوق المصرية، في نطاق محدود بين 46 و48 جنيها للدولار الواحد، وهو ما قال بعض الخبراء إنها قد لا تتناسب مع المرونة التي أُعلن عنها مع تزايد التدفقات الأجنبية إلى البلاد، فيما اعتبر صندوق النقد أن "هناك بعض القيود التي تحد من هذه المرونة".
واعتبر الخبير الاقتصادي، مدحت نافع، أن مرونة سعر صرف الجنيه تمثل الإصلاح الأبرز الذي يستند عليه برنامج الإصلاح المصري مع صندوق النقد الدولي.
لكن الأمر المثير للاستغراب، كان تصريح رئيسة بعثة صندوق النقد الدولي، التي تحدثت فيه عن "ضرورة تحرير سعر الصرف من كافة القيود"، حسبما يقول نافع لموقع "الحرة"، مشيرا إلى أن "هذا التصريح غريب وليس له علاقة بما جرى الاتفاق عليه في البرنامج".
ونقلت وسائل إعلام محلية، الثلاثاء، عن رئيسة بعثة صندوق النقد الدولي في مصر، إيفانا فلادكوفا هولار، قولها إنه "يجب على مصر الحفاظ على سعر صرف خال من القيود".
وأضاف نافع، الذي شغل سابقا منصب مساعد وزير التموين والتجارة الداخلية في مصر، أن "هذه التصريح غريب، لأنه لا يوجد ما يسمى بتحرير كامل لأسعار الصرف، ولا نملك أن نقوم بهذا، إذ هناك تدخل محسوب من البنك المركزي في صورة عطاءات دون أن تلزم هذه العطاءات البنوك بتقديم أسعار تناسبها لشراء العملات الأجنبية".
ويتيح البنك المركزي، للبنوك (من بينها البنوك المملوكة للدولة) شراء وبيع الدولار عبر سوق ما يعرف باسم "الإنتربنك الدولاري"، والتي بلغت إجمالي العمليات فيها خلال مارس الماضي نحو 9.3 مليار دولار زيادة من مستوى 539 مليون دولار في فبراير السابق عليه.
بدوره، أوضح الخبير الاقتصادي، أحمد معطي، خلال حديثه لموقع "الحرة" أن "صندوق النقد الدولي يعتبر بعض القيود التي تفرضها مصر فيما يتعلق بتوفير العملة الصعبة لاستيراد بعض السلع غير الضرورية، بما في ذلك السيارات، تحد من مرونة سعر الصرف ولا تعبر عن السعر الحقيقي".
ومع ذلك فإن البيانات المتاحة جميعها تؤكد تبني مصر "سياسة سعر صرف مرن" وفق معطي، الذي قال إن "صندوق النقد يطالب الحكومة بإزلة هذه القيود؛ لأنه يعتبرها تؤثر على سعر الصرف، نظرا لعدم تلبية جميع متطلبات الاستيراد".
وجذبت مصر منذ فبراير الماضي تدفقات نقد أجنبي وصفها البنك المركزي بـ"الهائلة"، إذ قال في بيان له الشهر الماضي إن تدفقات النقد الأجنبي للسوق المحلية ارتفعت نحو 200 بالمئة، متضمنة ارتفاعا بأكثر من 100 بالمئة في تحويلات المصريين بالخارج، مقارنة بمستوياتها قبل "توحيد سعر صرف الدولار مقابل الجنيه".
ورأى أستاذ الاستثمار والتمويل، إبراهيم، أن "تحرك أسعار الصرف لا يمكن في الحالة المصرية اعتباره مقياسا على المرونة، وأن توافر العملة في البنوك هو النقطة الأكثر دلالة على المرونة التي تتمتع بها أسعار الصرف".
وأضاف: "قد ترتفع قيمة الجنيه بشكل كبير في السوق المحلية، لكن هذا لا يعني توافر الدولار للعملاء وهذه هي النقطة الأهم، إذ إن توافره مهما كان سعره هو المؤشر الذي يجب القياس عليه وليست الأسعار".
وقال إبراهيم إنه "لا يجب النظر إلى أسعار الصرف باعتبارها مقياسا على المرونة؛ لأن استقرار سعر العملة المحلية يعني أن هذا الاقتصاد لا يتأثر أو يؤثر في العالم الخارجي، وهذا لا يحدث".
في المقابل، قال النحاس إنه "لا تزال هناك بعض القيود التي تفرضها البنوك على صرف الدولار للعملاء، إذ يتطلب في بعض الأحيان للعملاء المسافرين إبلاغ البنوك بشكل مسبق إذ كان المبلغ يزيد عن 2000 دولار".
وأضاف أن "لا يمكن إنكار أن الإجراءات نجحت في توحيد سوق الصرف في البلاد، لكن كل هذا يتوقف أيضا على تنفيذ الإصلاحات الأخرى التي تعهدت بها الحكومة حتى لا تحدث هزة كبيرة في أسعار الصرف، حال حدوث أزمات اقتصادية خارجية أو داخلية، كما الذي حدث خلال العامين الماضيين".
"المرونة وحدها لا تكفي"
وفي مؤتمر صحفي، جرى هذا الأسبوع، قال رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، إن بلاده نجحت في حل أزمة الدولار من خلال الاستثمارات والإجراءات التي اتخذتها خلال الفترة الماضية، مشيرا إلى ضرورة مواصلة تحريك أسعار السلع والخدمات خلال الفترة المقبلة.
واتفق الخبراء والمحللون خلال حديثهم مع موقع "الحرة" على أن "نجاح سياسة سعر الصرف المرن في القضاء على أزمة نقص العملة بمصر، يرتبط على الأرجح بتنفيذ إصلاحات الضبط المالي التي تعهدت بها الحكومة المصرية".
وطالب صندوق النقد الدولي في بيانه هذا الأسبوع، مصر بضرورة مواصلة ضبط الأوضاع المالية، مع تعزيز تعبئة الإيرادات لخلق المساحة اللازمة لتوسيع البرامج الاجتماعية، وتسريع الإصلاحات الهيكلية للمساعدة في رفع نمو القطاع الخاص.
وقال إن "البيئة الإقليمية تظل صعبة، وتتطلب التحديات المعقدة التي تواجه السياسات المحلية تنفيذا حاسما لبرنامج الإصلاح الذي تتبناه السلطات".
لهذا، قال إبراهيم إن تبني سياسة سعر الصرف المرن يعني في الأغلب أن يكون هناك مرونة كبيرة أيضا فيما يتعلق بالاستثمارات والصادرات والسياحة، والتي من المفترض أن تنتعش مع انخفاض قيمة الجنيه.
لكن التساؤل هنا، وفق إبراهيم، "هل تخفيض قيمة العملة عزز من الصادرات السلعية أو جذب المزيد من الاستثمارات؟ الإجابة هي أن الاقتصاد غير مرن بما فيه الكفاية".
وأضاف أن تحديات الاقتصاد المصري حاليا ترتبط بالقطاعات غير المرنة لتتناسب مع سياسة سعر الصرف المُحرر، "لهذا يجب أن تواصل الحكومة تنفيذ إصلاحات مالية واقتصادية".
وأكد هذا أيضا، النحاس قائلا إن تحقيق الانضباط المالي والسيطرة على عجز الموازنة العامة للدولة، يخدم سياسة سعر الصرف المرن التي تتبناها السلطات.
وأضاف أن "تسارع عجز الموازنة العامة للدولة، يعني أن سياسية سعر الصرف ستعاني من تشوهات، لذلك يدعو صندوق النقد بالتوازي إلى ضبط الأوضاع المالية".
من جهته، قال نافع إن "سياسة سعر الصرف المرن يمكن وصفها بالعرجاء، إذ لم تواصل الحكومة الاستمرار في تنفيذ باقي الشروط التي يتضمنها برنامج صندوق النقد الدولي".
وأضاف نافع: "نعم الكثير من الإصلاحات تحتاج إلى وقت، لكن ستكون هناك مشكلة حال عدم السير جديا فيها وهو ما قد يعزز الفقر ويزيد الأعباء على المواطنين".
وتابع: "لا يجب على الحكومة أن تؤجل أو تسرع تنفيذ بعض الاشتراطات والتعهدات بناء على الضغوط التضخمية التي قد تتسبب فيها، والذي كان واضحا عندما تم تأجيل زيادة أسعار منتجات الوقود قبل أن يتم الترجع عن ذلك، بعد إرجاء صندوق النقد الموافقة على صرف الشريحة الجديدة الشهر الماضي".
وكان من المفترض أن يبت المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي في الموافقة على المراجعة الثالثة لبرنامج القرض لمصر بقيمة 8 مليارات دولار في العاشر من يوليو الماضي، قبل تأجيل ذلك حتى 29 يوليو، إذ سبق ذلك بـ 4 أيام فقط إعلان الحكومة زيادة أسعار منتجات الوقود بما يصل إلى 15 بالمئة.
واختتم نافع حديثه بالقول: "المسألة تحتاج إعلانا واضحا يتضمن أولويات وطنية مُعلنة للجميع فيما يتعلق بالإصلاحات والإجراءات الصعبة التي يجب أن تتخذها الحكومة، وهذا لن يتحقق إلا بإرادة وطنية محضة تضمن مشاركة الخبراء والمجتمع المدني في هذه المناقشات بعيدا سياسات الاهتمام ببعض التعهدات والاشتراطات دون الأخرى".