منذ وفاة زوجها قبل بضع سنوات، أصبحت السيدة عبير عبدالكريم معيلة وحيدة لثلاثة أطفال. ولتدبر معيشتهم، اضطرت للعمل في وظيفتين، على مدار ساعات النهار وحتى منتصف الليل.
حلمها أن يكمل أبناؤها دراستهم. لكن هذا الحلم البسيط في جوهره لم يعد بسيطا في مصر، كما يبدو، إذ يصطدم بقرارات تتعلق من جهة بإكراهات نظام التعليم الحكومي، وآخرها مشروع البكالوريا الذي طرحته وزارة التعليم، ومن جهة أخرى بالقرارات الاقتصادية التي تتخذها الحكومة، والتي تؤدي إلى رفع أسعار السلع والخدمات الأساسية بشكل شبه يومي.
خوف وقلق وجدل متصاعد
يتدرج أبناء السيدة عبير الثلاثة في التعليم الحكومي المصري: أميرة بالصف الثالث في الثانوية العامة، وسارة في الصف الثالث الإعدادي، ومحمود في الصف الرابع الابتدائي.
وبذلك تصبح ابنتها سارة في العام القادم واحدة ممن سينطبق عليهم نظام البكالوريا الجديد، في حال المصادقة عليه بشكل نهائي من طرف مجلس النواب المصري.
بنبرة يغلب عليها القلق من المجهول، تتحدث عبير لـ"موقع الحرة" عن مخاوفها من هذا النظام التعليمي الجديد، وهو المشروع الذي تروج له وزارة التربية والتعليم المصرية باعتباره تطورا في نظام الثانوية العامة المصري، الذي يؤهل لدخول الجامعات الحكومية.
وفي حال تمت الموافقة على المقترح، تشرع مصر، ابتداء من العام الدراسي المقبل 2025-2026، في تطبيق نظام البكالوريا، بدلا من نظام الثانوية العامة الذي استمر العمل به لأكثر من 50 عامًا.
وستطبق وزارة التربية والتعليم النظام الجديد على طلاب الصف الأول الثانوي، الذين يدرسون حاليا في الصف الثالث الإعدادي، ومنهم سارة، ابنة محدثتنا.
وفي مواجهة الجدل المتصاعد، أطلقت وزارة التعليم المصرية هذا الأسبوع سلسلة من جلسات الحوار المجتمعي بشأن تطبيق النظام الجديد.
ومثل كثير من المصريين، تعبر عبير عن غضبها من نظام التعليم المقترح، الذي لا يضع حلولا لأزمة الدروس الخصوصية، حسب رأيها، في حين يتضمن بندا يسمح للطالب بتحسين مجموعه بمقابل مادي يصل إلى 500 جنيه مصري (10 دولارات).
ويتضمن المقترح تكاليف يتوجب على الطلبة دفعها لإجراء الاختبارات المتعددة التي يوفرها النظام الجديد، لكن وزير التربية والتعليم محمد عبد اللطيف صرح بأن الطلاب غير القادرين سيتم إعفاؤهم من أي رسوم، "التزاما بمبدأ العدالة الاجتماعية".
ولفت إلى أن النظام الجديد لن يعتمد على محاولة امتحانية واحدة لتحديد مستقبل الطلاب، بل سيوفر لهم فرصًا متعددة لتحسين درجاتهم، ما يساعد في تقليل التوتر النفسي ويضمن نتائج أكثر إنصافًا.
ويمنح نظام البكالوريا الجديد الطلاب فرصا إضافية لخوض الامتحان الواحد، بمعدل 4 مرات في الصف الثاني الثانوي، وفقا للوزير، ومرتين في الصف الثالث.
ويحصل الطالب على درجات المحاولة الأعلى. وبإستثاء المحاولة الأولى "المجانية"، سيتوجب على الطالب دفع 500 جنيه (10 دولارات) مقابل كل محاولة.
"البند المتعلق بتحسين المجموع مضاد للعدالة الاجتماعية،" يقول الخبير التربوي والموجه السابق في وزارة التربية والتعليم، حسام أبو الفضل، لموقع "الحرة".
ويوضح بأنه "يعني أن من يمتلك الأموال هو من سيكون قادرا على تحسين مجموعه وبالتالي تحصيل فرص أفضل في دخول الجامعات". ويضيف: "هذا يعني أن التعليم سيكون للأقدر ماليا".
"أبقى في الشارع طوال اليوم"
رغم أن أبناءها يدرسون في المدارس الحكومية، تعاني السيدة عبير، مثل غالية المصريين، لتوفير مسلتزمات الدراسة، إذ أصبحت المنتجات والخدمات الأساسية في مصر بالغة الكلفة جراء ارتفاع مستويات التضخم وانخفاض العملة المحلية أمام الدولار.
"اضطررت للبحث عن عمل آخر بعد انتهاء دوام عملي الصباحي لتحسين دخلي".
رغم ساعات العمل الطويلة، لا يتجاوز دخل عبير الشهري 6 آلاف جنيه (120 دولارا)، تنفق منها 4 آلاف جنيه (80 دولارا) لتغطية مصاريف الدراسة والدروس الخصوصية.
ويعتمد معظم الطلاب المصريين في مراحل التعليم المختلفة، ضمن التعليم الحكومي أو الخاص، على الدروس الخصوصية. وهي حصص دعم إضافية بمقابل مادي، تعتبرها الحكومة غير قانونية.
وبعد جدل تربوي ومجتمعي، ورفض من طرف أعضاء في البرلمان المصري، تراجعت وزارة التربية والتعليم المصرية، في نوفمبر 2022، عن مقترحها لتقنين (قوننة) مراكز الدروس الخصوصية، المعروفة بـ"السناتر التعليمية".
"كيف لأسرة من 4 أفراد أن تعيش بألفي جنيه فقط شهريا، مع الارتفاع الشديد في أسعار كل شيء؟" تتساءل عبير.
"هل بات حلمي الوحيد بتعليم أبنائي مستحيلا لهذه الدرجة؟!".
يسود مصر استياء شعبي من الارتفاع المتزايد في تكلفة المعيشة، إذ تضاعفت مستويات التضخم عام 2022، عقب الغزو الروسي لأوكرانيا، ما دفع المستثمرين الأجانب إلى سحب مليارات الدولارات من أسواق المال المصرية.
في سبتمبر 2023، بلغ التضخم ذروته عند مستوى 38 في المئة.
وتراجعت قيمة العملة المصرية على نحو متسارع. وفي أواخر ديسمبر الماضي تجاوز الدولار حاجز الـ 51 جنيها.
وتحت الضغوط الاقتصادية المتزايدة على الأسر المصرية، تزداد ظاهرة التسرب المدرسي.
في هذا السياق، يرى الخبير التربوي حسام أبو الفضل أن هذه المشكلة كان يجب أن تكون على رأس أولويات وزارة التعليم، لكن نظام البكالوريا الجديد لم يتطرق لها أو يعالجها لا من قريب و لا من بعيد.
التسرب من التعليم.. الفقر أحد عوامله
طارق محمد، 16 عاما، أحد الذين اضطرتهم الظروف لترك الدراسة بعد وصوله للمرحلة الثانوية، حتى يتمكن من المواظبة على العمل للإنفاق على والدته وأشقائه ووالده المريض.
لم يعد التعليم مجانيا مثلما تقول الحكومة، يقول طارق لموقع "الحرة"، "فأنا وأشقائي الأربعة كنا ندفع مصاريف سنوية للمدرسة الحكومية بما يتجاوز 2500 جنيه (50 دولارا) هذا بخلاف الملابس والمواصلات والدروس".
وبعد تدهور صحة الوالد وفصله من عمله من دون منحه تأمينا أو راتب تقاعد، اضطر طارق، باعتباره الابن الأكبر، أن يتحمل مسؤولية الإنفاق على الأسرة وتعليم أشقائه.
ومع تضاعف كلفة مستلزمات الدراسة، حتى في المدارس الحكومية، لم تعد الأسر الفقيرة أو حتى المتوسطة قادرة على توفير مصروفات لثلاثة أو أربعة أبناء، التي تصل إلى 2000 جنيه أو أكثر.
رغم نص الدستور على مجانية التعليم، أنفقت الأسرة المصرية أكثر من 500 جنيه (10 دولارات) على الطالب الواحد في العام الدراسي 2024-2025.
ينضاف إلى ذلك تراجع دور الجمعيات الأهلية، بحسب الخبير ذاته.
وبلغت أعداد المتسربين من المرحلة الابتدائية 39 ألفا، بنسبة وصلت إلى 0.3٪. وفي المرحلة التي تليها، وهي الإعدادية، كانت أعداد المتسربين حوالي 37.3 ألف تلميذ في سن التمدرس، بنسبة 0.7٪، بحسب بيانات رسمية نشرها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء للعام 2021-2022.
وكانت الحكومة تخطط لفرض غرامات على الأهالي الذين يمنعون أبناءهم من استكمال التعليم، وحرمانهم من الدعم وتقليص الخدمات المجانية المقدمة إليهم أو بوسائل أخرى، لكن مجلس النواب رفض تلك الخطة التي قدمتها الحكومة في صورة مشروع قانون لمحاربة التسرب عام 2022، باعتبار أنها تزيد الأعباء على الأسر، في ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية.
ولطالما حلم طارق بالعودة إلى الدراسة، خاصة أن مستواه كان جيدا ويؤهله للالتحاق بإحدى الجامعات العلمية التي يحلم بها. وكان يتوقع أن يحمل مقترح البكالوريا الجديد بنودا لتقديم دعم مادي للطلاب الذين يعانون ظروفا مادية واقتصادية صعبة أو على الأقل خفضا في المصاريف السنوية، لكن العكس هو ما حدث.
"هل المطلوب أن يصبح التعليم للأغنياء فقط؟" يتساءل طارق.
المدرسون.. أزمتي نقص الكوادر وتدني الرواتب
الاعتراضات التي تطال نظام البكالوريا الجديد لم تصدر فقط عن الطلاب أو أولياء الأمور، بل حتى المدرسين، إذ يعتبرون أن وزارة التربية التي تعد ركيزة أساسية لنظام تعليمي ناجح، تجاهلت أزماتهم.
ويطالب المدرسون في مصر منذ سنوات بفسح مجال التعيينات الجديدة لسد العجز في الكوادر التعليمية، "ويطالبون بزيادة مرتباتهم التي أصبحت لا تكفي لتغطية جوانب الحياة، خاصة بعد موجات الغلاء المتتالية، بدلا من محاسبتهم على الدروس الخصوصية"، يقول كمال مصطفى، مدرس لغة فرنسية (اللغة الثانية في الثانوية العامة)، في حديثه مع موقع "الحرة".
ويضيف: "نحن مجبرون على الدروس الخصوصية، فبدونها لا نستطيع العيش، أو علينا البحث عن وظيفة أخرى بمرتب أعلى".
ويشكو المدرسون، من جهة أخرى، من عدم توفر "ظروف عمل آدمية" في المدارس، "لأن كل مدرس لديه أسبوعيا عددا يفوق قدراته من الحصص، بسبب العجز في أعداد المدرسين واكتظاظ الفصول".
يقول مصطفى إن هناك حاجة لـ259 ألف مدرس لسد العجز في أعداد المدرسين في المؤسسات التعليمية الحكومية.
وقد ارتفع العجز "نتيجة لخروج آلاف المعلمين على المعاش دون أي تعيينات جديدة، في مقابل استمرار زيادة أعداد الطلاب سنويا".
وأدى قرار بعض المدارس دمج الفصول في الحصص غير الأساسية بسبب وجود عجز في المعلمين، وتراجع معدلات بناء مدارس حكومية جديدة إلى اكتظاظ الفصول الدراسية.
ولم تتراجع حدة الاكتظاظ رغم أن كثيرا من الأسر اختارت إبقاء أبنائها في المنازل يومين أو ثلاثة في الأسبوع لتقليص نفقات ذهابهم وعودتهم وواجباتهم المدرسية، يقول مصطفى.
"الرسوم التي فرضتها الوزارة على كل مرة يُحسن فيها الطالب مجموعه ما هي إلا محاولة لضخ بعض الأموال في خزينة الوزارة، التي تعاني من عجز واضح في ميزانيتها"، يتابع المتحدث.
وخصص مشروع موازنة السنة المالية الجديدة 2025/2024 نحو 294 مليار جنيه لقطاع التعليم، وفقا للبيان المالي للموازنة، ليمثل الإنفاق على التعليم 1.7% من الإنفاق العام، وهو ما يقل عن نصف الاستحقاق الدستوري لهذا القطاع، كما يمثل تراجعًا في نسبة الإنفاق على التعليم من الناتج المحلي مقارنة بموازنة العام المالي الماضي (2024) والتي بلغت 1.94٪.
وطبقا للدستور الذي صدر عام 2014، يتوجب تخصيص 3% من الإنفاق العام للدولة لقطاع التعليم، على أن ترتفع سنويا حتى تصل إلى المعدلات العالمية.
وأعلنت الحكومة في أبريل 2024، زيادة مخصصات التعليم بنسبة 2% من الإنفاق العام في الموازنة العامة للدولة، أي من 230 مليار جنيه (4.7 مليارات دولار) إلى 299 مليار جنيه (6.1 مليارات دولار) في العام المالي 2025، من مجمل الدخل القومي البالغ ما يقرب من 11.8 تريليون جنيه (242.8 مليار دولار).
ومنذ منتصف 2013، توقفت التعيينات الحكومية في المدارس الحكومية. وبلغ عدد المدرسين في التعليم الحكومي عام 2014 أكثر من 1.4 مليون معلم، في حين انخفض في عام 2021 إلى أقل من 900 ألف، ما يعني نقصا بحوالي نصف مليون مدرس، وفق آخر إحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
وتبقى أحلام عبير وأبنائها وطارق ومصطفى ومنهم ملايين المصريين بتعليم أفضل، يقوم على أساس مبدأ العدالة الاجتماعية ويراعي الطبقات البسيطة في مصر، معلقة بقرارات حكومية تضع إصلاح منظومة التعليم على رأس الأولويات.