"عندنا ثانوية عامة".. يعرف المصريون ما تعنيه هذه العبارة جيدا، ويدركون تبعاتها الفادحة.
هي على الطريقة المصرية تعني التنبيه إلى "حالة طوارئ": هناك طالب بالمنزل بلغ امتحان الشهادة المؤهلة للجامعات، وبالتالي ستعيش الأسرة بأكملها على مدار الشهور المقبلة على وقع "معركة" تتجاوز ضغوط خوض الامتحان المصيري إلى معاناة من نوع آخر، مالية ونفسية وإنسانية.
للثانوية العامة في مصر قصص عمرها سنوات، بل عقود..
في أرض الكنانة يخوض الطالب ذلك الامتحان المخيف بعد استعدادات تبدأ حتى قبل بدء السنة الدراسية.
يضع أولياء الأمور خططا مالية تقشفية، قد تستمر سنوات، من أجل توفير آلاف الجنيهات التي ستنفق لا محالة على الدروس الخصوصية أو "السناتر"، والمصطلح الأخير لمن لا يعرف يعني قاعات مؤجرة لتلقي دروس، حيث يحتشد الطلاب بالمئات ويتلقون شرحا "مميزا" بمقابل مالي عن كل مادة، وكل حصة.
هل ثمة خلاص من "كابوس الثانوية العامة"..؟
وزارة التربية والتعليم ووزيرها الجديد (تقلد منصبه قبل شهور) اعتبرا أنهما وجدا الحل أخيرا في "البكالوريا".
ولكن ماذا تعني الكلمة الأنيقة ذات الأصل الفرنسي؟
إنها باختصار نظام تعليمي جديد/قديم، يستعيد الاسم الرسمي لشهادة إتمام الدراسة الثانوية في مصر خلال عقود غابرة استمرت حتى منتصف القرن الماضي، ولكن بتفاصيل جديدة تلائم مصر العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
في البكالوريا الجديدة الكثير متاح للطلاب وأولياء الأمور.. بالاختيار، والأموال.
يختار الطالب مواد الدراسة حسب ميوله، كما يمكنه خوض الامتحان أكثر من مرة، الأولى بالمجان، ثم يبدأ الدفع مقابل دخول امتحان جديد لتحسين المجموع بالمواد التي يريدها.
وزير التعليم محمد عبد اللطيف يرى أن "مصير الطالب لا يمكن أن يكون مرتبطا بامتحان واحد"، ويشدد على أن خطته "مجرد مقترح"، وأن وزارته منفتحة على أي تعديلات عليه يمكن الوصول إليها عبر "حوار مجتمعي" انطلق بالفعل اليوم الثلاثاء.
يقول الوزير إنه كانت هناك 32 مادة يتم تدريسها في مصر، وهو عدد مواد غير مسبوق، معتبرا أن نظام "البكالوريا" الجديد سيقضي على الدروس الخصوصية، ويرفع الضغط النفسى عن كاهل الطلاب وأولياء الأمور.
كما يتطرق عبد اللطيف إلى نقطة جوهرية أخرى، ولكن من دون تفاصيل مهمة، مشيرا إلى أنه سيتم "إعفاء غير القادرين من رسوم محاولات التحسين"، بحسب تعليقات نقلها الموقع الرسمي للهيئة الوطنية للإعلام.

المقترح الجديد والتوضيحات بشأنه، والتعديلات المطلوبة، كلها أثارت عاصفة من الجدل في مصر.
مهللون ورافضون ومعلقون كل يدلي بدلوه.. الكل يتحدث، إما عن مزايا أو عن عيوب.. إشادات ولعنات، ثم تعليقات لا تنتهي عن ماذا تريده الأسر المصرية للخلاص من "ابتلاء" الثانوية العامة.
وزير التعليم السابق رضا حجازى يرى أن تكون البكالوريا المصرية على سنة دراسية واحدة، مشيرا إلى أن الشهادة بنظام العامين نظام عمل به سابقا، ثم تم العدول عنه نظرا لما يسببه من إرهاق للأسرة المصرية نفسيًا وماديًا.
خبراء آخرون استغربوا بدء تطبيق "البكالوريا" في حال تبنيها من العام المقبل، وتساءلوا عن سبب الاستعجال غير المبرر، بينما يستحق الأمر من وجهة نظرهم سنوات لدراسته وتقييمه، والتأكد من جدواه.
وزير التعليم، صاحب الاقتراح، أكد خلال أولى جلسات الحوار، الثلاثاء، أن مقترح شهادة البكالوريا المصرية، بما يتضمنه من تفاصيل، جاء بمقتضى خطط تم وضعها ودراستها ومراجعتها من الخبراء وأعضاء المجلس القومى للبحوث التربوية، وأساتذة كليات التربية، فضلًا عن جلسات مكثفة تم عقدها لدراسة هذا الأمر مع المجلس الأعلى للجامعات.
ونوه الوزير إلى حتمية عدم ترك 3 ملايين طالب سيلتحقون بالمرحلة الثانوية يعانون من دراسة 32 مادة، و"هو ما لا يتم تطبيقه بأي دولة أخرى".
كما تطرق بالقطع إلى القضية المثيرة للجدل، مشيرا إلى أن خوض الامتحان لأول مرة سيكون بالمجان، أما المحاولات اللاحقة فتكون مقابل رسوم (مقابل مادي)، مع تأكيده على إعفاء "غير القادرين"، دون توضيح من هم، أو آلية تحديدهم.
"المقابل المادي" يبقى معضلة شديدة الأهمية في بلد تتباهى حكوماته المتعاقبة بأن التعليم فيه، ولو نظريا، متاح بالمجان.
وتلك النقطة بالذات كانت مدخلا لانتقادات من نوع آخر للمقترح باعتباره "غير دستوري" يميز بين فرص القادرين وغير القادرين في الالتحاق بالجامعات، عبر البوابة الحكومية "المجانية".
كما أن حديث المال يثير شجونا من نوع آخر في كل بيت مصري تقريبا، فالأزمة الاقتصادية التي يعيشها المصريون خلال السنوات الأخيرة، باعتراف مصادر رسمية، لا تتحمل المزيد من الأعباء، حتى إن تعلق الأمر بمستقبل الأبناء.

ماذا يقول المصريون؟
"هو المهم في الليلة كلها الـ500 جنيه على كل ملحق أو إعادة (امتحان)"، هكذا يرى أحدهم على تطبيق إكس "نية الحكومة الحقيقية" في فرض النظام الجديد وهو ببساطة الحصول على المقابل المقترح لإعادة كل امتحان.
وآخر يؤكد: "الامتحان بـ500 جنيه.. دا (هذا) الهدف من الحوار (الموضوع).. سبووبه (مصلحة مالية)".
"من يمتلك المال يتعلم.. هذا هو ملخص النظام الجديد".. كان تأكيدا آخر على رأي كثيرين بشأن الهدف وراء المقترح الجديد.
وفي تعليق آخر تساءل أحدهم: "سؤال: هل وزير التعليم القادم موافق؟ ولا حيلغي الكلام ده؟"، في إشارة إلى تغيير نظام التعليم برمته مع كل حكومة.
"فليحيا الملك فاروق الأول.. لابد من رجوع الملكية مرة أخرى ".. تعليق ساخر يذكر باسم شهادة البكالوريا التي كانت سائدة في العهد الملكي وقبل تحول مصر إلى جمهورية عام 1953.
وآخر سخر بطريقة مختلفة: "فكرة عبقرية تقضي على الدروس الخصوصية بالقضاء على التعليم".
وتطرق تعليق على "إكس" إلى أصل المشكلة من زاوية أخرى: "لما يبقى فيه مدارس، ومدرس بيشتغل علشان (لأنه) بيأخذ مرتب يعيشه عيشة محترمة مش هيبقى في (لن يصبح هناك) دروس خصوصية".
لكن آخرين لم يرفضوا "التطوير" بشكل مطلق: "من حيث المبدأ، أنا لست معترضًا على مقترح نظام الثانوية العامة “البكالوريا” الجديد - الذي يبدو مستوحًى من نظام الثانوية البريطانية - رغم تغييره كل سنتين في ظل غياب مجلس أعلى للتعليم منوط به وضع خارطة طريق واضحة لمستقبل التعليم في مصر".
وقال آخر: "الشيطان يكمن فى التفاصيل وحتى الآن لم يُفصح عنها.. البكالوريا نظام تعليمى ناجح (فى الدول اللى عايزة تعليم).. سنتين، والطالب بيختار ما يدرسه (..)".
يبرر الوزير ويفسر خبراء ويتحدث كثيرون.. بينما يتحسس العديد من الآباء والأمهات في ربوع مصر جيوبهم ويطردون هواجسهم..
"ثانوية عامة" أم "بكالوريا"؟.. الاسم لا يهم.. ما يريده هؤلاء فرصا عادلة ونهاية لاستنزاف مرير.. ما يعنيهم حقا هو الخلاص من كابوس يبدو قدرا محتما على كل بيت "عنده ثانوية عامة".