عبدالناصر

التسجيل يعود للثامن من أغسطس 1970، ثلاث سنوات تقريباً بعد حرب عام 1967 التي سطّرت هزيمة قاسية لمصر، أطلق عليها العرب مصطلح "النكسة"، وقبل أقل من شهرين على وفاته في 28 من سبتمبر من ذلك العام.

جمال عبد الناصر، الزعيم المصري الذي نال شعبية كبيرة في العالم العربي، بسبب أفكاره "العروبية"، وخطاباته الحماسية التي تدعو إلى النضال والقتال من أجل نيل الحقوق، ظهر في التسجيل المأخوذ من لقاء جمعه بـ"تلميذه" الزعيم الليبي معمر القذافي، وكأنه شخصيه أخرى غير معروفة لملايين العرب. 

وأثار التسجيل جدلاً كبيراً على مواقع التواصل الاجتماعي.

فالشائع عن الرجل مقولات من وزن "ما أُخذ بالقوة، لا يُسترد بغير القوة"، و"القومية العربية هي التي تقرر كل شيء"، و"الوحدة العربية هي أملنا في تحرير فلسطين، وعودة حقوق شعب فلسطين". لكن التسجيل أظهر عبد الناصر في شخصية سياسية بعيدة عن هذه المقولات التي تعجّ بالحماسة والطوباوية. 

ظهر في التسجيل شخصاً أكثر واقعية، وأقل حماسة للحلول الراديكالية، منتقداً المزايدات على مصر، بشأن الحرب، ومعلناً أنه لا يريد أن يحارب: "من يريد أن يحارب، فليأت ويحارب، وحلوا عنا بقى".

في مقطع آخر من التسجيل يسأل القذافي عبد الناصر عن مشروع روجرز (مبادرة لوقف اطلاق النار بين مصر واسرائيل قدمها وزير خارجية الولايات المتحدة وليام روجرز في الخامس من يونيو 1970) وعما إذا كان عبد الناصر مستعداً للمضي فيه. فيجيب بالإيجاب. 

يسأل القذافي: "ممكن تعترف بإسرائيل"، فيرد عبد الناصر: "اتفاقية الهدنة فيها إقرار بإسرائيل، أنا ماضي مع إسرائيل سنة 49 عن الحكومة المصرية ده اسمه acknowledgement وفيه فرق بينه وبين الـ recognition (الاعتراف)". 

ثم يأتي دور عبد الناصر ليسأل: "إذا خيرت بين الإقرار بوجود إسرائيل وتحرير الضفة الغربية والقدس وغزة، أو لا تقر بوجود إسرائيل وتبقى القدس وغزة والضفة الغربية جزء من اسرائيل؟ فيسأله القذافي: "ليه نفترض هذا الافتراض مش ضروري تبقى محتلة؟". 

"هتبقى يا أخ معمر" يقول ناصر، "قولي هنحرر امتى؟ يا أخ معمر هنحرر بعد 20 سنة؟ عملية قيام إسرائيل خدت 50 سنة والتوسع الجديد خد 20 سنة، مفيش خطة عربية ولن تكون هناك خطة عربية موحدة أبداً، ده واقع العالم العربي". 

بدا عبد الناصر في التسجيل، بالنسبة إلى كثير من المعجبين بشخصه ومشروعه السياسي، وكأنه يخون نفسه وأفكاره. وانقسمت الآراء، لا سيما في ظل الحرب الدائرة في غزة، بين من وجد في تصريحه انقلاباً على الصورة الشائعة عنه، وبين من رأى في وجود خطابين، واحد جماهيري وآخر براغماتي في الغرف المغلقة، أمراً شائعاً في السياسة ويعبر عن واقعية عبد الناصر. 

وعقب نشر التسجيل، دعا عدد من أعضاء البرلمان المصري إلى إقرار قانون لحرية المعلومات يتيح وصولاً أوسع إلى السجلات الحكومية التاريخية.

الجدل حول التسجيلات كان له وقعه في المجتمع المصري، خصوصاً لجهة السؤال عن كيفية استجابة مصر للتطورات على الساحة الفلسطينية، وعما إذا كان يجب أن تقف على الحياد، أو تستجيب للمطالب بالتدخل، مع ما يحمله ذلك من احتمالات جر البلاد إلى صراعات إقليمية مستقبلية، وهي المعضلة نفسها التي دارت حولها تسجيلات عبد الناصر.

ابنة الزعيم المصري الراحل، هدى جمال عبد الناصر أدلت بدلوها مدافعة عن أبيها: "الزعيم الراحل لم يتخل يوماً عن دعم القضية الفلسطينية التي كانت حاضرة في كل الأوقات وكانت في صدارة المشروع القومي العربي".

لكن الواقع أن عبد الناصر معروف بالنسبة لدارسيه من المؤرخين، ببراغماتيته، وفي تقبله لوجود دولة إسرائيل، ولم يكن يدعو إلى "ازالتها من صفحة الوجود" كما فعل بعده روح الله الخميني ونظامه في إيران.

المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه، المعروف بمواقفه الداعمة للقضية الفلسطينية، يقول في إحدى مقابلاته إن عبد الناصر كان يخوض مفاوضات مكثفة مع الإسرائيليين في الخمسينيات، وأن هذا الأمر غير معروف بشكل واسع لدى الجمهور العربي.

وبحسب بابيه، عبّر عبد الناصر في جولات المفاوضات تلك عن قبوله بدولة إسرائيلية من دون النقب (لكي يبقي على ممر بين مصر والعالم العربي)، وقبوله فكرة وجود كيان سياسي إسرائيلي يشعر فيه اليهود بالأمان، وأن عبد الناصر لم يكن معادياً لليهود ولم يكن يريد الحرب، لكنه كان يقول إنه لا يستطيع تخطي المسألة الفلسطينية. 

ويقول بابيه إن إسرائيل في حينها هي التي كانت ترفض مبادرات السلام، ولكن غالبية الناس في الشرق الأوسط يعتقدون بالعكس. 

وليس بعيداً عن هذا السياق، يذكر الباحث الأميركي دانيال غورديس في كتابه "إسرائيل: تاريخ موجز لأمة تولد من جديد"، معلومة عن دعوة وجهها جمال عبد الناصر في نيسان من العام 1070 إلى ناحوم غولدمان رئيس المجلس الصهيوني العالمي (الذي عقد هرتزل أولى جلساته في بازل في العام 1897)، للسفر إلى القاهرة لبحث احتماليات إيجاد حل للصراع العربي الإسرائيلي.

رئيسة وزراء إسرائيل في حينها غولدا مائير، لاعتقادها أن دعوة عبد الناصر بمثابة فخ، ضغطت على غولدمان كي لا يلبي الدعوة، بحسب غورديس. 

ويتحدث الكاتب الأميركي عن أمر لافت حدث بعد رفض هذه الدعوة، يتمثل في قيام مجموعة من الطلاب الاسرائيليين بإرسال رسالة إلى مائير في ٢٨ من شهر أبريل نفسه، سألوا فيها عن أفق الصراع في ظل حرب بلا مستقبل، "بينما أضاعت حكومتنا العديد من فرص السلام"، كما جاء في الرسالة.

بعدها بشهور قليلة توفي عبد الناصر بذبحة قلبية. لكن هذه الحادثة التي يذكرها غورديس، ومعها تسجيلات ناصر مع القذافي المثيرة للجدل، تغري بافتراض ان ناصر مات وفي نفسه شيء مما ذهب إليه من بعده خليفته في حكم مصر أنور السادات في العام 1977، حينما ذهب إلى إسرائيل ووقع معها معاهدة سلام تاريخية. 

فهل كان سلام السادات، امتداداً لرغبة ناصر بعقد سلام مع إسرائيل؟ 

مصر والصين

لم يكن الدخان الذي خلفته المقاتلات الصينية في سماء الأهرامات مجرد خلفية لمناورة مشتركة بين مصر والصين. كان رسالة، بل إعلانا جيوسياسيا بأن بكين لم تعد تكتفي بمراقبة الشرق الأوسط عن بعد. 

هذه المرة، جاءت بمقاتلاتها (J-10) ووضعتها في سماء حليف استراتيجي للولايات المتحدة منذ أكثر من 40 عاما.

لمناورة "نسر الحضارة 2025" بعد رمزي أيضا.

نحن نتحدث عن أول تدريب جوي مشترك بين الجيشين الصيني والمصري. لفترة قصيرة؟ نعم. لكن الدلالة ضخمة. إنها إشارة إلى شيء ما في طور التشكل، إلى فراغ تُحاول الصين أن تملأه حيث يتراجع الحضور الأميركي.

تغيير في قواعد اللعبة

"هذه المناورات تحمل أبعادا تتجاوز التدريب. إنها تغيير في قواعد اللعبة"، يقول إيلان بيرمان، نائب رئيس مجلس السياسة الخارجية الأميركية، لموقع الحرة.

تشير هذه التدريبات النوعية، من ناحية أخرى، إلى مرحلة متقدمة في مسار التعاون العسكري الصيني المصري. فبدلا من الاقتصار على صفقات التسلح التقليدية، نشهد اتجاها واضحا نحو بناء قدرات عسكرية مشتركة وتبادل خبرات ميدانية، يضيف بيرمان.

"ورغم أن مصر ما زالت ثاني أكبر متلقٍ للمساعدات العسكرية الأميركية بعد إسرائيل، فهي ترسل إشارات واضحة: لن نعتمد على مصدر واحد. التنوع في التسليح، وتبادل الخبرات، والانفتاح على التكنولوجيا الصينية".

هذا ليس حيادا. هذه موازنة جديدة للقوة.

يشير بيرمان إلى أن "إعادة تقييم القاهرة لتحالفاتها وعلاقاتها مع واشنطن تُعتبر خطوة كبيرة، وتمثل هذه الوضعية فرصة كبيرة للصين ولمصر". ومع ذلك، فإن هذه الشراكة تتجاوز مجرد البحث عن بدائل للتسليح؛ فهي تُمثل نافذة استراتيجية بالنسبة لمصر للانفتاح على أحدث التقنيات العسكرية الصينية، وذلك في سياق جهودها المستمرة لمواجهة التحديات الأمنية المتصاعدة في محيطها الإقليمي المضطرب.

فوق الأهرامات... تحت الرادار

بدا مشهد الطائرات الصينية فوق الأهرامات وكأنه من فيلم دعائي عن القوة الناعمة الصينية. لكن خلف الصورة الرمزية، هناك رسائل أمنية كثيرة. 

تقارير إسرائيلية لفتت إلى معلومات بأن بكين تجمع معلومات استخباراتية تحت غطاء التدريبات، التي قد تكون أيضا اختبارا لقدرة الصين على القيام بعمليات عسكرية بعيدا عن حدودها.

أين واشنطن من هذا كله؟

حين تبتعد أميركا عن الشرق الأوسط خطوة، ثمة دائما من يتحرك ليملأ الفراغ. والسؤال هو: هل تتهيأ بكين لتكون البديل العسكري للولايات المتحدة في المنطقة؟

وهل تقف القاهرة على مفترق طرق فعلا، أم أنها تلوّح بورقة بكين لتحسين شروط علاقتها بواشنطن؟

تحولات في طور التشكل تُلزم واشنطن بإعادة قراءة المشهد، وإعادة ضبط إيقاع حضورها في منطقة لم تعد تتحمّل الغياب الأميركي.

التعاون الثنائي

على الصعيد الثنائي، تشير هذه التدريبات النوعية إلى مرحلة متقدمة في مسار التعاون العسكري بين الصين ومصر. فبدلا من الاقتصار على صفقات التسلح التقليدية، نشهد اتجاهًا واضحًا نحو بناء قدرات عسكرية مشتركة وتبادل خبرات ميدانية.

يرى بيرمان في هذا السياق أن "الحكومة الصينية تسعى بوضوح إلى سد الفجوات في المناطق التي يتراجع فيها نفوذ الولايات المتحدة ومصالحها، وتحاول استغلال هذه العلاقات لصالحها ولإضعاف الغرب". 

ويضيف: "هذا التدريب المشترك يحمل أهمية كبيرة من الناحية الجيوسياسية".

يُعد اختيار القاهرة شريكًا استراتيجيًا لإجراء هذه المناورات المتقدمة دليلاً على اعتراف الصين المتزايد بالدور الحيوي الذي تلعبه مصر في المنطقة. كما يعكس هذا الخيار سعي بكين الحثيث لتعزيز نفوذها في منطقة الشرق الأوسط الحيوية عبر تأسيس تعاون عسكري متين مع قوة إقليمية مركزية كالقاهرة، وفقا لإيلان.

تنوع مصادر التسليح

تحصل مصر على مساعدات عسكرية بنحو 1.3 مليار دولار سنويا، وهي ثاني أكبر متلق للدعم العسكري الأميركي بعد إسرائيل. لكن على الرغم من ارتباطات مصر العسكرية التقليدية، تعتبر القاهرة شراكتها المتنامية مع الصين فرصة استراتيجية لتنويع مصادر التدريب والتسليح.

"إعادة تقييم القاهرة لتحالفاتها وعلاقاتها مع واشنطن تُعتبر خطوة كبيرة، وتمثل هذه الوضعية فرصة كبيرة للصين ولمصر"، يقول بيران.

تحولات استراتيجية قيد التشكل

بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين، تُثير هذه المناورات تساؤلات حول أهداف التعاون المصري الصيني، خاصة في ظل التنافس الاستراتيجي المحتدم بين واشنطن وبكين على النفوذ.

من زاوية أخرى، تشير المناورات أن الصين تحاول اختبار قدراتها على تنفيذ عمليات عسكرية مشتركة بعيدة عن قواعدها الرئيسية، وتقييم درجة التوافق التشغيلي بين أنظمتها العسكرية وأنظمة دول أخرى ذات خصائص مختلفة.

ويذهب إيلان بيرمان، نائب رئيس مجلس السياسة الخارجية الأميركية، في حديثه مع موقع "الحرة" إلى أن "المناورات الجوية الصينية المصرية "نسر الحضارة 2025" تتجاوز الإطار التقني للتدريبات العسكرية لتُمثل مؤشرا جيوسياسيا بالغ الأهمية". 

وتحمل المناورات في طياتها رسائل إقليمية ودولية متعددة الأبعاد، خصوصاً بعد إعادة الولايات المتحدة صياغة سياستها الخارجية على مستوى العالم، بما في ذلك منطقة الشرق الأوسط، مما يخلق كثيرا من الفراغ السياسي.