في خطوة قد تُحدث تحولا في المشهد الجيوسياسي، أبدى المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية علي خامنئي، الثلاثاء، استعدادا لاستئناف التفاوض مع الولايات المتحدة بشأن برنامج إيران النووي، وذلك في وقت حرج يشهد فيه العالم توترات شديدة في منطقة الشرق الأوسط، مع استمرار حرب إسرائيل على غزة، واغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران الشهر الماضي.
وبعد يوم من زيارة رئيس الوزراء القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني لطهران، قال خامنئي إنه "لا ضرر في تعامل إيران مع عدوها"، في إشارة إلى الولايات المتحدة على ما يبدو.
تعليقات خامنئي، الذي يتمتع بالسلطة النهائية في جميع شؤون الدولة، تشبه تلك التي أدلى بها قبل توقيع الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015 مع القوى العالمية. ذلك الاتفاق أدى إلى تقليص كبير في برنامج إيران النووي مقابل رفع العقوبات الاقتصادية عنها.
ومع ذلك، لا يزال من غير الواضح إلى أي مدى سيكون لدى الرئس الإيراني الجديد، مسعود بزشكيان، المجال للمناورة، خاصة مع استمرار التوترات في الشرق الأوسط الأوسع نطاقا بشأن الحرب بين إسرائيل وحماس ومع استعداد الولايات المتحدة للانتخابات الرئاسية في نوفمبر.
ويرى المحلل السياسي الإيراني سعيد شاوردي في حديث لموقع "الحرة" أن تصريحات خامنئي تأتي في إطار وضعه خطوطا حمراء واضحة لأي محادثات تجري في ظل حكومة الرئيس الإصلاحي مسعود بزشكيان، إذ جدد خامنئي تحذيراته من أن "واشنطن لا ينبغي الوثوق بها".
وأضاف شاوردي إن خامنئي عندما سمح بإجراء مفاوضات مع الولايات المتحدة منذ البداية في 2015 مع مجموعة 5+1 المكونة من الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن الدولي بالإضافة إلى ألمانيا بشأن البرنامج النووي، قال حينها إنه "يجب أن نبدي "مرونة بطولية" ويعني أنه بالرغم من إيماننا بعدم جدوى إجراء مفاوضات مع الغرب والولايات المتحدة، فسنبدي مرونة وسنتفاوض لحل المشاكل والخلافات عبر الحوار، ولكنه أوصى الوفد المفاوض الذي ترأسه في ذلك الوقت محمد جواد ظريف، نائب الرئيس الحالي، بأنه يجب ألا ينخدعوا ولا يفرطوا في حقوق الشعب الإيراني وأن يكونوا حذرين أثناء إجراء المفاوضات".
البحث عن دور إقليمي
يرى المحلل في معهد الشرق الأوسط في العاصمة الأميركية واشنطن، سمير التقي، في حديث مع موقع "الحرة" أن "موضوع الاتفاق النووي الإيراني غير قابل للإحياء بعد أن وصلت طهران إلى مرحلة متقدمة في تطوير برنامجها النووي".
ويقول التقي إن تصريحات خامنئي تشير إلى أن إيران تحاول أن تجد لنفسها مكانا في المفاوضات المتعلقة بالوضع الإقليمي في مرحلة ما بعد الحرب في غزة.
ويشير إلى أن إيران بالفعل تحاول أن تجلس على الطاولة "وهي عمليا أرسلت مفاوضا إلى الدوحة لا يشارك في المفاوضات بشكل مباشر لكنه يتراسل ويتواصل مع القطريين في هذا المجال، لذلك من الواضح أنها تبحث عن دور ولا تريد أن تُغلَق ملفات غزة قبل أن يحدد دور مستقبلي لها في هذه العملية".
ويضيف التقي أن "إيران تريد أيضا أن تأخذ ثمنا ودورا معينا في شأن دورها الإقليمي كنوع من المقايضة حال أحجمت عن توجيه ضربة واسعة مفتوحة إلى إسرائيل، وهي تريد أن ترى ما هو الثمن الذي يمكن أن تدفعه الولايات المتحدة".
من جانبها علقت وزارة الخارجية الأميركية على تصريحات خامنئي بأن الولايات المتحدة "ستحكم على قيادة إيران من خلال أفعالها وليس أقوالها"، بحسب ما نقلت عنها وكالة "أسوشيتد برس" الثلاثاء.
وقالت الوزارة: "لقد قلنا منذ فترة طويلة إننا ننظر في نهاية المطاف إلى الدبلوماسية باعتبارها أفضل وسيلة للتوصل إلى حل فعال ومستدام في ما يتصل بالبرنامج النووي الإيراني، ومع ذلك، فإننا بعيدون كل البعد عن أي شيء من هذا القبيل في الوقت الحالي في ظل التصعيدات الإيرانية على كافة الأصعدة، بما في ذلك التصعيد النووي وفشلها في التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية".
"قنبلة على الرف"
ويقول شاوردي إن "إيران وقعت على الاتفاق النووي لأنها كانت تعتقد أنه سيؤدي إلى انفتاح ورخاء اقتصادي واستقطاب للاستثمارات الأجنبية، لكن في الحقيقة، نحن لم ننتفع منه".
ويضيف: "نحن التزمنا بجميع بنود الاتفاق النووي ولكن الطرف الآخر لم يلتزم، ونحن خسرنا في الواقع لأننا أوقفنا البرنامج النووي وصدرنا الماء الثقيل إلى الخارج، وبعنا ما كنا قد أنتجناه من يورانيوم وأجهزة الطرد المركزي، وفي المقابل لم ننتتفع بشيء".
ويشير شاوردي إلى أن "إيران تعلمت الدرس هذه المرة، وترى أن المفاوضات لن تكون لها نتيجة، ولكن بما أن حكومة الرئيس الجديد وعدت بأنه ستسمر بالمفاوضات، فإن خامنئي يقول للحكومة بأنهم عندما يتفاوضون عليهم ألا يبنوا آمالا عريضة على هذه المفاوضات ولا يوقفوا العمل في البرنامج النووي خلالها، وأن عليهم أن يسخروا كل ما لدينا من إمكانات وطاقات لتحقيق ما نهدف إليه من المفاوضات".
ويتابع شاوردي لموقع "الحرة" أن "الولايات المتحدة تريد تقريبا إنهاء البرنامج النووي بشكل كامل وألا يكون هناك تخصيب يورانيوم لمستوى يزيد عن 3.67 في المئة ولا تكون هناك أجهزة طرد مركزي متقدمة بعد أن وصلنا إلى نسبة نقاء تصل إلى حوالي 60 في المئة"، مشيرا إلى أن بلاده لن تقبل أبدا هذه الشروط "أو العودة إلى الامتثال إلى الاتفاق النووي السابق الذي انسحبت منه واشنطن بشكل أحادي في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب".
وخلال الفترة الماضية، حث خامنئي، البالغ من العمر 85 عاما، أحيانا على إجراء محادثات أو رفضها مع واشنطن بعد أن انسحب ترامب من جانب واحد من الاتفاق في عام 2018.
وبالرغم من أن الولايات المتحدة وإسرائيل تعهدتا مرارا وتكرارا من أنهما لن يسمحا لإيران بامتلاك قنبلة نووية، يرى التقي أن فكرة عودة إيران للتفاوض على الاتفاق النووي السابق مستبعدة.
ويرى التقي أنه "يمكن أن يعود التفاوض تحت اسم الملف النووي الإيراني ولكن من أجل التوصل إلى ضوابط لمنع إيران من الانتقال إلى دولة تمتلك القدرة على إنتاج سلاح نووي "وهو ما نصنفه بالدول التي تمتلك بما يسمى بـ"القنبلة على الرف" مثل العديد من الدول الأخرى في العالم التي لديها القدرة على إنتاج السلاح النووي ولكنها لا تنتجها، مثل ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية والعديد من الدول".
وأشار التقي إلى أن "الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومنظمة مراقبة الأسلحة النووية أعلنتا أن إيران عمليا على بعد بضعة أشهر من القدرة على امتلاك سلاح نووي، ليست منتجة للقنبلة ولكنها ستكون على الرف ويمكن إنتاجها ما أن يصدر قرار بذلك، وبالطبع يجري مراقبة ذلك عن كثب".
منذ انهيار الاتفاق، تخلت إيران عن جميع القيود التي فرضها الاتفاق على برنامجها، وتخصب اليورانيوم بنسبة نقاء تصل إلى 60 في المئة بالقرب من مستويات الأسلحة التي تبلغ 90 في المئة.
وعطلت إيران كاميرات المراقبة التي نصبتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومنعت بعض مفتشي الوكالة من دخول البلاد. كما هدد المسؤولون الإيرانيون بشكل متزايد بإمكانية سعيهم للحصول على أسلحة نووية.
وفي الوقت نفسه، وصلت التوترات بين إيران وإسرائيل إلى مستوى جديد خلال الحرب بين إسرائيل وحماس في قطاع غزة.
وشنت طهران هجوما غير مسبوق بطائرات من دون طيار وصواريخ على إسرائيل في أبريل بعد سنوات من الحرب الخفية بين البلدين، والتي بلغت ذروتها مع الهجوم على مبنى قنصلي إيراني في سوريا، أسفر عن مقتل اثنين من الجنرالات الإيرانيين وآخرين.
ودفع اغتيال زعيم حماس، إسماعيل هنية في طهران، إيران إلى التهديد بالرد على إسرائيل.
"البرنامج النووي ليس المشكلة الأكبر"
ويرى التقي أن "التفاوض على المدى الطويل لن يكون على البرنامج النووي ولكن على أذرع إيران ودورها المزعزع للاستقرار في المنطقة".
وقال: "بعد السابع من أكتوبر باتت المشكلة الأكبر هي قضية أذرع إيران في المنطقة، وهو ما أكدا عليه المرشحان للرئاسة الأميركية، دونالد ترامب وكامالا هاريس".
وأشار شاوردي إلى أن هناك مفاوضات خفية بالفعل ورسائل غير مباشرة بين طهران وواشنطن.
وقال: "قبل زيارة رئيس وزراء قطر لإيران، كان هناك حديث يدور عن وساطة عمانية بين الإيرانيين والأميركيين بشأن الملف النووي وملفات أخرى، ولكن لم تصرح بذلك إيران بشكل رسمي".
وقطر وعمان لهما علاقات مع إيران ومحاوري الولايات المتحدة في الشرق الأوسط عندما يتعلق الأمر بإيران.
وكان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في قطر الأسبوع الماضي قبل أن يزور آل ثاني طهران الاثنين.
وقالت وزارة الخارجية الأميركية الثلاثاء "إذا كانت إيران تريد إظهار جدية أو نهج جديد، فعليها أن تتوقف عن التصعيد النووي وتبدأ في التعاون بشكل هادف مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية".