قيادة النظام غير مبالية بمحنة الإيرانيين
قيادة النظام غير مبالية بمحنة الإيرانيين

تتأهب إيران لاحتمال تعرضها لهجوم إسرائيلي، وبينما أعلن كبار مسؤوليها عزمهم على الرد بحزم، ورفع درجة استعداد القوات المسلحة إلى أقصى مستوى، أظهر استقصاء لآراء الشارع الإيراني، عبر لقاءات مباشرة ومنصات التواصل الاجتماعي، تنامي قلق المواطنين من إمكانية اندلاع حرب شاملة.

وفي مقابلات هاتفية مع أكثر من 12 إيرانياً في مدن مختلفة، كشف رجال ونساء من مختلف الانتماءات السياسية لصحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، أنهم لا يريدون ولا يدعمون حربا في مواجهة إسرائيل أو الولايات المتحدة.

وأضاف المتحدثون للصحيفة، أنهم يعانون بالفعل بسبب الوضع الاقتصادي السيئ للبلاد، والعقوبات الأميركية، والفساد والقمع، معتبرين أن الدخول في حرب من شأنه أن يفاقم هذه المصاعب ويغرق إيران في مزيد من الفوضى.

"لا للحرب"

وقالت مهدية، وهي مهندسة تبلغ من العمر 41 عاما في طهران، في مقابلة هاتفية: "لا أحد أعرفه مستعد لحرب محتملة. نحن مصدومون، دعونا نعيش حياتنا الطبيعية. نحن لسنا على استعداد أو نريد الدخول في حقبة حرب".

وطلبت السيدة الإيرانية، عدم نشر اسمها الأخير خوفا من الانتقام. وكشفت أنها أعدت مع زوجها "حقيبة طوارئ" تحتوي على وثائقهما، في حالة اضطرارهما لمغادرة طهران.

وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، انتشرت رسالة شاركها العديد من الإيرانيين تقول: "لا للحرب"، و"أي ملاجئ ستستخدمونها لحماية الشعب؟.. كيف ستصلحون البنية التحتية المتضررة؟، ولا خير في الحرب، ولا تدمروا إيران".

والإثنين، أطلقت إيران 180 صاروخاً باليستياً على إسرائيل "رداً" على قتل إسرائيل لحليفها الإقليمي الأبرز، الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، ومقتل جنرال إيراني كبير في بيروت، والقائد السياسي لحماس في طهران.

وفي أبريل، نفّذت إيران هجوما صاروخيا مماثلا على إسرائيل "ردّا" على قصف قنصليتها في دمشق، الذي اتهمت به إسرائيل، دون أن تعلق الأخيرة. وكانت تلك المرة الأولى على الإطلاق التي تقصف فيها إيران الأراضي الإسرائيلية مباشرة.

وتوعّدت إسرائيل بالردّ على الهجوم الإيراني "في الوقت والتاريخ" اللذين ستختارهما.

وسافر الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، الأربعاء، إلى قطر، حيث قال إن بلاده لا تسعى للحرب، مضيفاً: "لا يوجد منتصرون في الحرب، نحن نعرف هذا"، قبل أن يحذر من أن طهران سترد بـ"قوة أكبر إذا ارتكبت إسرائيل أقل خطأ".

وقالت بعثة إيران لدى الأمم المتحدة في بيان، إن طهران وواشنطن تبادلتا رسائل من خلال وسيطهما الرسمي في العاصمة الإيرانية، في أعقاب الهجوم على إسرائيل.

وأضاف البيان، أن إيران "ستعتبر أي دولة تقدم المساعدة لإسرائيل في شن هجوم ضدها، بمثابة شريك وهدف مشروع" للرد الإيراني.

"الخوف والقلق"

لكن رغم التصريحات الرسمية الحادة، بدأ حتى بعض مؤيدي النظام الذين سبق أن دعموا الهجمات على إسرائيل، يدركون مخاطر حرب شاملة، وأصبحوا وفقا للصحيفة الأميركية، يتخوفون من آثارها المدمرة على البنية التحتية للبلاد واقتصادها.

وفي مواجهة هذا الاحتمال، قال البعض إنهم يأملون بأن يكون رد إسرائيل "محدوداً"، وأن تنتهي أي ضربات متبادلة بسرعة.

من جانبه، قال عالم الاجتماع البارز المقرب من التيار الإصلاحي في إيران، حميد رضا جلائي بور، في نقاش على تطبيق كلوب هاوس: "كان علينا أن نصفعها (إسرائيل) على وجهها، وإلا فإنها ستستمر في التقدم.. إذا كانت هناك حرب، فستكون مفروضة علينا".

وتوقّع أنه في حالة نشوب حرب، "ستتوحد غالبية الإيرانيين خلف العلم للدفاع عن بلادهم بقوة، وسيضعون الخلافات جانباً".

لكن الاستياء من الحكومة عميق، وفي موجات الاحتجاجات التي شهدتها إيران، خاصة التي خرجت بعد مقتل الشابة مهسا أميني إثر احتجازها من قبل شرطة الأخلاق، دعا المتظاهرون إلى إسقاط النظام الحاكم.

وحسب الصحيفة، فقد تحوّل الولاء والحماس الأيديولوجي للسنوات الأولى من الثورة، عندما تطوع حتى المراهقون للخطوط الأمامية في الحرب التي استمرت 8 سنوات ضد العراق، إلى "يأس وإحباط من الوضع الراهن".

وأعرب بعض معارضي النظام عن غضبهم من أن "إيران ضربت إسرائيل في المقام الأول، مما عرض حياة وسلامة مواطنيها (الإيرانيين) للخطر من أجل قضية خارج حدودها".

والآن بعد أن بدت الهجمات الإسرائيلية محتملة ووشيكة، لم تعلن الحكومة عن أي تدابير طوارئ لتحضير السكان للحرب.

وقال ماهان، وهو طبيب يبلغ من العمر 50 عاما، في مدينة رشت الشمالية: "معظمنا غير سعداء بتدخل طهران في المنطقة وما يسمى بوكلائها. الناس لا يريدون إنفاق مواردهم الوطنية في الخارج".  

وتابع: "الشعور الأكثر إلحاحا هذه الأيام، بالنسبة لي وللغالبية العظمى من الأصدقاء والناس الذين أعرفهم، هو الخوف والقلق من الحرب"، وفق "نيويورك تايمز".

ما بعد خامنئي

بحركات بطيئة - مدروسة - يسير، عادة، رافعا يديه في إيماءة روتينية بينما يهتف الحشد باسمه. فصاحب الثمانين عاما، لا يزال ينشب قبضته بقوة في صولجان السلطة، بوصفه "المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية". 

لكن خلف طقوس التعظيم هذه، يزداد السؤال وضوحا يوما بعد يوم: من بعد خامنئي؟ 

أو، بالأحرى، ماذا بعده؟

في نظام يركّز السلطة في يد رجل واحد، لن يكون رحيل هذا الرجل مجرد تغيير في القيادة. خامنئي ليس فقط رأس النظام والقائد الأعلى للقوات المسلحة، بل هو القول الفصل في السياسات الخارجية، وشؤون الأمن والدفاع، وهو المحور الروحي - السياسي الذي تدور حوله كل مؤسسات الجمهورية الإسلامية. 

غيابه لا يترك فراغا فحسب، بل قد يزلزل أسس النظام.

الحاكم الأوحد

منذ أن أصبح المرشد الأعلى عام 1989، أعاد خامنئي تشكيل منصب ولاية الفقيه ليصبح مؤسسة شخصية أكثر من كونه منصبا دينيا تقليديا. فقد تحول من مجرد دور ديني إلى مركز ثقل لكل مؤسسات القوة في الدولة، بدءا من الحرس الثوري الإيراني ومجلس صيانة الدستور، وصولا إلى القضاء والمؤسسات الدينية.

يقول نظام مير محمدي، الباحث القانوني والمحلل في الشأن الإيراني، في حديث مع "الحرّة"، إن القيادة في إيران تتجاوز بكثير المسائل الدينية. 

"المرشد يلعب دورا لا غنى عنه في إدارة الأزمات، واحتواء الخلافات الحزبية، ورسم الخطوط الحمراء في السياسة الخارجية والأمنية. وأي فراغ في هذا المنصب قد يشكل تهديدا حقيقيا للنظام"، حسب قوله.

وعلى الرغم من أن المادة 107 من الدستور الإيراني تنص على أن مهمة اختيار المرشد تقع على عاتق مجلس خبراء القيادة، أظهرت التجارب التاريخية أن عملية اختيار خليفة للمرشد غالبا ما افتقرت إلى السلاسة والشفافية.

المنافسات الخفية، وتدخل الأجهزة الأمنية، وصراع الأجنحة السياسية، كلها عوامل تؤثر في عملية الاختيار. كما أن التعديلات الدستورية لعام 1989، التي مهدت لتولي خامنئي منصبه رغم محدودية مؤهلاته الدينية آنذاك، أظهرت كيف يمكن تكييف هذا المنصب تبعا للظروف السياسية، وفقا لمحمدي.

الدستور والسياسة

من الناحية الدستورية، فإن مجلس خبراء القيادة، المؤلف من رجال دين منتخبين من قبل الشعب، هو الجهة المخولة باختيار المرشد الجديد في حال وفاة أو استقالة أو عزل المرشد الحالي. لكن محمدي يشدد على أن هذه العملية غالبا ما تكون عرضة لتدخلات من الحرس الثوري، ومكتب القائد، ومجلس صيانة الدستور، ومؤسسات أخرى.

وفي حالة خامنئي، تم تعديل هيكل القيادة ليناسبه. فالتغييرات الدستورية في عام 1989 ألغت شرط أن يكون المرشد مرجعا دينيا، واكتفت بأن يكون مجتهدا فقهيا. ويُنظر إلى هذه التعديلات على نطاق واسع باعتبارها ترتيبات سياسية كان الغرض منها تمكين خامنئي من تولي المنصب. وبهذا، تحولت ولاية الفقيه من نظرية فقهية إلى منصب سياسي شخصي.

"لم يبن هذا المنصب على أصول الفقه الشيعي التقليدية، بل جاء نتيجة تحول سياسي وأمني يهدف إلى تكييف المنصب مع خصوصيات وظروف خامنئي وقتها".

ويضيف محمدي أن النموذج القيادي الحالي أصبح مرتبطا تماما بشخص خامنئي. رحيله قد لا يؤدي فقط إلى أزمة في الخلافة، بل إلى انهيار الإطار الفكري والتنظيمي الذي بُني عليه النظام".

سيناريوهات الخلافة

رغم وضوح المسار الدستوري، فإن هناك عدة سيناريوهات محتملة. يرى بعض المحللين أن خامنئي ربما يسعى، بشكل غير رسمي أو حتى رسمي، إلى تعيين خليفة أو نائب قبل وفاته، مستفيدا من تجربة عزل آية الله منتظري في أواخر الثمانينيات.

وتشير تقارير إلى وجود لجان سرية داخل مجلس خبراء القيادة، وتصريحات لبعض أئمة الجمعة حول قائمة من المرشحين المحتملين، كلها تؤكد أن ترتيبات معينة قد بدأت بالفعل. ومن بين الأسماء المطروحة بشكل متكرر:

ـ صادق آملي لاريجاني: الرئيس السابق للسلطة القضائية وعضو مجلس صيانة الدستور.

ـ سيد حسن خميني: حفيد مؤسس الجمهورية الإسلامية، وله بعض الميول الإصلاحية.

ـ عبد الله جوادي آملي ومحمد مهدي ميرباقري: فقيهان بارزان لهما حضور ديني واسع.

ـ علي لاريجاني: سياسي مخضرم ورئيس سابق لمجلس الشورى.

ولكن في السنوات القليلة الماضية، برز اسم آخر بقوة: عليرضا أعرافي.

صعود عليرضا أعرافي

ولد أعرافي عام 1959، ويشغل حاليا عدة مناصب حساسة ومؤثرة، فهو مدير الحوزات العلمية في البلاد، وعضو مجلس صيانة الدستور، ونائب رئيس مجلس خبراء القيادة، وممثل محافظة طهران في المجلس. كما شغل منصب إمام جمعة مدينة قم، وكان رئيسا لجامعة المصطفى العالمية.

يتمتع أعرافي بخلفية دينية وأكاديمية قوية، وله علاقات واسعة داخل الحوزات العلمية، ويُعد عضوا بارزا في رابطة مدرسي الحوزة العلمية في قم، وهي واحدة من أكثر الهيئات الدينية تأثيرا في البلاد.

يؤكد محمدي أن أعرافي يُعتبر شخصية مقربة من "بيت القائد"، وله حضور فاعل داخل مؤسسات النظام، لا سيما مجلس صيانة الدستور ومجلس خبراء القيادة. 

ويضيف أن إسناد مهمة قراءة رسائل خامنئي الرسمية إليه في المناسبات الوطنية يعد إشارة واضحة إلى الثقة التي يحظى بها من أعلى هرم في السلطة.

لكن رغم هذه "المؤهلات"، يواجه أعرافي تحديات كبيرة، أبرزها غياب الكاريزما الشعبية، وافتقاره إلى الدعم من الشبكات العسكرية والأمنية التي تدعم مرشحين آخرين. ومع ذلك، يُنظر إليه كخيار توافقي محتمل، خاصة في حال فشل الأجنحة المتصارعة في التوافق على مرشح بعينه "من أبناء أو مقربين مباشرين من خامنئي".

المعضلة الوراثية

من أكثر الأسماء إثارة للجدل في ملف الخلافة هو مجتبى خامنئي، نجل المرشد الأعلى. وعلى الرغم من تداوله خلف الكواليس كمؤثر قوي، تثير فكرة وراثة المنصب حساسية شديدة داخل النظام.

يشير المعارض الإيراني سنابرق زاهدي إلى أن ترشيح مجتبى سيُفسر على أنه تحويل للنظام إلى ملكية دينية مقنّعة، وهو ما يُفقده شرعيته الثورية. 

ويقول زاهدي: "بمجرد أن بدأ الحديث عن مجتبى كخليفة محتمل، تعالت الأصوات بأن النظام بات وراثيا".
لهذا، يستبعد إمكانية تعيينه خليفة لأبيه.

أزمة تتجاوز شخص المرشد

في جوهرها، لا تتعلق أزمة الخلافة فقط بمن سيقود، بل بشكل القيادة نفسها بعد خامنئي. ففي ظل تصاعد الغضب الشعبي، والتدهور الاقتصادي، والضغوط الإقليمية والدولية، فإن مصير الجمهورية الإسلامية على المحك.

ورغم محاولات النظام للتحكم في المسار، إلا أن الرأي العام قد يؤثر بشكل غير مباشر على المناخ السياسي العام. فالدستور لا يمنح الشعب دورا مباشرا في اختيار المرشد، لكن كما أظهرت الاحتجاجات الأخيرة، فإن الشارع الإيراني قادر على فرض معادلات جديدة.

ويحذر محمدي قائلا: "إذا فشلت الأجنحة المختلفة في التوصل إلى توافق، فقد تواجه البلاد فراغا في السلطة، أو حتى أزمة شرعية كبرى. مثل هذا السيناريو قد يؤدي إلى انفجار اجتماعي وانهيار الهيكل الحالي، وبداية مرحلة جديدة في تاريخ إيران".

نهاية حقبة؟

على مدى عقود، اعتمدت الجمهورية الإسلامية على سلطة رجل واحد. ومع تقدمه في السن، تقترب لحظة حاسمة قد تكون الأهم في تاريخ النظام. فهل سينجح في اجتياز هذا المنعطف التاريخي دون اهتزاز؟ أم أن وفاة خامنئي ستكون بداية لانهيار المنظومة، وصعود بدائل ديمقراطية أو هياكل حكم جديدة؟

بينما يتواصل الهتافات باسمه، يرفع خامنئي يديه مجددا بالحركة الروتينية ذاتها، وهو يدرك، ربما، أن النظام الذي أمسك بخيوطه طوال عقود، سيواجه قريبا أصعب اختبار لوجوده.