داخل سجن إيفين الإيراني
داخل سجن إيفين الإيراني

"إضرابنا عن الطعام، أنا ومطهره ليس سوى فعلاً يائساً في مواجهة الظلم. فعلٌ نعلم أنه سيضر بجسدينا، لكننا لا نرى أي طريق آخر أمامنا".

بهذه الكلمات اختتمت الصحفية والناشطة الإيرانية ويدا رباني رسالتها من داخل سجن إيفين سيء السمعة، والتي نشرها موقع "إيران وير" في 26 نوفمبر، حيث روت تفاصيل المعاناة التي تعيشها هي والعديد من المعتقلات الأخريات، بينهن مطهّره غونيي.

كانت ويدا قد تعرضت لاعتداء جنسي على يد عناصر أمن السجن أثناء تفتيشها الجسدي في الثالث من أكتوبر 2023، في جريمة بشعة حاولت ويدا توثيقها بشكوى رسمية. إلا أن الشكوى لم تؤدِ إلى العدالة التي كانت تطمح إليها، بل جلبت لها عقوبات جديدة من إدارة السجن، شملت حرمانها من أي إخلاء سبيل مستقبلي.

لم تكن ويدا وحدها التي تحمل وجعها بصمت داخل الجدران الخرسانية. الناشطتان نرجس محمدي وواريسا مرادي المعروفتان بدفاعهما عن حقوق الإنسان ومعارضتهما لعقوبة الإعدام، كانتا تكافحان من أجل البقاء وسط ظروف احتجاز قاسية. وباتت صحتهما تتدهور بسرعة بسبب الإهمال الطبي.

واليوم الأربعاء، أعلن محامي نرجس محمدي الإفراج عن موكله لثلاثة أسابيع لأسباب صحية.

محمدي كانت من أبرز المناوئين لحكم الإعدام قبل اعتقالها
إيران.. إطلاق سراح نرجس محمدي الحائزة نوبل للسلام من السجن لأسباب طبية
أطلقت السلطات الإيرانية سراح، نرجس محمدي، الحائزة جائزة نوبل للسلام والمسجونة منذ نوفمبر 2021 في بلادها لنضالها ضد إلزامية الحجاب وضد عقوبة الإعدام، الأربعاء، لمدة ثلاثة أسابيع لأسباب طبية، وفق ما أعلن محاميها.

وفي رسالة خطية، وصفت ويدا كيف بدأت هي ورفيقتها مطهّره غونيي إضراباً عن الطعام احتجاجاً على هذا الإهمال. كان الإضراب خطوة يائسة، لكنها كانت تعكس عمق الإحباط الذي يعيشه المعتقلون داخل إيفين.

لكن رباني ورفيقاتها لسن سوى مجموعة صغيرة من بين مئات الأصوات التي صرخت من خلف جدران هذا السجن، مطالبة بالعدالة والإنصاف في وجه نظام لا يتوانى عن سحق معارضيه، بل هناك صرخات وأنّات يرجع صداها إلى زمن ليس بالقريب.

السجن الجامعة

تأسس سجن إيفين عام 1972 في عهد الشاه رضا بهلوي عند سفوح جبال ألبرز في منطقة سعادت آباد شمال غرب العاصمة طهران، وكان وقتها يفترض أن يتسع لـ300 سجين. وسرعان ما اكتسب سمعة سيئة، خصوصاً أنه شهد أعمال توسيع ليمتد على مساحة تصل إلى 43 ألف متر وأصبح يتسع لـ15 ألف معتقل، وذلك بعدما استولى الخميني على السلطة عام 1979.

وهكذا اتخذ سجن إيفين مكانته كرمز للقمع الحقيقي بعد الثورة الإيرانية عام 1979. وأصبح مكاناً تُزج فيه الأصوات المعارضة، ويُمارس بحقهم كل أنواع الانتهاكات الجسدية والنفسية.

الصحفيون، النشطاء، الطلاب، وحتى المحامون الذين يدافعون عن المعتقلين، جميعهم وجدوا أنفسهم تحت رحمة هذا النظام الوحشي في هذا المكان بالتحديد، حتى أُطلق على سجن إيفين لقب "جامعة إيفين" بسبب العدد الكبير من المعتقلين فيه من النخب الفكرية، وذلك حسب موقع "كامبوس واتش" في شهادة من هوما هودفار، الأستاذة الجامعية الإيرانية التي اعتقلت فيه لمدة تصل إلى 112 يوماً.

يحتوي "إيفين" على مجموعة من غرف الاستجواب تحت الأرض، يتعرض المعتقلون فيها للتعذيب بانتظام، وذلك لإجبارهم على التوقيع على اعترافات، تقودهم إلى المشانق في أكثر الأحوال، بحسب تقرير لمنظمة العفو الدولية صادر في سبتمبر من عام 2021

صورة تظهر سجن إيفين من فوق-AFP

وفي تقرير آخر للعفو الدولية عام 2023، كُشفت تفاصيل مروعة عن أساليب التعذيب المطبقة في سجن إيفين، حيث وُثقت شهادات تفيد باستخدام العنف الجسدي بأشكاله المختلفة، من الضرب المبرح إلى التعذيب بأدوات حادة، مما يترك السجناء في حالة من الألم والمعاناة الدائمة.

مقر التعذيب

إلى جانب ذلك، سلط تقرير منظمة العفو الضوء على الانتهاكات الجنسية التي تعرض لها بعض السجناء، كما في حالة الناشطة ويدا رباني، وهو ما أثار ردود فعل دولية غاضبة ودعوات للتحقيق والمساءلة.

وفي تحقيق لمجلة "المجلة" التي تصدر من العاصمة البريطانية لندن، نُشر في سبتمبر من العام 2021، روى أحد المعتقلين تجربته في سجن إيفين، وقال إنه "تعرض لأساليب تعذيب قاسية منذ اعتقاله في عام 1981.

ووصف المعتقل السابق تعرضه للضرب بالكابلات أثناء استجوابه، بينما تم تعذيب خطيبته في غرفة مجاورة.

وخلال 12 عاماً في السجن، تحمَّل هذا المعتقل أكثر من 170 طريقة تعذيب، مؤكداً أن السجن كان أشبه بمسلخ بشري. كما تحدث عن مجزرة 1988، التي أُعدم فيها نحو 5 آلاف سجين سياسي، موضحاً أن السجناء الذين ظهرت عليهم آثار التعذيب نُقلوا أولًاً لإخفاء هذه الآثار قبل تنفيذ الإعدامات.

لم يتوقف الأمر عند العنف الجسدي، بل شمل أيضاً الإهمال الطبي الممنهج، حيث تُركت العديد من الحالات الصحية الخطيرة دون علاج، مثل ما حدث مع الناشطتين نرجس محمدي وواريشا مرادي، اللتين عانتا من تدهور صحي مستمر داخل السجن نتيجة لحرمانهما من الرعاية الطبية. هذا الإهمال يعكس سياسة متعمدة تهدف إلى الضغط النفسي والجسدي على المعتقلين.

كما تناول التقرير التعذيب النفسي الذي يمارسه السجانون، عبر التهديدات المتكررة، والعزل الانفرادي الذي يمتد لفترات طويلة، وحرمان السجناء من التواصل مع ذويهم، مما يزيد من معاناتهم ويعمق من إحساسهم بالعزلة والقهر.

وفي السنوات الأخيرة استغلت السلطات الإيرانية احتجاز الأجانب ومزدوجي الجنسية في سجن إيفين كأداة للضغط والمساومة مع الدول الغربية، بهدف تحقيق مكاسب سياسية أو الإفراج عن مواطنين إيرانيين محتجزين في الخارج، وذلك حسب مقالة وردت في الأسوشيتد برس في أغسطس عام 2021.

الشرع وإسرائيل

مع أن الخريف يحمل أحيانا مسحة من الكآبة، كان بالإمكان ملاحظة ابتسامات خفيفة على وجوه الرجال الثلاثة في الصور المؤرخة في الثالث من يناير من العام ٢٠٠٠. 

تجمع الصور فاروق الشرع وزير الخارجية السوري آنذاك في عهد حافظ الأسد، ورئيس وزراء إسرائيل إيهود باراك، يتوسطهما الرئيس الأميركي بيل كلينتون. 

يسير الثلاثة على ما يبدو أنه جسر حديدي في غابة مليئة بالأشجار التي تتخلى للخريف عن آخر أوراقها اليابسة في ولاية ويست فرجينيا الأميركية. كان كلينتون يحاول أن يعبر بالطرفين من ضفة إلى أخرى، من الحرب المستمرة منذ عقود، إلى سلام أراده أن يكون "عادلاً وشاملاً".

كانت تلك الورقة الأخيرة المترنحة في شجرة مفاوضات طويلة ومتقطّعة بين إسرائيل وسوريا، استمرت طوال فترة التسعينيات في مناسبات مختلفة. لكن خريف العلاقات بين الطرفين كان قد حلّ، وسقطت الورقة، وتباطأت في سقوطها "الحر" حتى ارتطمت بالأرض. 

كان ذلك آخر لقاء علني مباشر بين مسؤولين سوريين ومسؤولين إسرائيليين على هذا المستوى. لم تفض المفاوضات إلى شيء، وتعرقلت أكثر فأكثر احتمالاتها في السنوات اللاحقة بعد وراثة بشار الأسد رئاسة سوريا عن أبيه الذي توفي في حزيران من العام ٢٠٠٠. 

وفشلت جميع المبادرات الأميركية والتركية بين الأعوام ٢٠٠٠ و٢٠١١ لإعادة الجانبين إلى طاولة المفاوضات المباشرة، مع حدوث بعض المحادثات غير المباشرة في إسطنبول في العام ٢٠٠٨، وكان بشار الأسد يجنح شيئاً فشيئا إلى الارتماء تماماً في الحضن الإيراني.

كان الربيع العربي في العام ٢٠١١ أقسى على بشار الأسد من خريف المفاوضات التي خاضها والده في خريف عمره. وإذا كان موت حافظ الأسد شكّل ضربة قاسمة لاحتمالات التسوية السورية- الإسرائيلية، فإن الإطاحة ببشار الأسد في ديسمبر من العام ٢٠٢٤، أعادت على ما يبدو عقارب الزمن ٢٤ عاماً إلى الوراء، لكن هذه المرة مع شرع آخر هو أحمد الشرع. 

ومع أن الرئيس السوري، المتحدر من هضبة الجولان، قد يبدو لوهلة أكثر تشدداً من الأسد، إلا أن الرجل يبدو أنه يخطو بخطوات سريعة نحو تسوية مع إسرائيل تكون استكمالاً لاتفاقيات أبراهام التي عقدتها إسرائيل برعاية أميركية مع دول خليجية.

الرئيس السوري قال بشكل صريح للنائب الجمهوري في الكونغرس الأميركي، مارلين ستوتزمان، إنه مستعد لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، شريطة الحفاظ على وحدة وسيادة سوريا. 

وقال ستوتزمان في مقابلة حصرية مع صحيفة "جيروزاليم بوست"، إن الشرع أعرب عن انفتاحه على الانضمام إلى اتفاقيات أبراهام، مما قد يعزز مكانة سوريا مع إسرائيل ودول الشرق الأوسط والولايات المتحدة، مشدداً على ضرورة وقف الغارات الإسرائيلية على الأراضي السورية ومعالجة قضايا مثل التوغل الإسرائيلي بالقرب من مرتفعات الجولان.

لم يتلق السوريون تصريحات الشرع بصدمة او استغراب. بل على العكس فإن تصريحات الشرع، كما يقول المحلل السياسي مصطفى المقداد، لم تكن مفاجئة للشارع السوري، "فهو منذ وصوله إلى الحكم قام بإرسال إشارات إلى أنه يرغب بأحسن العلاقات مع جميع جيران سوريا، وقد أبدى استعداده للتنازل عن أمور كثيرة، بهدف تأمين استقرار سوريا ووحدتها". 

وينقل مراسل موقع "الحرة" في دمشق حنا هوشان أجواءً عن أن السوريين بمعظمهم، يرغبون بالسلام وتعبوا من الحروب، ولن يمانعوا عودة المفاوضات تحت قيادة الشرع لسوريا.

المقداد رأى في حديث مع "الحرة" أن الجديد والمهم في تصريحات الشرع المنقولة عنه، أنها تصدر بعد تشكيل الحكومة السورية وفي وقت يرفع وزير خارجيته، أسعد الشيباني، علم سوريا في الأمم المتحدة. ويرى المقداد أن المشكلة لا تكمن في الجانب السوري ولا في شخص الشرع، بل "تكمن في الجانب المقابل الذي لا يبدي رغبة حقيقية في قبول هذه المبادرات".

والجمعة، قال الشيباني في الأمم المتحدة خلال جلسة لمجلس الأمن الدولي إن "سوريا لن تشكل تهديدا لأي من دول المنطقة، بما فيها إسرائيل".

تصريحات الشرع قد يكون لها الأثر الأبرز في الأيام المقبلة على النقاشات بين دروز سوريا على الحدود مع هضبة الجولان، المنقسمين حول العلاقة مع إسرائيل وحول العلاقة بحكومة الشرع، مع ما يحمله ذلك من مخاوف يعبّر عنها رموز الطائفة، تارة من الاندماج مع حكومة الشرع، وطوراً بالانفصال والانضمام إلى إسرائيل. 

وتأتي تصريحات الشرع حول التطبيع لتفتح الباب لخيار ثالث درزي، قد يبدد المخاوف، لكن ليس هناك ما يضمن ألا يعزّزها.

بين ديسمبر من العام ٢٠٠٠، وأبريل من العام ٢٠٢٥، يقع ربع قرن، توقفت فيه عجلة المفاوضات السورية الإسرائيلية المباشرة. وبين الشرعين -فاروق الشرع وأحمد الشرع- تحمل التطورات احتمالات إنعاش المفاوضات وعودتها إلى الطاولة مع تبدلات جذرية في الظروف وفي اللاعبين. فهل "تزهر" المفاوضات في ربيع العام ٢٠٢٥، بعد أن يبست ورقتها وتساقطت في خريف العام ٢٠٠٠؟