إيران

لأكثر من عقدين، حوّل النظام الإيراني الفضاء السيبراني إلى ساحة معركة، لا لمواجهة هجمات إلكترونية قادمة من الخارج، بل لإحكام السيطرة على الشعب الإيراني. 

منذ تأسيسها مركز جرائم الإنترنت في عام 2000، أنشأت إيران أحد أكثر أنظمة الرقابة الرقمية تشددا في العالم. 

في إيران اليوم، لا يعني النشاط الإلكتروني احتمال التعرض لتوبيخ أو غرامة، بل قد يعني الاعتقال، والتعذيب، أو حتى الإعدام.

أمة تحت المجهر

كل مستخدم للإنترنت في إيران مشتبه فيه. إذ تحجب السلطات المنصات الناقدة للنظام، والمرتبطة بالمعارضة، وحتى تلك التي تروّج للثقافة الغربية، وما يعتبره سدنة النظام مخالفا للشريعة. 

لكن حجب المحتوى ليس سوى إجراء أولي في منظومة قمع معقدة تديرها أجهزة أمنية ضخمة تشمل شرطة الإنترنت (فتا)، وجهاز الاطلاعات "الشرطة السرية"، وهيئات مثل المجلس الأعلى للفضاء السيبراني.

هذه الأجهزة لا تكتفي بالمراقبة.

في العام الماضي، تصاعدت وتيرة الاعتقالات بحق ناشطين ومدونين وأصحاب أعمال صغيرة. وفي أبريل، شهدت الحملة تصعيدا غير مسبوق، إذ داهمت القوات الأمنية منازل، وصادرت هواتف وحواسيب، واعتقلت مواطنين بتهم فضفاضة، مثل "نشر القيم الغربية" أو "التجسس لصالح إسرائيل والولايات المتحدة" أو "محاربة الله".

أصوات من الظل

خلال العمل على هذا التقرير، تمكنت قناة "الحرة" من التواصل مع "مهرداد"، اسم مستعار لناشط حقوقي في طهران، وكان أحد الإيرانيين، الذي طالتهم حملات القمع الإلكترونية التي تشنها السلطات الإيرانية ضد الناشطين على الإنترنت.

احتُجز مهرداد على مدى أسبوع، تعرض خلاله إلى التعذيب الجسدي والنفسي. 

"عرضوا عليّ منشوراتي على مواقع التواصل"، قال. وهي منشورات تنتقد الاعتداءات على حقوق الإنسان وتدعم احتجاجات النساء ضد الحجاب الإجباري. 

"اتهموني بإرسال تقارير إلى منظمات دولية. كانوا يعرفون كل شيء".

حتى أفراد أسرته استُجوبوا. وتكررت المداهمات اليومية. أُطلق سراحه فقط بعد توقيعه على تعهّد خطي بعدم ممارسة أي نشاط حقوقي، تحت التهديد بالإعدام.

"أنا لستُ حرا،"يقول.

"أتوقع عودتهم لاعتقالي في أي لحظة".

القمع شامل

القمع الإلكتروني في إيران لا يستهدف المعارضين السياسيين فحسب. 

"آريا"، صاحبة حساب لبيع مستحضرات تجميل على السوشل ميديا. فرت من طهران إلى كردستان - العراق بعد أن أغلق النظام صفحتها التجارية على فيسبوك وإنستغرام بحجة "نشر منتجات تخدش الحياء". احتجزتها الاستطلاعات "المخابرات" لثلاثة أيام تعرضت خلالها للتعذيب، ثم أُطلقوا سراحها بعد دفعها 5 مليارات تومان غرامة.

حتى الفنانين لم يُستثنوا. في أبريل، استُدعي مغني الراب الإيراني عماد قوّدل وأُجبر على التعهد بعدم نشر أي محتوى معارض على وسائل التواصل. كتب على إنستغرام: "أبلغوني أنهم سيصادرون صفحتي إن خالفت التعهّد".

وتنفذ الشرطة السيبرانية بالتنسيق مع الاطلاعات الإيرانية غالبية عمليات واعتقال الناشطين. وبحسب شهادات معتقلين سابقين تحدث معهم موقع "الحرة"، يجري عناصر الاطلاعات تحقيقات مكثفة مع المعتقلين في بادئ الأمر، ثم يحولونهم إلى الشرطة السيبرانية التي تواصل التحقيق معهم، ومن ثم تطلق سراحهم أو تحولهم إلى المحاكم التي تفرض عليهم عقوبات قد تصل إلى الإعدام إذا كانت تهمهم التجسس أو الانتماء إلى تنظيم معارض.

مشروع الإنترنت الوطني

بالتوازي مع القمع، توسّع إيران مشروع "شبكة الإنترنت الوطنية"، شبكة مغلقة بالكامل تحت سيطرة الدولة، تقيد الوصول إلى المواقع العالمية وتُطبق سياسات النظام في الحجب والمراقبة.

يقول نشطاء سياسيون إن هذه الشبكة لا تهدف فقط للسيطرة على المحتوى، بل لعزل الشعب وتجريم التواصل.

وبحسب منظمة هانا، التي تعنى بحقوق الإنسان في كردستان إيران، راقبت شرطة الإنترنت أكثر من 9800 موقع خلال العام الماضي، واتهمت 1700 منها بـ"أنشطة إجرامية".

الاقتصاد الرقمي يختنق

لكن هذا العزل له ثمن. أصحاب المشاريع، والمستقلون، والشركات الرقمية تضرروا بشدة. العديد من المنصات أُغلقت، والعائدات انهارت. "بدلا من أن تكون الفضاءات الرقمية منصة للتنمية، يعتبرها النظام تهديدا للأمن القومي"، يقول حميد بهرامي، رئيس منظمة هانا.

المقاومة خلف الجدار

رغم الخطر، لا تزال المقاومة الرقمية في إيران مستمرة. يستخدم النشطاء برامج VPN وتطبيقات مشفرة لتوثيق الانتهاكات. لكنها ممارسة محفوفة بالمخاطر. فالقانون الإيراني يجرم استخدام هذه الأدوات، ويعاقب عليه بالسجن أو الغرامات أو حظر السفر.

ورغم هذا، فإن أصوات ناشطين مثل مهرداد وآريا لا تزال تُسمع من خلف الجدار، لتقول للعالم إن جيلا بأكمله لا يزال يتحدث، ولا يزال يُرعب النظام الحاكم بالإصرار على نقل الحقيقة.

الشرع وإسرائيل

مع أن الخريف يحمل أحيانا مسحة من الكآبة، كان بالإمكان ملاحظة ابتسامات خفيفة على وجوه الرجال الثلاثة في الصور المؤرخة في الثالث من يناير من العام ٢٠٠٠. 

تجمع الصور فاروق الشرع وزير الخارجية السوري آنذاك في عهد حافظ الأسد، ورئيس وزراء إسرائيل إيهود باراك، يتوسطهما الرئيس الأميركي بيل كلينتون. 

يسير الثلاثة على ما يبدو أنه جسر حديدي في غابة مليئة بالأشجار التي تتخلى للخريف عن آخر أوراقها اليابسة في ولاية ويست فرجينيا الأميركية. كان كلينتون يحاول أن يعبر بالطرفين من ضفة إلى أخرى، من الحرب المستمرة منذ عقود، إلى سلام أراده أن يكون "عادلاً وشاملاً".

كانت تلك الورقة الأخيرة المترنحة في شجرة مفاوضات طويلة ومتقطّعة بين إسرائيل وسوريا، استمرت طوال فترة التسعينيات في مناسبات مختلفة. لكن خريف العلاقات بين الطرفين كان قد حلّ، وسقطت الورقة، وتباطأت في سقوطها "الحر" حتى ارتطمت بالأرض. 

كان ذلك آخر لقاء علني مباشر بين مسؤولين سوريين ومسؤولين إسرائيليين على هذا المستوى. لم تفض المفاوضات إلى شيء، وتعرقلت أكثر فأكثر احتمالاتها في السنوات اللاحقة بعد وراثة بشار الأسد رئاسة سوريا عن أبيه الذي توفي في حزيران من العام ٢٠٠٠. 

وفشلت جميع المبادرات الأميركية والتركية بين الأعوام ٢٠٠٠ و٢٠١١ لإعادة الجانبين إلى طاولة المفاوضات المباشرة، مع حدوث بعض المحادثات غير المباشرة في إسطنبول في العام ٢٠٠٨، وكان بشار الأسد يجنح شيئاً فشيئا إلى الارتماء تماماً في الحضن الإيراني.

كان الربيع العربي في العام ٢٠١١ أقسى على بشار الأسد من خريف المفاوضات التي خاضها والده في خريف عمره. وإذا كان موت حافظ الأسد شكّل ضربة قاسمة لاحتمالات التسوية السورية- الإسرائيلية، فإن الإطاحة ببشار الأسد في ديسمبر من العام ٢٠٢٤، أعادت على ما يبدو عقارب الزمن ٢٤ عاماً إلى الوراء، لكن هذه المرة مع شرع آخر هو أحمد الشرع. 

ومع أن الرئيس السوري، المتحدر من هضبة الجولان، قد يبدو لوهلة أكثر تشدداً من الأسد، إلا أن الرجل يبدو أنه يخطو بخطوات سريعة نحو تسوية مع إسرائيل تكون استكمالاً لاتفاقيات أبراهام التي عقدتها إسرائيل برعاية أميركية مع دول خليجية.

الرئيس السوري قال بشكل صريح للنائب الجمهوري في الكونغرس الأميركي، مارلين ستوتزمان، إنه مستعد لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، شريطة الحفاظ على وحدة وسيادة سوريا. 

وقال ستوتزمان في مقابلة حصرية مع صحيفة "جيروزاليم بوست"، إن الشرع أعرب عن انفتاحه على الانضمام إلى اتفاقيات أبراهام، مما قد يعزز مكانة سوريا مع إسرائيل ودول الشرق الأوسط والولايات المتحدة، مشدداً على ضرورة وقف الغارات الإسرائيلية على الأراضي السورية ومعالجة قضايا مثل التوغل الإسرائيلي بالقرب من مرتفعات الجولان.

لم يتلق السوريون تصريحات الشرع بصدمة او استغراب. بل على العكس فإن تصريحات الشرع، كما يقول المحلل السياسي مصطفى المقداد، لم تكن مفاجئة للشارع السوري، "فهو منذ وصوله إلى الحكم قام بإرسال إشارات إلى أنه يرغب بأحسن العلاقات مع جميع جيران سوريا، وقد أبدى استعداده للتنازل عن أمور كثيرة، بهدف تأمين استقرار سوريا ووحدتها". 

وينقل مراسل موقع "الحرة" في دمشق حنا هوشان أجواءً عن أن السوريين بمعظمهم، يرغبون بالسلام وتعبوا من الحروب، ولن يمانعوا عودة المفاوضات تحت قيادة الشرع لسوريا.

المقداد رأى في حديث مع "الحرة" أن الجديد والمهم في تصريحات الشرع المنقولة عنه، أنها تصدر بعد تشكيل الحكومة السورية وفي وقت يرفع وزير خارجيته، أسعد الشيباني، علم سوريا في الأمم المتحدة. ويرى المقداد أن المشكلة لا تكمن في الجانب السوري ولا في شخص الشرع، بل "تكمن في الجانب المقابل الذي لا يبدي رغبة حقيقية في قبول هذه المبادرات".

والجمعة، قال الشيباني في الأمم المتحدة خلال جلسة لمجلس الأمن الدولي إن "سوريا لن تشكل تهديدا لأي من دول المنطقة، بما فيها إسرائيل".

تصريحات الشرع قد يكون لها الأثر الأبرز في الأيام المقبلة على النقاشات بين دروز سوريا على الحدود مع هضبة الجولان، المنقسمين حول العلاقة مع إسرائيل وحول العلاقة بحكومة الشرع، مع ما يحمله ذلك من مخاوف يعبّر عنها رموز الطائفة، تارة من الاندماج مع حكومة الشرع، وطوراً بالانفصال والانضمام إلى إسرائيل. 

وتأتي تصريحات الشرع حول التطبيع لتفتح الباب لخيار ثالث درزي، قد يبدد المخاوف، لكن ليس هناك ما يضمن ألا يعزّزها.

بين ديسمبر من العام ٢٠٠٠، وأبريل من العام ٢٠٢٥، يقع ربع قرن، توقفت فيه عجلة المفاوضات السورية الإسرائيلية المباشرة. وبين الشرعين -فاروق الشرع وأحمد الشرع- تحمل التطورات احتمالات إنعاش المفاوضات وعودتها إلى الطاولة مع تبدلات جذرية في الظروف وفي اللاعبين. فهل "تزهر" المفاوضات في ربيع العام ٢٠٢٥، بعد أن يبست ورقتها وتساقطت في خريف العام ٢٠٠٠؟