شهدت الأشهر الأربعة الأولى من العام الحالي في العراق نحو مئتي حالة انتحار، بعضها نقل مباشرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ما أثار قلق المؤسسات الحكومية والدينية والإعلامية.
ويؤكد مصدر أمني لوكالة فرانس برس أنه في منتصف شهر يوليو الحالي، وقعت ثلاث حالات انتحار في بغداد خلال 24 ساعة فقط، كان ضحيتها رجلان وامرأة.
وتقول ندى (22 عاما)، وهو اسم مستعار، لفرانس برس إنه "لم يكن هناك ضوء" في أفق حياتها، ما دفعها للقيام بعشرات محاولات الانتحار، وإنها بدأت محاولاتها مذ كانت في الثانية عشرة من عمرها.
وتستذكر ندى، التي لم تتجرأ من قبل على الحديث عن محاولاتها الانتحار، تلك المحاولات، وكانت إما بتناول سم فئران أو قطع شرايينها أو شنقا، وذلك عندما منعها أهلها من مواصلة الدراسة، ثم تعرضها لـ"اعتداءات جنسية" على أيدي أشقائها وتعنيف من زوجها الحالي.
199 حالة انتحار في أربعة أشهر
أما أحمد (22 عاما)، فحاول الانتحار مرتين بتناول مواد سامة، لرفض أهله زواجه من فتاة أحلامه.
ويقول أحمد الذي يسكن قرب مدينة الناصرية جنوبي البلاد، في اتصال هاتفي: "لم يكن أمامي خيار آخر غير الانتحار، لأن أهلي رفضوا زواجي (...). حتى زوجتي، يريدون هم أن يختاروها لي".
ولا تقتصر أسباب الانتحار على مشاكل الحب والزواج، فهناك أمراض نفسية وصعوبات اقتصادية خلفتها حروب متلاحقة على مدى العقود الأربعة الماضية، إضافة إلى البطالة التي يعاني منها نحو 20 في المئة من العراقيين، غالبيتهم من الشباب، وظروف النساء وأعباء التقاليد.
وبحسب بيان صادر عن لجنة حقوق الإنسان البرلمانية في العراق، ارتفع عدد حالات الانتحار من 383 خلال عام 2016 إلى 519 في 2018.
وشهدت الأشهر الأربعة الأولى من العام الحالي 199 حالة انتحار، وفقا للبيان نفسه.
وهذه الأعداد هي الحالات المسجلة فقط، إذ توجد حالات كثيرة تقع في عموم العراق، من الجنوب ذي الغالبية الشيعية والمجتمع العشائري، إلى الشمال الكردي والغرب السني، من دون أن تبلغ العائلات عن انتحار أحد أفرادها لكون ذلك يمثل وصمة عار للعائلة ومخالفة لتعاليم الإسلام.
مباشرة عبر وسائل التواصل
لكن ظاهرة الانتحار باتت في تزايد وصارت واضحة ومتكررة بشكل شبه يومي، في بلد يستعيد تدريجيا استقراره الأمني.
وتقول معالجة نفسية في بغداد لفرانس برس، طالبة عدم كشف هويتها، "كان الخلاص من الإرهاب أكثر ما يشغلنا، على مدى سنوات"، مضيفة "الآن، بدأ الناس التعامل مع مشاكل اجتماعية مثل الانتحار والمخدرات".
وارتفعت نسبة الوعي للمشكلة بعد أن انتشرت لقطات لشباب يقدمون على الانتحار شنقا أو بالرصاص وأحيانا بإلقاء أنفسهم من جسر، مباشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وتقول أمل كباشي، منسقة "شبكة النساء العراقيات"، وهي منظمة إنسانية تعنى بشؤون المرأة، إن البعض "لجأ إلى شبكة التواصل الاجتماعي للفت الانتباه وجعل الناس يتفاعلون معه".
في المقابل، أثارت مشاهد الانتحار المباشرة والمتكررة صدمة دفعت شخصيات رسمية ودينية للتحرك، وهو ما تراه كباشي "إيجابياً".
فقد اعتبر المرجع الشيعي الأعلى في العراق آية الله علي السيستاني أن الدافع للانتحار هو "اليأس من المستقبل وعدم القدرة على مواجهة المشاكل"، داعيا الجهات المسؤولة إلى "العمل على معالجة المشاكل وتجاوزها".
كما اعتبر رجل الدين الشيعي البارز مقتدى الصدر الظاهرة "قتلاً للأمل".
وترى الأخصائية النفسية أن "هناك حديثا عن الانتحار بشكل أكبر، لكن ليس بالأسلوب الجيد دائما"، مضيفة أن "بعض رجال الدين يعتبرون الانتحار ضعفا في الإيمان، وهذا لا يساعد الضحايا ولا عائلاتهم" لمعالجة مشاكلهم.
المعالجة ضرورية
وتشدد على ضرورة تنظيم "حملات لمواجهة ذلك، ووضع أرقام خط أخضر لمشكلة الانتحار، وبرامج تلفزيونية تطرح حلولا"، ودعم الناس في العراق الذي لا يوجد فيه سوى ثلاثة أطباء نفسيين لكل مليون نسمة.
وتلفت كباشي إلى أن "الانتحار يكثر بين المراهقين والشباب، لأنهم الفئة الأكثر بؤسا، من حيث فرص العمل والتعليم والاهتمام".
وقبل فترة قصيرة، دفع تزايد الانتحار بالسلطات المحلية في بغداد إلى التفكير بتثبيت حواجز بارتفاع مترين على الجسور، للحد من ذلك، لكنها بقيت مجرد فكرة.
وتبذل القوات الأمنية جهودا متواصلة، خصوصا الشرطة النهرية، لإنقاذ بعض الذين يحاولون الانتحار.
ويقول الضابط محمد الربيعي، القائد السابق للشرطة النهرية في بغداد، إن "36 شخصا جرى إنقاذهم بين شهري يناير وأبريل هذا العام"، ألقوا أنفسهم في أنهر.
لكن في بعض الأحيان يكون الأوان قد فات، بحسب الربيعي، الذي يستذكر إحدى حالات الانتحار المؤلمة حين "ألقت سيدة بأحد أطفالها وعمره أقل من خمس سنوات، من جسر على نهر دجلة ثم رمت نفسها وهي تحمل طفلها الآخر".
ويتابع "لحسن الحظ تمكنت الشرطة النهرية من إنقاذها مع أحد أطفالها، لكن الطفل الآخر توفي غرقا".