بعد تسعة أشهر من الانتخابات العراقية، لا يبدو أن المشهد السياسي في البلاد يتجه إلا إلى مزيد من التعقيد، حيث تهدد تسجيلات منسوبة لرئيس الوزراء الأسبق، والسياسي القوي، نوري المالكي، والذي نفى الأخير صحتها، بالتحول إلى صراع مسلح، بعد أن طالب زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، الذي تتناوله التسجيلات بـ"اعتكاف المالكي" واعتزاله الحياة السياسية.
وشهدت محافظات عراقية تظاهرات لأنصار الصدر أمام مقرات لحزب الدعوة الذي يقوده المالكي، احتجاجا على تلك التسجيلات، رغم أن الصدر طلب، عن طريق قياديين في تياره، عدم الخروج بتظاهرات.
وفي تغريدته، يطالب الصدر حلفاء المالكي وعشيرته وحزبه (الدعوة الإسلامية) باستنكار التصريحات، في دلالة واضحة على أن الصدر "غير مقتنع بنفي المالكي" لصحة التسريب الصوتي، بحسب المحلل السياسي، العراقي، علي المعموري.
ويقول المعموري في حديث لموقع "الحرة" إن "ما يطلبه الصدر من حلفاء المالكي صعب، لكنه غير تعجيزي، ويبدو أن الصدر يريد استغلال الخلاف الأخير بين كتل الإطار الشيعي السياسية لإخراج عدوه التقليدي، نوري المالكي، من المعادلة، وربما إلى الأبد".
ويضيف المعموري أن "التسريبات تظهر وكأنها معدة لإبعاد المالكي عن حلفائه، خاصة بعد التسجيلين الأخيرين اللذين (يزعم أنه) يتحدث فيهما بقسوة شديدة ضد الحشد الشعبي، وضد قيادات الحشد الذين يتهمهم (المتحدث في التسجيل) بأنهم موالون لإيران وهمهم المزارع".
ونشر الناشط العراقي المقيم في الخارج، علي فاضل، الإثنين، الجزء الخامس من التسجيلات.
ويقول فاضل إن هذه "التسريبات" هي أجزاء من "اجتماع طوله ساعة بين المالكي" وآخرين لم يتم الكشف عن هوياتهم.
ولم يتمكن موقع "الحرة" من تأكيد صحة التسريبات المزعومة، أو تاريخ الاجتماع المزعوم. كما أن المالكي نفى مرارا خلال الأيام الأخيرة صحة التسجيلات، مشيرا إلى أنها "مفبركة"، بتقنيات "التزييف العميق" (deep fake).
ويتحدث "التسريب" الخامس عن مجموعة تدعى "كتائب أئمة البقيع"، ضمن جماعة أكبر كما يبدو تطلق على نفسها "أمة الأخيار" بقيادة مرجع ديني يشار إليه في التسجيلات باسم "سماحة آية الله الميرزا"، ويوحي التسجيل أن المجتمعين ينتمون إلى تياره.
وتقول قناة "الجدار نيوز" التابعة للتيار الصدري على تلغرام إن "قاطع مليشيا أئمة البقيع... يمتد من (المقدادية _ شهربان _ الهارونية _الصدور _ حمرين _ مياح)"، وتتهم الجماعة بفرض إتاوات على الشاحنات والتجارة بالمخدرات" .
ويقول إعلام "لواء أئمة البقيع" إنه ينتمي إلى ما يعرف بـ"حشد وزارة الدفاع" وهي مجاميع خاضعة لإدارة وزارة الدفاع العراقية، وليس هيئة الحشد الشعبي.
ويقود اللواء شخص اسمه سعد طعيس التميمي، ويتولى شقيقه، حميد، قيادة أحد أفواج اللواء.
ويتحدث المجتمعون في التسجيل المزعوم الأخير صراحة عن "وجوب سفك الدماء" وفقا لـ"خطة رشيدة" من أجل تسليم الحكم للمالكي، ويقولون إنهم مطيعون له.
ولا يبدي المتحدث الرئيسي، الذي يزعم أنه المالكي، موافقته صراحة لتلك الخطة، لكنه لم يعترض عليها واكتفى بالدعاء لمحاوريه.
رد حزب الدعوة
ونفى حزب الدعوة، مجددا، صحة التسجيلات وحذر من "فتنة عمياء بين أبناء الوطن الواحد".
وقال الحزب في بيان، نشرته وكالة "ناس نيوز" المحلية الإثنين، إنه "دعم وعاضد" مشروع، والد مقتدى، محمد محمد صادق الصدر، المرجع الديني الشيعي البارز في التسعينيات والذي تعرض للاغتيال مع نجليه.
وأكد البيان "أنه "مع إرهاصات تشكيل الحكومة نرى أن هناك من يذكي نار الفتنة بيننا نحن أبناء الصدرين"، مضيفا "نرى في هذه الأيام بوادر فتنة تصب الزيت على النار من قبل المرجفين والمتربصين بشعبنا الدوائر، ومن قبل الأجهزة السرية في الداخل والخارج ممن يطمعون بتحويل العراق إلى بؤرة صراع من خلال تسريب واستراق إلكتروني دخل عليه التزييف والتزوير، وقد تم توضيح ذلك لشعبنا".
وتابع، "إننا لن ننجر إلى فتنة عمياء بين أبناء الوطن الواحد فضلا عن الخط الرسالي الذي مثله الشهيدان الصدران (قدس سرهما) وندعو أبناء شعبنا وقواه السياسية للحذر من الوقوع في صراع لايخدم إلا أعداء الإسلام والوطن".
ويمت مؤسس حزب الدعوة، المرجع الديني محمد محمد باقر الصدر، بصلة قرابة وثيقة مع مؤسس التيار الصدري، محمد محمد صادق الصدر، والد مقتدى زعيم التيار الحالي.
وبشكل أو بآخر، تقول أغلب الحركات الشيعية العراقية، وخاصة المسلحة، إنها تعود في مرجعيتها الدينية إلى واحد من الصدرين.
من هو نوري المالكي؟
يعتبر رئيس الوزراء العراقي الأسبق (2006-2014) أطول رئيس حكومة بقي في منصبه في العراق بعد 2003، وقد شغل منصب الأمين العام لحزب الدعوة الإسلامي منذ عام 2006، وجدد له الحزب قبل أشهر البقاء في منصبه.
والدعوة هو أحد أقدم الأحزاب السياسية العراقية التي لا تزال موجودة على الساحة، وشغل ثلاثة أعضاء منه منصب رئاسة الوزراء العراقية منذ عام 2005 وحتى عام 2018، بنهاية حكومة حيدر العبادي، القيادي في الحزب".
ويلام المالكي على نطاق واسع لسقوط الموصل بيد تنظيم داعش في نهاية حكومته الثانية، كما يواجه انتقادات على عدم تمكنه من حل مشاكل رئيسية في العراق مثل الكهرباء والخدمات، رغم الموازنات الهائلة نسبيا التي امتلكتها حكومته.
وفي عام 2008، أدت حملة عسكرية عراقية مدعومة من التحالف الدولي، شنها المالكي واستهدفت مسلحي "جيش المهدي" التابع للصدر، إلى إنهاء الحرب الطائفية التي شهدتها البلاد منذ عام 2006، وحتى نهاية عام 2009.
وفي بداية الحملة، حاصر مسلحو "جيش المهدي" المالكي في مقر حكومي بمحافظة البصرة، وتدخل الجيش البريطاني لحمايته، ويبدو أن الصدر يشير إلى هذه الحادثة في تغريدته الأخيرة بقوله إنه "حقن دم كل العراقيين بمن فيهم المالكي".
وتبادل الطرفان العداء منذ ذلك التاريخ، رغم اشتراكهما بحكومتين.
مساع للصلح
ويحاول قياديون شيعة وشيوخ عشائر قيادة مساع للصلح بين المالكي والصدر، وفقا النائب في البرلمان العراقي للدورة السابقة، وشيخ عشيرة الدبات في الناصرية، عبد الأمير التعيبان.
ويقول التعيبان، وهو قيادي سابق في الإطار التنسيقي، لموقع "الحرة" إن "مجموعة من شيوخ قبائل ذي قار، هم مجلس شيوخ قبائل المنتفك، قدموا مبادرة" للمرجع الشيعي علي السيستاني "للتدخل بين الطرفين".
ويضيف النائب السابق أن "الصدر معتدل في طرحه، ورفض التصعيد ومنع التظاهرات حول التسريبات"، مؤكدا أنه من الممكن أن "تتم معالجة الأمور" لو تدخل السيستاني.
ويؤكد التعيبان أنه "من الصعب إزاحة المالكي عن الساحة السياسية كونه يمثل جمهورا واسعا ولديه أكثر من 45 مقعدا في مجلس النواب"، محذرا من أنه "لو تطور الموقف فإنه سوف يؤدي إلى فتنة في الشارع العراقي من شأنها أن تعقد المشهد".
واستدرك التعيبان "لكن وجود المرجعية يمنع سيل الدم الشيعي وأنا واثق من ذلك".
ودعا السياسي الشيعي، عزت الشابندر، عبر تويتر إلى "عدم إيقاظ الفتنة".
( وقِفُوهُم إنّهم مسئُولون ) الشيعة هم المكَوِن الأكبر
— عزت الشابندر | Ezzat Alshabandar (@IAlshabandar) July 18, 2022
في العراق ، إذا صلَحوا صلُحَ مَن سواهم وإذا فسَدوا فسَدَ مَن سِواهم .
( الفتنةُ نائمةٌ لعنَ الله مَن أيقظَها )
ويقول المحلل المقرّب من دوائر القرار الشيعي، أمين ناصر، إنه "مطلع على وجود مساع للوساطة جارية الآن على مستوى النجف وبعض القيادات والزعامات الروحية في كل من إيران ولبنان".
ويضيف ناصر، المقيم في بيروت، لموقع "الحرة" أنه يعتقد أن "الحلفاء الذين وردت أحزابهم وتياراتهم وجمهورهم والحشد في تسريبات المالكي لهم موقف متطابق مع التيار سيتم الإعلان عنه في الأيام المقبلة".
ويتوقع المحلل أن ينتج عن الموقف "اعتكاف أو تنح للزعيم المالكي"، خاصة وسط "غليان جماهيري وغضب شعبي في شارع التيار تعيشه معظم مدن ومحافظات العراق الآن وتهديد بحرق أو إغلاق مقار حزب الدعوة التابعة للمالكي".
مع هذا يقول ناصر إنه لا يعتقد أن هنالك "صداما دمويا سيحدث"، خصوصا بعد جهود الوساطة.
"معضلة الإطار"
وشهدت الأشهر الماضية خلافات تسربت إلى العلن بين قيادات الإطار الشيعي. ورغم أن الإطار نفى وجود تلك الخلافات، لكنها كما يبدو أنتجت إعلان القيادي الثاني فيه، بعد المالكي، هادي العامري تنحيه عن مفاوضات تشكيل الحكومة.
ويقول الصحفي العراقي، مصطفى ناصر، إن تغريدة مقتدى الصدر الأخيرة و"التسريبات" المزعومة "تكشف أن هناك مخططا للإيقاع بنوري المالكي سياسيا، مما يفتح المجال واسعا أمام قيس الخزعلي، الأمين العام لعصائب أهل الحق، للتفرد بقرارات الإطار التنسيقي ومفاوضاته لتشكيل حكومة".
ويضيف الصحفي لموقع "الحرة" أن "الخزعلي قادر على التفاوض مع الصدر، الذي يريد أن يبقى متحكما بالحكومة المقبلة ومستقبلها سواء تشكلت أو تمت الدعوة لانتخابات مبكرة، لكن العقبة الكبرى كانت وجود المالكي".
وتحدث التسريب الأخير عن دور الحرس الثوري الإيراني في الملف العراقي، وفيه يظهر الصوت المنسوب للمالكي يقول إن الملف العراقي بالكامل بيد الحرس الثوري، بدون تدخل "جهاز الإطلاعات" أو بدون قدرته على التدخل.
ويقول ناصر إن الحرس الثوري قد يكون له صلة بالتسريبات، لإزاحة المالكي الذي "انتهت صلاحيته".
ونفى المالكي صحة التسريبات بشكل متكرر، لكن هذا لا يبدو كافيا للصدر، بحسب الصحفي العراقي، أحمد حسين.
ويقول حسين لموقع "الحرة" إن "التسريبات تمثل فرصة ذهبية للصدر لإنهاء المالكي، والعودة إلى الواجهة بعد استقالة نوابه من البرلمان"، مؤكدا "لن يتخلى الصدر، ولا منافسو المالكي عن هذه الفرصة".
وتابع حسين "في البداية بدا أن الصدر لم ينتبه لهذه الفرصة، خاصة بعد تغريدته التي قال فيها إنه لا يقيم وزنا له، ويعني المالكي، لكن التغريدة الثانية المفصلة والتي تطالب حلفاء المالكي باتخاذ موقف تبدو مدروسة جيدا لتقسيم الإطار".
ويضيف حسين أن "خروج المالكي من العملية السياسية يعني تفرّق أو خروج نحو 40 من نوابه من البرلمان، وهذا يعني، بالإضافة إلى نواب التيار، نحو ثلث عدد أعضاء مجلس النواب، ونحو نصف النواب الشيعة في البرلمان، مما يعني أنه لا مفر من إجراء انتخابات مبكرة، وهو ما يبدو أن الصدر يريده".