وسائل إعلام محلية وبرلمانيون يتحدثون أن موظفين في مكتب السوداني قُبض عليهم بتهم التجسس على مسؤولين كبار
وسائل إعلام محلية وبرلمانيون يتحدثون أن موظفين في مكتب السوداني قُبض عليهم بتهم التجسس على مسؤولين كبار

رفض مستشار سياسي لرئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني اتهامات ترددت في الآونة الأخيرة بأن موظفين في مكتب رئيس الوزراء تجسسوا وتنصتوا على مسؤولين كبار وسياسيين.

ومنذ أواخر أغسطس، تتحدث وسائل إعلام محلية وبرلمانيون عراقيون عن أن موظفين في مكتب السوداني قُبض عليهم بتهم التجسس على مسؤولين كبار.

وقال المستشار فادي الشمري في مقابلة مع إحدى جهات البث العراقية أذيعت في وقت متأخر من مساء أمس الجمعة "هذه كذبة مضخمة"، وهو النفي الأكثر صراحة من عضو كبير في فريق رئيس الوزراء.

وأضاف أن الاتهامات تهدف إلى التأثير سلبا على السوداني قبل الانتخابات البرلمانية المتوقع إجراؤها العام المقبل.

وتابع "كل ما حدث خلال الأسبوعين الأخيرين هو مجرد تضخم إعلامي يخالف الواقع والحقيقة".

وأثارت التقارير قلقا في العراق الذي يشهد فترة من الاستقرار النسبي منذ تولي السوداني السلطة في أواخر عام 2022 في إطار اتفاق بين الفصائل الحاكمة أنهى جمودا سياسيا استمر عاما.

وقال الشمري إنه تم إلقاء القبض على شخص في مكتب رئيس الوزراء في أغسطس، إلا أن الأمر لا علاقة له علاقة بالتجسس أو التنصت.

وأضاف أن ذلك الموظف اعتقل بعد اتصاله بأعضاء في البرلمان وسياسيين آخرين منتحلا صفة شخص آخر.

وأردف "تحدث مع نواب مستخدما أرقاما مختلفة وأسماء وهمية وطلب منهم عددا من الملفات المختلفة". ولم يخض الشمري في تفاصيل.

وتابع "لم يكن هناك تجسس ولا تنصت".

صورة أرشيفية من داخل حي البتاويين وسط العاصمة العراقية بغداد
صورة أرشيفية من داخل حي البتاويين وسط العاصمة العراقية بغداد

يستنكر أكرم حبايب، الذي يعيش ويعمل في البتاوين منذ عام 2009، تصوير الحي على أنه "أخطر الأماكن" في العاصمة العراقية بغداد.

"أقضي أغلب ساعات النهار هناك، وأحيانا كنت أغلق محلي الساعة الثانية بعد منتصف الليل، أو أذهب إليه الساعة الخامسة فجرا.. أعتبر نفسي من سكّان الحي"، يقول أكرم في اتصال هاتفي مع موقع "الحرة".

ساهمت تغطيات إعلامية، يصفها أبناء الحي بأنها غير منصفة، وتصريحات أمنية يقولون إنها مبالغ فيها، عن "أنواع الجريمة ومستوياتها"، بشيوع "سمعة سيئة" لهذا الحي العريق. وتداول البعض أوصافا للحي تشبه عناوين الروايات البوليسية، مثل "العالم السفلي، معقل الجريمة، قاع المدينة، مدينة الممنوعات... إلخ".

في أبريل الماضي، انطلقت حملة أمنية وخَدَمية في البتاوين، اعتقلت أثناءها السلطات أكثر من 300 شخص، وأزالت تجاوزات عن الأرصفة ونظفت الشوارع، بحسب البيانات الرسمية.

وخلال مقابلة صحفية مع وكالة الأنباء العراقية (واع) أواخر سبتمبر الماضي، قال وزير الداخلية العراقي عبد الأمير الشمري، إن "منطقة البتاوين كانت مرتعا لعصابات الخطف والتزوير والاتجار بالبشر والاتجار بالأعضاء البشرية والمخدرات".

وأضاف أن الحملة الأمنية أدت إلى "انخفاض في مستوى الجريمة"، و"تم تطهير المنطقة تماماً من هذه العصابات"، وفق تعبيره.

جغرافيا البتاوين

يصف الصحفي العراقي، محمود الحسناوي، منطقة البتّاوين بأنها "الداون تاون الحقيقية لبغداد"، فهي تنقسم لشقين هما البتاوين الأولى والبتاوين الثانية، ويفصل بينهما شارع "تونس" وساحة "النصر".

كان ‏أغلب سكان "الأولى" وهي الأقرب جغرافيا لمنطقة "الباب الشرقي" و"ساحة التحرير"، سودانيون ومصريون، أقاموا ‏في بغداد خلال ثمانينيات القرن الماضي، ولا يزال كثيرون منهم يعيشون في الحي.

المنطقة الثانية هي الأقرب لـ"ساحة الفردوس" و"ساحة كهرمانة"، يضيف الحسناوي، وكان سكانها خليطا من العراقيين  المسيحيين والمسلمين واليهود، إلا أن أغلبهم رحل عنها طوعا أو قسرا في منتصف القرن العشرين، وبعد عام 2003 لأسباب عديدة، وقُتل كثير من المصريين والسودانيين في الحرب الطائفية بين عامي (2006- 2008).

من بقي في الحي مِن المسيحيين، منعتهم ظروفهم الماديّة من المغادرة، رغم أنهم يواجهون مشكلة في ترميم وإصلاح منازلهم، بسبب القيود القانونية على المباني التراثية.

نشأ الحيّ في محلّة قديمة كانت تُدعى "بستان الخس"، وتقع خارج حدود مدينة بغداد جنوبَ بابها الشرقي، بحسب تقرير على موقع "بغداد اليوم" المحلي.

أما سبب تسميتها بـ"البتاوين" فيعود للمزارعين الذين نزحوا من قرية "بت" الواقعة في ناحية النهروان شمالي محافظة ديالى، وأقاموا في الحي منذ بداية القرن التاسع عشر، كما يُطلق عليه أيضاً "كرّادة البتاويين"، وفق ما ذكر عماد عبد السلام رؤوف في كتابه "معالم بغداد في القرون المتأخرة".

حي البتاويين كما تُظهره خرائك غوغل وأكد حدوده لـ"الحرة" إعلامي عراقي

الحملة الأمنية

يكتسي صوته بنبرة غضب مكتوم وهو يعلق عبر الهاتف على "قائمة الجرائم" التي قرنها وزير الداخلية بحي البتاوين. "شلون كدرت أعيش كل هذي السنوات بحي مثل هذا؟"، يتساءل أكرم.

يقول شرطي، فضل عدم ذكر اسمه لأنه غير مخول بالتصريح للإعلام، إن "التصنيفات الرسمية للجرائم تختلف عن الفهم الشائع عنها لدى عامة الناس".

يتابع الشرطي المتمركز في البتاوين منذ 6 سنوات أن "تركيز السلطات في البتّاوين، ينصب على المتورطين في تجارة المخدرات، والمطلوبين للعدالة الذين قد يلجأون للاختباء في الحيّ".

شارك في الحملة الأمنية التي جرت أواخر أبريل، وكان مع عناصر المراقبة وليس المنفذين للمداهمة والاعتقال. يقول الشرطي "أغلب الذين قُبض عليهم متهمون بارتكاب مخالفات قانونية وسرقات وعمليات نصب وتزوير واحتيال وتعاطي المخدرات".

ويشير إلى أن التسوّل يُعدّ من جرائم الاتجّار بالبشر. "مثلاً عائلة عندها أربعة أو خمسة أطفال، يقوم الأب بتشغيلهم مع أمهم في التسوّل. وإذا قام شخص مثلا ببيع كليته، فإنها تعدّ جريمة متاجرة بالأعضاء".

صورة من أمام صالون حلاقة أكرم حبايب في البتاوين

أتى أكرم، 34 عاما، إلى البتاوين من محافظة كربلاء باحثا عن الرزق، ويملك اليوم ثلاثة محال تجارية ومبنى سكنيا في الحي. يقول إن الحملة الأمنية أثرت على أعماله بشكل سلبي دون أن يُنكر آثارها الإيجابية المتمثلة في إزالة التجاوزات على الأرصفة وتنظيف الشوارع بشكل دوري.

يوضح أنه عرض محلين للإيجار كان يبيع فيهما الملابس النسائية والرجالية بالإضافة لمواد التجميل، بسبب تأثر المبيعات. "كنت أعتمد على الزوّار في محل لحلاقة، مثلا يأتون من المحافظات حتى يتونسون (للترفيه عن أنفسهم)، ويحجزون في فندق رخيص، ويذهبون للسهر في الملاهي أو الحانات وشرب الكحول حيث هذه المظاهر ممنوعة في مناطقهم، ويقومون بزيارة محلي لتسريحة شعر أو الحلاقة، وكان الشغل ممتاز".

صادق خريج جامعي يعيش خارج البتاوين. يصف نفسه بأنه "مشروع فنان" في مجال الغناء، ويسعى لتحقيق حلمه. يقول لـ"موقع الحرة" إنه زار البتاوين بعد الحملة الأمنية، ومن خلال حديثه مع أصدقائه ومعارفه وجد البعض متفائلاً، وآخرين ممتعضين من نتائجها على مصدر رزقهم.

يضيف "البعض تعود على حركة زيارات قوية من الخارج خصوصاً محال المشروبات، لكنّ أي محل يبدأ عمله في ساعات المساء تضرر بعد الحملة".

في مايو الماضي، أوضح اللواء خالد محنا، المتحدث باسم وزارة الداخلية، أن "عملية البتاوين ليست أمنية فحسب إنما خدمية أيضاً، الغرض منها تعزيز الأمن و تقديم الخدمات وإعادة إحياء المنطقة التي من المؤمل أن تكون واجهة حضارية ومنطقة مُشرقة في بغداد".

تعليقا على حديث محنّا، وتصريحات حكومية أخرى تتعهد بتحويل البتّاوين لمنطقة تجارية حيويّة في قلب العاصمة العراقية، يقول الصحافي محمود الحسناوي، وهو على صلة ببعض أهالي البتّاوين ويزور مع أصدقائه مطاعم ومقاهي شعبية على أطرافها بين حين وآخر: "أنا غير مقتنع بالوعود الحكومية؛ لصعوبة تنفيذ ذلك، فهناك أملاك شخصية وليس من السهل استملاكها من المواطنين".

ويعتقد أن هناك دافعاً سياسياً غير معلن للعملية الأمنية في البتاوين، وهو "طمع جماعات مسلّحة في الهيمنة على المنطقة عبر الاستثمار وتحويلها لمراكز تجاريّة، وهذا عملياً يقوّض الجريمة ويخلّص بغداد من أكثر الأحياء تعقيداً، لكنّه أيضاً باب فساد كبير ومورد اقتصادي مهم للمليشيات المسلحة".

زار الحسناوي البتاوين بعد الحملة الأمنية، ويصف أحوالها في حديثه معه مع"موقع الحرة": "الحيّ اليوم أفضل بكثير من ناحية الناس الموجودين فيه.. كما تم إغلاق جميع محلات المشروبات الكحولية غير المرخصة والبارات والمطاعم التي تقدم المشروبات الكحولية غير المرخصة".

صورة التقطها أكرم من داخل حي البتاوين أثناء حديثنا معه، سبتمبر الماضي

يتفق أكرم حبايب مع الحسناوي في ما يخص صعوبة استملاك العقارات التراثية أو الفارغة والاستفادة منها لصالح تحسين المنطقة، فمعظم ملاكها يعيشون خارج العراق، وليس من السهل تسوية عقاراتهم المهجورة في ظل البيروقراطية المتفشية في دوائر الدولة.

قال إنه يتحدث عن تجربة حقيقية عن عقار يعيش مالكه في الولايات المتحدة. "ذهبنا أنا والموَكَل منه لاستخراج الموافقات من أمانة بغداد وجهات أخرى وبعد توقيع عشرات الأوراق ودفع ملايين الدنانير العراقية، لم نحصل على الموافقة، وبقي المبنى على حاله".

ويؤكد أكرم أن "غالبية المباني التي كانت مملوكة لليهود في البتاوين منهارة بشكل شبه كامل حتى أنها لا تصلح للترميم"، فضلا عن أن "هناك ورثة متعددين سواء يهود أو مسيحيين للمباني القائمة بشكل عام، وقد لا يعيشون في نفس الدولة ومن الصعب جدا تحصيل موافقة أو وكالة للبيع والاستملاك".

لاحقاً بعد إنجاز الحملة الأمنية، أعلنت وزارة الداخلية أنها "ضبطت أملاكاً ودوراً مُغتَصبة تم الاستيلاء عليها بشكل غير قانوني في البتاويين"، ودعت أصحاب هذه الأملاك الأصليين لمراجعة مركز شرطة السعدون الذي يقع داخل الحي، وجلب الأوراق أو الأدلة الثبوتية، لكي يتمكنّوا من استرجاع حقوقهم المسلوبة.

صانع محتوى عراقي يرصد مشاهد من البتاويين من سيارته قبل عام

منطقة شعبية "لا أكثر"

يتميز الحي في كونه مسكناً ومكان عمل لكثير من العراقيين الذين تعود أصولهم لمحافظات أخرى، وذوي خلفيات دينية وقومية وطائفية متنوعة، حتى أن هناك جنسيات غير عراقية تسكنه، كل ذلك جعل البتاوين بحسب أكرم حبايب "أفضل مكان للاختباء".

لذلك، يضيف "اختبأ فيه كثير من المطلوبين للعدالة ومرتكبي الجرائم أو الذين يمارسون أعمالا غير قانونية، الذين لا يمكن القبض عليهم بسهولة".

ولأكرم زوجة وأطفال. لكن لماذا هم لا يعيشون في البتاوين؟ يقول أكرم "يومياً هناك حملات تفتيش أمنية، يشملون بها الجميع، وقد تطالنا السمعة السيئة إذا داهموا بيتنا مثلاً".

يضيف الحلاق بنوع من الحماس "والله تعيش بيه ملك ماكو أي خطر"، مضيفاً "أحياناً أغادر المحل الساعة 3 فجراً، لم يرفع أي شخص السلاح بوجهي ولم أتعرض للسرقة ولا لأي شيء خطر".

يقول أكرم "في كل عام خلال موسم الزيارة الأربعينية للإمام الحسين أقضي وقتاً كبيراً في كربلاء وأستقبل الزوّار من محافظات أخرى وأتواصل مع الأصدقاء، وحين يعرف أي منهم مكان عملي يصمت.. وحتى بعد أن أشرح لهم عن تجربتي لا يقتنعون تماماً".