تصاعد المطالب بلجم نفوذ الميليشيات في العراق.

يشهد العراق تحولات جوهرية في مواجهة نفوذ الميليشيات المسلحة، حيث تتصاعد المطالب الشعبية والرسمية بوضع حد لهيمنتها على الموارد العامة والمشاريع الخدمية، التي تحولت إلى مصادر للكسب غير المشروع.

وفي محافظة مثل الديوانية، تتجلى هذه التغييرات بارتفاع الأصوات الداعية إلى محاسبة الفاسدين واستعادة المشاريع المتوقفة، وسط تزايد الوعي الشعبي بخطورة استمرار هذه الهيمنة.

الميليشيات والفساد.. أزمة تشتد

تفاقمت أزمة الفساد في المؤسسات الحكومية بسبب تعطل المشاريع الخدمية التي استحوذت عليها فصائل مسلحة، من بينها "أنصار الله الأوفياء"، المصنفة على لائحة الإرهاب من قبل الولايات المتحدة.

ووفقًا لمعهد واشنطن، تأسست هذه الحركة لأول مرة في عام 2013 كفصيل مسلح موالٍ لإيران، إثر انشقاق مجموعة من المسلحين عن التيار الصدري، وتأسيس حزب سياسي في محافظة ميسان تحت مسمى "كيان الصدق والعطاء".

وبزعامة حيدر إبراهيم الغراوي، بدأ هذا الكيان الجديد بالانخراط في اللعبة السياسية بدءًا من انتخابات 2014، حين تحالف مع رئيس الوزراء الأسبق إبراهيم الجعفري، ثم تحالف مع هادي العامري، رئيس تحالف “بدر”، في انتخابات 2018.

وشارك نواب من الفصيل عام 2022 في تشكيل الحكومة الحالية برئاسة محمد شياع السوداني، بعد انضمامهم إلى "الإطار التنسيقي".

وترتبط الحركة، التي تصنفها واشنطن منظمة إرهابية، ارتباطًا وثيقًا بـ"فيلق القدس" التابع للحرس الثوري الإيراني، وشاركت في تنفيذ عمليات عسكرية على أهداف أميركية.

وتحتل حركة "أنصار الله الأوفياء" مكانة مهمة ضمن الهيمنة الإيرانية على العراق، ما مكنها من الاستحواذ على المشاريع الاقتصادية بحجة الخدمات والتنمية.

وبحسب الخبير الأمني والاستراتيجي علاء النشوع، فإن هذه الحركة، وغيرها من الفصائل المسلحة، تسعى إلى تعزيز سيطرتها أكثر على الموارد المالية، وتفرض على العراق ممارسات تضر بمصالحه الاقتصادية.

الديوانية.. نموذج لممارسات الميليشيات

في محافظة الديوانية، أدى استحواذ "أنصار الله الأوفياء" على مشاريع خدمية إلى تعطيل التنمية، حيث تم إسناد مشاريع إلى شركات وهمية لم تنفذ أي أعمال فعلية، مما فاقم الغضب الشعبي.

وقال الخبير الأمني والاستراتيجي علاء النشوع، في تصريح لموقع "الحرة"، إن هذه الفصائل تفرض سيطرتها على المشاريع عبر مكاتب اقتصادية تتحكم في واردات وصادرات المحافظات، مستغلة نفوذها لتحصيل عمولات تتراوح بين 20% و30%، إضافة إلى تهريب النفط والاستيلاء على عقارات الدولة وتحويل ملكيتها إلى قادتها.

وبين النشوع أنه على الرغم من الدعوات المستمرة للحد من سلطة الميليشيات المسلحة، فإن الحكومة العراقية تبدو عاجزة عن التصدي لهذه الفصائل التي تهيمن على مفاصل الدولة. فالسلطات في العراق تواجه تحديات صعبة في مكافحة الفساد، وهو ما يعزز قدرة هذه الميليشيات على الاستمرار في التغلغل داخل مؤسسات الدولة.

ويشير النشوع إلى أن خسائر المشروع الإيراني في المنطقة دفعت الميليشيات إلى الاندفاع في محاولة للحفاظ على مكاسبها، إلا أن المجتمع العراقي لم يعد يخشاها كما في السابق.

وبدأت المحافظات، ومنها الديوانية، في مواجهتها علنًا عبر الاحتجاجات العلنية وكشف ملفات الفساد.

مشاريع متعثرة وغضب شعبي

في ظل هذا الفساد، تعطلت مشاريع حيوية، من أبرزها مشروع مجاري الديوانية، الذي أُحيل تنفيذه منذ عام 2011 إلى شركات غير مؤهلة، ما أدى إلى استمرار التدهور في البنية التحتية.

وكشفت النائبة عن محافظة الديوانية في البرلمان العراقي، نور الجليحاوي، أن سوء الإدارة والتدخلات الحزبية أسهما في تفاقم الأزمة، محذرةً من استمرار التردي ما لم تتخذ الحكومة قرارات جريئة لإنقاذ المحافظة.

وتصاعدت الاحتجاجات في الديوانية مؤخرًا، حيث قطع المتظاهرون الجسر المعلق المجاور لمبنى الحكومة المحلية وأشعلوا الإطارات، مطالبين بفسخ العقود مع الشركات المتلكئة ومحاسبة المسؤولين عن تعثر المشاريع.

وأكد المتظاهرون أن بعض هذه الشركات ترتبط بميليشيات مسلحة تهيمن على المشاريع الاقتصادية، ما يجعل محاسبتها أمرًا بالغ التعقيد.

تحذيرات ومطالبات

وحذر الناشط المدني حسام العابدي من استمرار انهيار الخدمات في الديوانية، مشيرًا إلى غياب البنى التحتية الأساسية، وتراجع مستوى التعليم والصحة، وسط انتشار الفساد في تنفيذ المشاريع.

وأوضح أن الميليشيات، التي كانت قد تشكلت للدفاع عن البلاد من إرهاب داعش، تحولت إلى كيانات اقتصادية تستحوذ على العقود الحكومية وتهدد كل من يعارضها، مستغلةً قوتها العسكرية ونفوذها السياسي.

وأشار العابدي إلى أن غالبية المشاريع التي أُسندت إلى شركات تابعة للميليشيات المسلحة لم تتجاوز نسبة إنجازها 10%.

وأكد أن هذه الشركات تعمل تحت واجهات وهمية، فبعض الشركات تبيَّن أنها مجرد غطاء لمكاتب اقتصادية تابعة للفصائل المسلحة.

ووجَّه عضو مجلس محافظة الديوانية طارق البرقعاوي، في مؤتمر صحفي في 24 يناير الماضي، اتهامات صريحة لميليشيا "أنصار الله الأوفياء".

وحمَّل البرقعاوي مسؤولية الفشل في تنفيذ مشروع إعادة تأهيل 42 حيًا في المحافظة، الذي تم منحه لهذه الفصائل المسلحة بقيمة 320 مليار دينار.

وأكد البرقعاوي أنه على استعداد لتحمل مسؤولية تصريحاته، رغم المخاطر التي قد تترتب عليها، مشددًا على أن محاسبة الفاسدين باتت ضرورة لا تقبل التأجيل.

الحكومة بين العجز والضغوط

في ظل هذه الأوضاع، عقد مجلس محافظة الديوانية جلسة طارئة بحضور المحافظ عباس الزاملي، لمناقشة تعثر المشاريع.

وأصدر رئيس الوزراء العراقي توجيهات بتجزئة أعمال المشروع وإسنادها إلى شركات ثانوية متخصصة، في محاولة لتسريع التنفيذ وتحسين الخدمات، وسط جدل حول مدى قدرة الحكومة على فرض رقابتها على تلك الشركات.

وتأتي هذه التطورات وسط تصاعد التظاهرات والضغوط الشعبية، حيث شهدت الديوانية احتجاجات واسعة بتاريخ 20 يناير الماضي، طالب خلالها المتظاهرون بتحسين الخدمات وتسريع إنجاز المشاريع المتوقفة، مؤكدين أن محافظتهم تتصدر قائمة المحافظات العراقية في نسب الفقر والبطالة.

ويبدو أن مشروع الأحياء الـ42 قد أصبح رمزًا للأزمة الأوسع التي تواجه المحافظة، إذ يعكس مدى تعقيد العلاقة بين الدولة والميليشيات المسلحة، وتأثير الفساد في إعاقة التنمية المحلية.

ومع تزايد الاحتجاجات، تبقى التساؤلات قائمة حول قدرة الحكومة على استعادة السيطرة وفرض القانون في مواجهة هذه الفصائل المسلحة.

حزب العمال

لن يضع قرار حزب العمال الكردستاني التركي (PKK) حل نفسه نهاية لحرب دامت أكثر من 4 عقود، فحسب، بل نهاية لحقبة شكلت الديناميكيات الأمنية والسياسية في إقليم كردستان ـ العراق، أيضا.

وأعلن حزب العمال الكردستاني في 12 مايو الحالي، عن حل بنيته التنظيمية وإنهاء الكفاح المسلح، والأنشطة التي كانت تجري تحت لواء "PKK"، استجابة لنداء أطلقه زعيم الحزب ومؤسسه المعتقل في تركيا عبدالله أوجلان نهاية فبراير الماضي.

وطالب العمال الكردستاني، في بيان، تركيا بمنح زعيمه أوجلان حق إدارة المرحلة المقبلة، والاعتراف بحقه في العمل السياسي، وتوفير ضمانات قانونية شاملة في هذا الشأن.

وأشار البيان إلى أن الحزب نظم مؤتمره الثاني عشر في ظروف صعبة، مع استمرار الاشتباكات، وتواصل الهجمات البرية والجوية للجيش التركي.

وأضاف أن "المؤتمر أُنجز بنجاح وبشكل آمن، حيث أُجري في منطقتين مختلفتين بشكل متزامن لأسباب أمنية. وشارك فيه ما مجموعه 232 مندوبا. واتخذ خلاله قرارات تاريخية تعبر عن الدخول في مرحلة جديدة لحركتنا من أجل الحرية".

ويشير خبير العلاقات الدولية، حسن أحمد مصطفى، إلى أن قرار حزب العمال الكردستاني بحل نفسه يمكن أن يؤدي إلى انخفاض كبير في الاشتباكات المسلحة في إقليم كردستان، خاصة في منطقة بهدينان ومحافظة أربيل، ويقلل من الغارات الجوية في مناطق قنديل وشاربازير والسليمانية، التي يتمتع فيها العمال الكردستاني بحضور قوي.

ويضيف مصطفى لـ"الحرة" قوله: "أنشأت تركيا بعد عام 2019، قواعد عسكرية دائمة في كردستان العراق، في مناطق من محافظة دهوك وبالقرب من جبل قنديل، لذلك حل حزب العمال الكردستاني قد يخفض من مبررات العمليات العسكرية التركية عبر الحدود".

وبين أن أنقرة أشارت إلى أنها ستراقب امتثال العمال الكردستاني لقرار الحل وإلقاء السلاح عن كثب قبل سحب قواتها من كردستان العراق.

ويلفت مصطفى إلى أن الصراع المسلح بين العمال الكردستاني وتركيا تسبب خلال السنوات الماضية بنزوح آلاف من مواطني كردستان العراق من قراهم وبلداتهم وأصبحت نحو 700 قرية في إقليم كردستان إما خالية تماما من سكانها أو معرضة للخطر.

وعلى الرغم من تأكيده على أن السلام الدائم سيسهل عودة النازحين إلى قراهم ومناطقهم، يلفت مصطفى إلى أن استمرار الوجود العسكري التركي قد يُؤخّر إعادة التوطين الكاملة.

ولعل من تداعيات حل العمال الكردستاني التي يتوقعها مصطفى، هي أن تدعو إيران إلى إنهاء المعارضة المسلحة الكردية الإيرانية بشكل كامل.

وتسعى طهران منذ نحو عامين عبر الاتفاق الأمني الذي ابرمته مع الحكومة العراقية إلى إنهاء المعارضة الكردية الإيرانية الموجودة في إقليم كردستان منذ أكثر من 4 عقود، وقد بدأت السلطات العراقية حسب الاتفاق بإبعاد الأحزاب الكردية المعارضة عن الحدود الإيرانية، ونزعت أسلحتهم.

وأصدرت مستشارية الأمن القومي العراقية، التابعة لمجلس الوزراء، في 24 أبريل الماضي، قرارا يحظر جميع أنشطة الأحزاب والجماعات الإيرانية المعارضة الموجودة على الأراضي العراقية.

ورغم إعلان حل الحزب والتخلي عن السلاح، لم تحدد آلية تنفيذ القرارين بعد، خاصة لجهة كيفية إلقاء السلاح والجهة تتسلمه من مقاتلي حزب العمال.

وأوضح وزير الداخلية في حكومة إقليم كردستان، ريبر أحمد، في مؤتمر صحفي عقده في أربيل مطلع الأسبوع، أنه "مازال من المبكر الحديث عن كيفية إلقاء السلاح وأين سيسلم هذا السلاح ولمن؟ جميعنا نراقب هذه العملية، المهم أن تنتهي العمليات العسكرية والاشتباكات المسلحة في مناطق كردستان، ويتمكن مواطنونا من العودة الى مناطقهم ويحل السلام والاستقرار".

ولا يقتصر وجود العمال الكردستاني في جبل قنديل والسلاسل الجبلية والمناطق الحدودية بين إقليم كردستان وتركيا، بل تتمركز وحدات مقاومة سنجار "اليبشة" التابعة لـ(PKK) في قضاء سنجار غربي الموصل أيضا.

واعتبر سياسيون في إقليم كردستان العراق خلال تصريحات سابقة لـ"الحرة"، هذه الوحدات وفصائل الحشد الشعبي سببا في عدم استقرار الأوضاع في سنجار، وأبرز عائق أمام تنفيذ اتفاقية سنجار التي وقعتها بغداد وأربيل عام 2020 برعاية دولية لتطبيع الأوضاع في تلك المنطقة وإعادة النازحين إليها.

لذلك من المتوقع أن يساهم قرار الحزب بإلقاء السلاح في تطبيق اتفاقية سنجار وعودة الاستقرار إلى المدينة، التي شهدت خلال السنوات الماضية العديد من الغارات الجوية التركية التي استهدفتها بسبب وجود مواقع للعمال الكردستاني فيها. 

ويرى رئيس منظمة كردستان لمراقبة حقوق الإنسان، هوشيار مالو، أن قرار حل حزب العمال الكردستاني بإلقائه السلاح سينهي مبررات الدولة التركية في التدخل في دول المنطقة ومنها العراق وسوريا بحجة وجود مقاتلي وأعضاء العمال الكردستاني.

ويوضح مالو لـ"الحرة"، "بعد قرار الحل، ستنهي تركيا وجودها العسكري في العراق، أو على الأقل ستبدأ مرحلة جديدة من العلاقات مع بغداد وإقليم كردستان، لذلك على السياسيين العراقيين بالدرجة الأساس التهيئة للتفاوض والتفاهم من أجل انسحاب القوات التركية من الأراضي العراقية".

ويعتقد مالو أن جزءا من مقاتلي العمال الكردستاني أو مجاميع أخرى تابعة له قد ينشقون عن الحزب ويرفضون إلقاء السلاح، لكنه يرى أنهم لن يؤثروا على عملية السلام، لأن المرجع الفكري للحزب والمجموعات المرتبطة به قرروا تغيير مصيره.

ولفت إلى أن "قرار الحزب بإلقاء السلاح سيلقي بظلال إيجابية على المنطقة بأسرها".

وبحسب إحصائيات شبه رسمية، أنشأت تركيا خلال السنوات الماضية أكثر من 87 قاعدة عسكرية داخل الأراضي العراقية على طول 200 كيلومتر من الحدود بين البلدين. منها 7 قواعد جديدة، أنشأتها خلال عملياتها العسكرية التي انطلقت في يونيو الماضي ضمن حدود منطقة برواري بالا في محافظة دهوك، بينما بلغ عمق توغلها 15 كيلومتراً، وهو أكثر بسبعة كيلومترات مقارنة بالعملية البرية السابقة التي كانت في عام 2021.

وكشفت إحصائية صادرة عن منظمة فرق صناع السلم المجتمعي (CPT) الأميركية في إقليم كردستان العراق، حصل موقع "الحرة" عليها في مارس الماضي، عن مقتل وإصابة 721 مدنيا في إقليم كردستان منذ يناير 1991، إثر القصف والعمليات العسكرية التركية ضد مقاتلي PKK.

وأشارت المنظمة في بيان، مساء الخميس، إلى أن الجيش التركي ما زال يواصل هجماته داخل أراضي كردستان العراق، رغم إعلان العمال الكردستاني حل نفسه.

وأضافت المنظمة أن "القوات التركية نفذت منذ 12 مايو وحتى الآن، 31 هجوما وقصفا على إقليم كردستان"، وبلغت الهجمات المسلحة ذروتها الخميس، بحسب البيان.