حازم صاغية

تسلّل العراق إلى الكاتب والمثقف اللبناني حازم صاغية في طفولته من باب "العروبة ووحدة العرب" وبسبب علاقة البيت الذي تربّى فيه بحزب البعث.

صاغية المولود عام 1951 في لبنان، حمل العراق في انشغالاته الثقافية والسياسية ما يقارب السبعين عاماً، وأسَالَ في الكتابة عن العراق وأحواله حبراً كثيراً، ترجمه في مقالات وتحليلات نقدية وكتب خصصها للعراق وتاريخه ومآلات مستقبله.

في  2003 بعد سقوط نظام صدّام حسين، أصدر صاغية كتابه "بعث العراق: سلطة صدّام قياماً وحطاماً"، الذي عرض حكاية حزب البعث في العراق منذ بداياته الأولى عام 1949 حتى سقوط النظام.

وعرض أيضا تحليلاً لسياسات البعث ودوره في إحكام قبضته على الحكم في العراق وتأثيره "الكارثي" بحسب وصف صاغية، على حياة ملايين العراقيين.

"العراق أبعد من العراق في أسئلته وتحدياته، كما انطوت عليها قصة البعث- قصتنا جميعاً بمعنى من المعاني"، يكتب صاغية في مقدمة كتابه. حول هذا العراق، الأبعد من نفسه، حلّ صاغية ضيفاً على منصة "ارفع صوتك" التابعة لـ"الحرة" في يوليو الماضي، في حوار موسّع، يتخلله قراءة نقدية لماضي العراق وحاضره، ومحاولة استشراف للتحديات المستقبلية التي تنتظره.

من أين حضر "الهمّ العراقي" إلى حازم صاغية، ولماذا يشغل حيزاً ليس بقليل من كتاباته؟

جاءني العراق من أمكنة كثيرة. أمّا المكان الأوّل فتلك القصص التي كانت تُروى في بيتنا عن قريب لنا، هو الكاتب الناصريّ اللاحق والراحل نديم البيطار. فهو سافر إلى العراق، ولم أكن قد وُلدت، طلباً للدراسة والعيش في ظلال الملك غازي بن فيصل الأوّل الذي شبّهتْه الخفّة والحماسة العربيّتان بغاريبالدي، وقيل إنّه سيوحّد "أمّتنا" على النحو الذي وُحّدت فيه إيطاليا.

فإبّان عهد غازي القصير وُصف العراق بأنّه "بيادمونت العرب"، من قبيل القياس على تلك الإمارة الشماليّة التي حكمها "بيت سافوي"، ومنها انطلقت حركة التحرير من النمسويّين تمهيداً للوحدة القوميّة الإيطاليّة. ويبدو أنّ نديم، الشابّ والقوميّ العربيّ المتحمّس، أصرّ بعد عودته على اعتمار "الفيصليّة" التي درج على لبسها حينذاك شبّان قوميّون عرب، وذلك وسط اندهاش أهل القرية ممّن لم يكونوا قد سمعوا بفيصل وغازي ولا لبسوا قبّعات من أيّ نوع.

كان لتلك المرويّات عن نديم ورحلته ممّا تداوله كثيراً أهل بيتنا، أن وسّعت مخيّلتي لبلد اسمه العراق يضجّ بصُورٍ ومعانٍ غائمة الدلالة إلاّ أنّها واضحة الوجهة، وما الوجهةُ تلك إلاّ العروبة ووحدة العرب التي يُحجّ إليهما هناك.

وبسبب علاقة بيتنا بالبعث، باتت أسماء نوري السعيد وعبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف أسماء بيتيّة: الأوّل شتمناه، والثاني والثالث أحببناهما قبل أن نكرههما. والمشاعر حيال العراقيّين مشاعر عراقيّةٌ، بمعنى أنّها قويّة وحادّة ومتقلّبة، تماماً كما المشاعر الرومنطيقيّة.

وبشيء من التعميم أسمح لنفسي بالقول إنّ العراقيّ أشدّ العرب رومنطيقيّةً، وهو ما نلمسه في قسوته ورقّته، وفي أغانيه وأشعاره، وفي تديّنه إذا تديّن وإلحاده متى ألحد. وهكذا، حين حصل انقلاب 14 تمّوز الجمهوريّ في 1958، شعرت بفرح في بيتنا مردّه إلى أنّ أصدقاء جمال عبد الناصر أطاحوا نوري السعيد، صديق كميل شمعون. وحين حصل انقلاب 14 رمضان 1963، وكان لي من العمر ما يتيح لفرحي أن يستقلّ عن فرح أهلي، أحسست أنّ العراق مصدرُ ثأرنا من الانفصال السوريّ وممّا اعتبرناه خيانة الشيوعيّين وقاسم للقوميّة والوحدة العربيّتين.

وجاء اهتمامي بالعراق من تعرّفي إلى عراقيّين كثيرين في بريطانيا، كان أوّلهم الصديق الراحل فالح عبدالجبار، ولم يكن آخرهم الصديق كنعان مكيّة. ومن خلالهم  تحوّلت المعرفة بالعراق إلى أشباح وكوابيس تُروى عن حكم البعث وعن أفعال صدّام حسين – "السيّد النائب" ثمّ "السيّد الرئيس" ثمّ "السيّد الله".

ومن خلال تجارب سياسيّين وحزبيّين أتيح لي أن أعرفهم عن كثب، كالصديقين الراحلين هاني الفكيكي، وهو بعثيّ سابق، وعامر عبد الله، وهو شيوعيّ سابق، بتُّ أملك ما يشبه توثيق الفظاعات التي يرويها عراقيّون آخرون أقلّ ضلوعاً منهما في السياسة. فهنا يعثر السامع والناظر على تجارب شاملة تتعدّى السياسة والعقائد إلى آلام البشر الشخصيّة ومآسيهم.

والشمول المذكور مرآةٌ تعكس حقيقة نظام صدّام بوصفه أقرب نماذجنا العربيّة إلى التوتاليتاريّة. ففي ذاك اللامعقول بدا مشروعاً أن يسأل المرء نفسه "هل يوجد فعلاً هذا الكائن المدعو صدّام حسين أم أنّ الإرث الميثولوجيّ لما بين النهرين هو ما يحضّ العراقيّين على اختراعه كيما يؤسطروا حياتهم؟".

وجاءني العراق أيضاً من شعر كثير، تقاسمَ أبياته شعراء انجذبت إلى قصائدهم في هذه المرحلة من حياتي أو تلك، لكنّ المؤكّد أنّ أشدّهم أثراً كان بدر شاكر السيّاب الذي لا يزال الحبّ لعراقه ولجيكوره يلازمني حتّى اللحظة.

"بعث العراق" ربما يكون الكتاب الأكثر تخصصاً في تأريخ ظاهرة البعث العراقي، وقد خصصت كتاباً آخر للبعث السوري. ما الذي يمكن أن يتعلمه قارئ من جيل الألفية الجديدة حول هذا التاريخ؟

 ما يمكنني التحدّث عنه هو ما تعلّمته أنا، وهو أنّ البعث كان أقوى جسورنا في المشرق العربيّ الآسيويّ إلى الكارثة التي لا نزال نرزح تحتها، كما كان، عربيّاً، ثاني أقوى جسورنا إليها بعد الناصريّة.

لقد جمع البعث بين حداثة الحزب والعقيدة وقدامة القبيلة والخرافة، ما جعله يُطبق علينا من جهات كثيرة. لكن ما يرعبني أنّ الدور الفظيع للبعث، بوصفه الطرف الذي صادر تاريخ العراق وسوريا، وأفسد البلدين وألغى احتمالاتهما، لا يستوقف الكثيرين بوصفه هذا، بل في أحيان كثيرة لا يستوقف بعض معارضي البعث وضحاياه ممّن لا زالوا يرونه حركة تحرّر أخطأت الوسيلة لكنّها لم تخطىء الهدف، أو يرونه قاطرة لهيمنة طائفيّة يُردّ عليها بهيمنة طائفيّة معاكسة.

هل خرج العراق من تداعيات حزب البعث، أم لا يزال يعاني؟

هذه أنظمة تدمّر الماضي والحاضر والمستقبل بيد واحدة: الماضي بكتابتها للتاريخ، والحاضر بقمعها وقهرها السكّان المواطنين، والمستقبل بتفتيتها المجتمع وسدّها باب الاحتمالات.

بهذا المعنى، لا أظنّ أنّ العراق يخرج "من تداعيات البعث" إلاّ بمباشرة واحدٍ من اثنين: إمّا مراجعة وطنيّة راديكاليّة صارمة تطال القواسم المشتركة بين البعث وخصومه، لا سيّما الأطراف الراديكاليّة الشيعيّة الموالية لإيران، أو تطوير الفيدراليّة العراقيّة وإكسابها مزيداً من الصدقيّة والجديّة، بحيث تبدأ كلّ واحدة من الجماعات حياتها السياسيّة في مواجهة أبناء جلدتها من قامعيها ومُضطهِديها بعيداً من التذرّع بالآخر الطائفيّ والإثنيّ. والخياران، للأسف، ضعيفان جدّاً.

هل كان يمكن لنظام البعث أن يسقط من دون غزو عسكري أميركي؟ هل كانت هناك طرق أخرى لإسقاطه؟

لا أظنّ ذلك، بدليل أنّ ذاك النظام عاش ما بين 1968 و2003، وخاض خلال تلك المرحلة عديد الحروب ولم يسقط. لكنّ هذا الواقع، على ما فيه من مأسويّة، لا يكفي لتبرير مبدأ التدخّل لإسقاط النظام، ولا يكفي خصوصاً لتبرير الأخطاء والحماقات الهائلة التي رافقت ذاك التدخّل.

 هل كان خاطئاً قرار "اجتثاث حزب البعث" الذي أصدره الحاكم الأميركي بول بريمر بعد سقوط النظام؟ وكيف يجب على العراقيين التعامل مع التركة الثقيلة للحزب؟

يصعب على من يسمّي نفسه ديمقراطيّاً أن يوافق على سلوكٍ أو إجراء اسمه "اجتثاث"، وبالنظر إلى تاريخ الأحقاد الطائفيّة التي رسّخها نظام صدّام، لم يكن من الصعب توقّع انقلاب ذاك الاجتثاث اجتثاثاً للسنّيّة السياسيّة في العراق.

فليكن بعثيّاً من يؤمن بـ"الوحدة والحريّة والاشتراكيّة"، ولا تكون يداه ملوّثتين بالدم والفساد. أمّا الحياة السياسيّة نفسها فتستطيع أن تتولّى تنظيف نفسها بنفسها. غير أنّ مبدأ كهذا يبدو اليوم بعيداً جداً بسبب التعفّن الذي يضرب الحياة السياسيّة والوطنيّة والإدارة الإيرانيّة النشطة لهذا التعفّن.

 بعد أكثر من عشرين عاماً على سقوط البعث العراقي، لا يزال حضوره في الشارع العربي لافتاً، خصوصاً في الأردن ولبنان، حيث يمكن رؤية صور صدام حسين في كثير من الأماكن، كما أن "الترحم" على زمن صدام شائع على مواقع التواصل الاجتماعي. ما تفسيرك لهذه الظاهرة؟

لا أظنّ أنّ حضور البعث، كحزب وكأيديولوجيا هو الظاهرة اللافتة. اللافت أمران كثيراً ما يتقاطعان، أوّلهما شعور بالمظلوميّة السنيّة المحتقنة، وهو ما تتقاسمه الصداميّة مع الحركات الأصوليّة والراديكاليّة السنيّة على أنواعها. ومن هذه المظلوميّة تأتي فكرة التحدي ورد التحدي بوصفها "ديانة" أنتجها موت صدام وظروف إعدامه. وتزدهر نظرة كهذه على ضوء قراءة البعض مآسي سوريا ومآسي غزة بوصفها مآسي سنية لا يوجد طرف سني قويّ يرفعها عن كاهل السنّة.

أمّا الأمر الثاني فتلخّصه النتائج البائسة لتجربة العراق بعد تحريره من صدّام وحكمه، ما يرى البعض فيه سبباً وجيهاً للترحّم عليهما، إذ هل يُعقل احتمال كلّ تلك المآسي وبذل كلّ تلك الأكلاف للوصول إلى بلد على هذا النحو؟

يُعتبر العراق اليوم في أكثر فتراته السياسية ما بعد ٢٠٠٣ "استقراراً"، بعد سنوات من العنف والفوضى. ما التوازنات التي أرست هذا "الاستقرار" النسبي برأيك، وهل يمكن البناء عليه؟

لا أظنّ ذلك لأنّ هذا "الاستقرار" تعبير عن تجميد للحياة السياسيّة، وهو مقرون بجعل طهران مصدر التحكيم الأخير في الشأن الشيعيّ. أمّا عنصر الإزعاج الذي مثّلته انتفاضة أواخر 2019 فعُطّل بالقوّة، فيما المكوّنان الآخران، الكرديّ والعربيّ السنّي، يلزمان الحدود التي أملاها تقسيم العمل القائم.

تحضر في العراق أزمة إنتاج النخب السياسية السنية، في وقت يبدو أن التطرف والإرهاب يملآن، في أحيان كثيرة، الفراغ الذي يتركه غياب هذه النخب. ما سبب عدم قدرة العراق على إنتاج زعامة سنية منذ سقوط صدام، وهل الخيارات محدودة إلى هذه الدرجة؟

يشبه وضع السنية السياسيّة العراقيّة وضع المسيحية السياسية اللبنانية قبل خروج الأمن والجيش السوريين من لبنان سنة 2005، أي التهميش الذي يبتر العلاقة بالسياسة كما يبتر الحراك السياسيّ في داخل الجماعة المهمّشة.

وأظنّ، مع توسّع حالة المَيْلَشَة في العراق كما في عموم المشرق العربي، أن السياسة تغدو أقرب إلى الاستحالة، ولا يتسع المجال، إذا اتسع، إلاّ للمداخلات المتطرفة الإرهابية وشبه الإرهابية.

 تحل في العراق هذه الأيام الذكرى العاشرة على اجتياح داعش، والذكرى السابعة على تحرير مدينة الموصل (وقت إجراء الحوار). هنا تحضر إشكالية الأقليات ومصائرها، هل يمكن للعراق أن يتعافى ويستعيد تنوعه الإثني والطائفي. أم أن المسألة أبعد من داعش؟

كانت "داعش" تعبيراً مكثفاً وحاداً وشديد البدائية عن انسداد أبواب السياسة، وعن اتخاذ المنازعات شكلاً يجمع بين العنفية وتعدي الإطار الوطني. وواقع كهذا يُستأنف بأشكال ألطف، والجميع يدفعون أكلاف ذلك، لا سيما الأقليات الأضعف والأصغر، خصوصاً في ظل تماسك جماعة الأكثرية (الشيعيّة) وتسلحها وتواصلها المباشر مع إيران، فضلاً عن الوعي الطائفي النضالي لفصائلها.

في المسألة الكردية، كيف تقيم تجربة الحكم الذاتي وعلاقة أربيل بالحكومة الاتحادية في بغداد. وهل يشكل العنصر الاقتصادي مأزقاً لفكرة الاستقلال الكردي؟

هناك سياسة من التحايُل على الحقوق الفيدراليّة للكرد، والمالُ بعض أشكال هذا التحايُل الذي يستكمله الابتزاز الآيل إلى استضعاف الكرد عبر تعييرهم بعلاقاتهم مع الولايات المتّحدة واتّهامهم الذي لا يكلّ بعلاقات مع إسرائيل.

في الوقت ذاته، وهو مصدر لارتفاع أسهم التشاؤم، لم ينجح الكرد في بناء تجربة أرقى من تجارب العرب، تجربة تكون أقلّ قرابية واعتماداً على الرابط الدموي مع ما يتأدى عن ذلك من إضعاف للشفافيّة، أو أقدر على توحيدهم من السليمانيّة إلى أربيل في نموذج بديل واعد.

هذه حال مدعاة للأسى، لكن ليس لليأس، لظنّي أنها قابلة للإصلاح والاستدراك في زمن لا يطول كثيراً، أو أن هذا ما آمله وأرجوه.

كيف تقرأ الدور الإيراني في العراق؟ وهل ترى أن العراق يشكل جبهة جدية من جبهات محور الممانعة؟

لا نبالغ إذا قلنا إنّ الدور الإيرانيّ في العراق يعادل منع العراق من التشكّل. أما جرّه لأن يصير جبهة من جبهات الممانعة فجديته الأكبر تكمن في هذا الهدف بالضبط، أي في إبقائه بلداً متعثّراً ومتنازعاً داخلياً ومرتَهَناً لطهران، أمّا إذا كان المقصود بالجدية فعاليته العسكرية كجبهة ممانعة فهذا ما تحيط به شكوك كثيرة.

وفي هذا لا تُلام إيران بل يُلام العراقيّون الذين تسلّموا في 2003 بلداً كبيراً يملك شروط القوّة والغنى، فأهدوه إلى جيرانهم. وهي واقعة تنبّه مرة أخرى إلى مدى تغلّب الرابط المذهبيّ العابر للحدود في منطقة المشرق على الرابط الوطنيّ.

هل من دور تلعبه دول الخليج العربي في العراق لموازنة الحضور الإيراني؟

لا أعرف. أظن أنها، من خلال متابعة إعلامها وفي حدود ما هو متاح لها دبلوماسياً، تحاول ذلك.

بعد هجوم السابع من أكتوبر في إسرائيل، عاد إلى الواجهة الحديث عن الإخوان المسلمين في العراق، واتصالهم بالقضية الفلسطينية. هنا يحضرني سؤالان: الأول عن علاقة العراق بالقضية الفلسطينية وهل هي في صلب اهتمامات الشارع العراقي أم أنها مادة للاسثمار السياسي؟ والسؤال الثاني: هل ترى أن تجربة "الإخوان" ممكنة في عراق اليوم؟

بطبيعة الحال يتفاعل العراقيّون بقوّة، شأنهم شأن باقي المشارقة، مع القضية الفلسطينية. لكنني أظن، وفي البال تاريخ الحقبة الصدامية وما تلاها من أعمال ثأرية وعنصرية نزلت بفلسطينيي العراق، أنّ المسألة الطائفية هي التي تقرر اليوم هذا التفاعل، وهي التي توظفه بما يلائمها.

أليس من المريب أن البيئة التي هاجمت الفلسطينيّين في 2003 و2004 واتهمتهم بالصدامية كما أخذت على صدام إهداره أموال العراقيين على فلسطين والفلسطينيّين، هي التي تخوض اليوم معركة غزّة!؟ أمّا الإخوان المسلمون العراقيون فلا أملك اليوم ما يكفي من معلومات عن أحوالهم بما يتيح لي الرد على السؤال، لكنّني أظن أن فرصة لعب الإخوان دوراً أكبر متاحة وممكنة مبدئياً في ظل غياب قوى سياسية سنية منظمة وفي المناخات التي تطلقها حرب غزة ودور حركة حماس ذات الأصل الإخواني فيها.

إذا أجريتَ مراجعة نقدية لرؤيتك السياسية حول العراق، هل ترى أنك اخطأت في مكان ما؟ أين؟

بطبيعة الحال أخطأت كثيراً. فإذا كان المقصود أطوار الماضي، حين كنت متعاطفاً مع الناصرية والبعث ثم إبان ماركسيتي، فكلّ ما فعلته وقلته كان خطأ. وأمّا إذا كان القياس على وعيي الراهن، أي ما يعود إلى قرابة 45 عاماً إلى الوراء، فأظن أن الأخطاء لم تكن من نوع "إستراتيجيّ" إذا صحّ التعبير، بل طالت درجات الحماسة والاندفاع وسوء التقدير في بعض الأحيان.

برأيك هل يمكن للعراق أن يستقر ويأخذ سيادته الكاملة في ظل تجربة ديمقراطية رائدة، أم أن الأوان قد فات على ذلك؟

ليس هناك ما "يفوت" في ما أظن، لكن الحديث في المستقبل هو ما تعلمنا التجارب أن نتروى ونتردد كثيراً فيه. ما يمكن قوله إن تجارب كبرى فاتت وتعويضها يستلزم جهوداً جبارة لا يبدو لي أن ثمة ما يشير إليها أو يوحي بها راهناً.

أور

تغير المناخ يفتك بكنوز الماضي العراقية، يحذر خبراء.

تتشققات وتصدعات في الأبنية، وتآكل في الزخارف والنقوش، وتقشر في أحجار الهياكل، إلى جانب تخلخل الأساسات وتفتتها، في حين تطمر العواصف الرملية مدنا أثرية بأكملها.

"يقول خبير الآثار العراقي، عامر عبدالرزاق، لموقع الحرة" إن آثار الرياح والجفاف والرطوبة بادية على كثير من الشواخص والمعابد في مدينة الحضر وفي بابل أيضا ومدينة أور.

ويضيف: "تأثيرات تغير المناخ واضحة على زقورة أور ومعبد "دب لال ماخ" والمقبرة الملكية في أور، وكذلك في مدينة الوركاء وزقوراتها ومعابدها ومدينة آشور أيضا في الشرقاط ومدينة نيبور في محافظة ديوانية".

وخلال زياراته المتكررة لتلك المواقع، لاحظ عبدالرزاق "تآكل كثير من أجزائها وانخفاض ارتفاعاتها، فالزقورات ومنها زقورة أور يقل ارتفاعها سنويا بنسب قليلة وتنخفض عن مستوى الأرض ببعض السنتمترات.

ويحذر عبدالرزاق "على الرغم من أن الانخفاض يجري بنسب قليلة سنوية، لكن إذا استمر الحال هكذا فإنها بمرور الزمن وبزيادة الوتيرة في التغير المناخي ستختفي هذه المدن الاثرية".

ويطالب خبير الآثار الحكومة العراقية بالعمل "للحفاظ على الآثار باستخدام تقنيات حديثة وإجراء عمليات صيانة لحماية هذا الإرث الحضاري من العوامل الجوية المتطرفة".

ويقترح عبدالرزاق إنشاء سقائف واقية عملاقة لحماية جميع المواقع الأثرية أو بناء صناديق زجاجية عملاقة لحماية المقابر الملكية والزقورات والمواقع والمباني الأثرية الأخرى كي تحميها من الرياح والعواصف الرملية.

ويؤكد عبدالرزاق وجود خطط حكومية لصيانة الآثار، لكنه يعتقد أنها لا ترقى إلى مستوى المشكلة، ويشير في الوقت ذاته إلى أن كثرة المواقع الأثرية وانتشارها في مواقع نائية يجعل من الصعب شمولها جميعا بالإجراءات الحكومية.

"هناك حاجة إلى جهد حكومي أكبر وصندوق مالي خاص بعمليات ترميم وصيانة الآثار،" يقول عبدالرزاق.

وتقدم كنيسة "القصير" الأثرية، جنوب غربي محافظة كربلاء وسط البلاد، مثالا بارزا على تأثير التغير المناخي على الآثار والمباني التراثية في العراق، بحسب وزارة الثقافة والأثار العراقية.

في سبتمبر الماضي، قالت الوزارة في بيان إن "الهيئة العامة للآثار والتراث في الوزارة تواصل تعاونها المشترك مع فريق التغيرات المناخية بشأن تدارس تأثير التغيرات المناخية والتطرفات المرتبطة بها على الآثار العراقية وقد اتخذت موقع القصير الآثاري نموذجا لهذا التأثير".

ولفت البيان الى أن كنيسة "القصير" التي يعود تاريخ بنائها إلى القرن الخامس الميلادي، كانت تتميز بوجود كتابات باللغة الآرامية على جدرانها، لكن هذه الكتابات اندثرت، فضلا عن تساقط أجزاء من جدران الكنيسة بفعل عوامل المناخ التي تشكل مشكلة حقيقية تهدد باندثار هذا المعلم الحضاري.

وتشير إحصائيات رسمية، أعلن عنها وزير الثقافة والسياحة والاثار، أحمد البدراني، خلال مقابلة مع قناة العراقية الرسمية، في أكتوبر الماضي، الى أن العراق يحتضن أكثر من 15 ألف موقع أثري مثبت، بينما تبلغ أعداد المواقع الأثرية غير المثبتة أكثر من 100 ألف موقع.

ويرى عمر عبد اللطيف، عضو مرصد "العراق الأخضر" المتخصص في شؤون البيئة، أن تأثيرات تغير المناخ على المواقع الأثرية ليست جميعها سلبية، بل هناك تأثيرات إيجابية أيضا.

يقول عبداللطيف لـ"الحرة"، "ظهر عدد من المواقع الأثرية التي كانت مختفية تحت مياه نهر الفرات في قضاءي هيت وحديثة التابعتين لمحافظة الأنبار غربي العراق، إثر انخفاض مناسيب مياه النهر".

ويدعو عبداللطيف الهيئة العامة للآثار والتراث إلى الاهتمام بالمناطق الأثرية والتراثية المتضررة من تأثيرات تغير المناخ.

ويحذر من أن التطرف المناخي في بعض المناطق قد يؤدي الى إصابة آثارها بضرر أكثر مثلما حصل في "طاق كسرى" جنوبي بغداد، إذ انهارت بعض أجزائه بفعل عوامل مناخية، وتجري حاليا عمليات ترميمه وإعادة تأهيله.

إلى جانب تأثيرات تغير المناخ، تتعرض المواقع الأثرية في العراق إلى مخاطر، تشمل عمليات نبش وتنقيب بطرق غير قانونية تؤدي في الغالب إلى تدمير الأثر بهدف سرقة محتوياته.

ويلفت مستشار محافظ ذي قار لشؤون المواطنين، حيدر سعدي، أن هجرة السكان من العديد من المناطق جنوبي العراق بسبب الجفاف، ومنها مناطق أثرية، فسحت المجال أمام العصابات للعبث بها.

يقول سعدي لـ"الحرة"، "ينبغي علينا تشديد الإجراءات خاصة في المناطق التي باتت الآن فارغة تماما، قد تكون مهيئة لعمليات النبش وربما النبش لأعماق كبيرة باستخدام الآليات الثقيلة باعتبار أنها بعيدة عن المراقبة، فالتصحر أثر سلبا بشكل واضح على الحماية المجتمعية لهذه الأماكن".

ويشير سعدي إلى الحاجة لتشريعات وإجراءات حكومية محلية أو بالشراكة مع منظمات دولية لحماية هذه المدن والمواقع الأثرية التي قد تكون عرضة للسرقة أو النبش.

يقول مدير عام الصيانة في الهيئة العامة للآثار والتراث، محمد حسين أمين، إن مديرية الصيانة تعمل على حماية المواقع الأثرية.

ويشير إلى أن عمليات الترميم والصيانة الدورية التي تقوم بها المديرية تشمل "إصلاح الأضرار التي لحقت بالهياكل الأثرية بسبب عوامل الطقس، وإنشاء مظلات واقية وسقائف لحماية المواقع الأثرية المكشوفة من الأمطار وأشعة الشمس المباشرة".

ويؤكد أمين لـ"الحرة"، أن "عمليات الترميم والصيانة تتضمن استخدام مواد حديثة مقاومة للرطوبة والأملاح تتناسب مع بيئة الموقع، إلى جانب إجراء دراسات تقييم الضرر المناخي، لتحديد أكثر المواقع تعرضاً للخطر ووضع خطط لحمايتها".

ووفق أمين، تقدم مديرة الصيانة التدريب المستمر لكوادرها الفنية، لإتقان الأساليب الحديثة في الصيانة واستخدام التقنيات العلمية المتطورة، كما تتعاون في مجال صيانة وترميم الآثار مع العديد من المنظمات الدولية كاليونسكو والآيكوموس، للحصول على دعم فني ومالي لتنفيذ هذه العمليات.

ويدعو أمين إلى زيادة التمويل الدولي لحماية التراث الثقافي العراقي من خلال برامج الأمم المتحدة أو الشراكات الثنائية، وإدراج مزيد من المواقع الأثرية العراقية على قائمة التراث العالمي لتوفير حماية دولية ورقابة مستمرة لهذه المواقع.

ويعتبر العراق، وفق الأمم المتحدة، خامس البلدان الأكثر تعرضا للتدهور المناخي عالميا، نظرا للظواهر المناخية العنيفة التي تعصف به منذ نحو عشر سنوات.

وأشارت إحصائيات صادرة عن الأمم المتحدة إلى أن العراق شهد عام 2021 ثاني أكثر مواسمه جفافا منذ 4 عقود، بسبب الانخفاض القياسي في هطول الأمطار. 

وعلى مدى السنوات الأربعين الماضية، انخفضت، بنحو 40%، تدفقات المياه في نهري دجلة والفرات، اللذين يوفران نحو 98% من المياه السطحية في العراق.