أكراد إيران

على مدى عقود، وجدت الجماعات الكردية الإيرانية المعارضة لطهران ملاذا في تضاريس إقليم كردستان الوعرة، وتناثرت في مخيمات، بعيدة نسبيا عن متناول النظام الإيراني، لكنها لم تكن يوما خارج دائرة اهتماماتها. 

بنى هؤلاء المقاتلون وعائلاتهم حياة جديدة، في ظل تسامح حكومات عراقية متعاقبة، وتحت أنظار القوى الدولية. لكن هذا التوازن الهش بات اليوم مهددا من جديد.

في 24 أبريل، أصدرت مستشارية الأمن القومي العراقية، التابعة لمجلس الوزراء، قرارا يحظر جميع أنشطة الأحزاب والجماعات الإيرانية المعارضة الموجودة على الأراضي العراقية. 

الوثيقة، التي وقعها مستشار الأمن القومي، قاسم الأعرجي، وجهت القوات الأمنية والعسكرية وهيئة المنافذ الحدودية وحكومة إقليم كردستان باتخاذ الإجراءات اللازمة لتنفيذ القرار، بما يشمل إغلاق مقار الجماعات الإيرانية المعارضة، ومنع أي نشاط سياسي أو إعلامي أو عسكري لها على الأراضي العراقية. والأهم من ذلك، حظرت استخدام الأراضي العراقية كمنصة للتحريض أو شن هجمات ضد إيران.

يستهدف القرار الفصائل الكردية الإيرانية الرئيسية التي يعود وجودها في إقليم كردستان إلى ثمانينيات القرن الماضي، حين فرت من قمع نظام آية الله روح الله الخميني بعد ثورته عام 1979. وقد أُنشئت مقارها ومخيماتها، بموافقة نظام صدام حسين آنذاك، في مناطق مثل بازيان، وقسلان، وبمو، وزركويز، وسلسلة جبال قنديل.

ورغم طرد منظمة مجاهدي خلق الإيرانية من العراق في عام 2016، استمرت الفصائل الكردية الإيرانية في نشاطها في إقليم كردستان، مع أنها كانت قد تخلّت عن العمليات العسكرية انطلاقا من الأراضي العراقية، وركزت على العمل السياسي والإعلامي. إلا أن ذلك لم يمنع طهران من مهاجمتها مرارا.

في عام 2023، وقّع العراق وإيران اتفاقا أمنيا يقضي بنزع سلاح الجماعات الكردية الإيرانية، وإغلاق قواعدها الحدودية، ونقلها إلى مخيمات خاضعة لإشراف الحكومة العراقية داخل الإقليم. وقد تم تنفيذ بعض بنود الاتفاق، لكن دون أن يشمل القرار حظرا شاملا على تلك الجماعات. 

قرار بغداد الجديد، في المقابل، يذهب إلى ما هو أبعد من الاتفاق السابق.

تواصلت قناة "الحرة" مع مستشارية الأمن القومي العراقية للاستفسار حول آليات تنفيذ القرار، لكنها لم تتلق أي رد.

ويرى قادة المعارضة الكردية أن الحظر الجديد يمثل انتهاكا للاتفاقات السابقة والتفاهمات الدولية. 

ويصف خليل نادري، المتحدث باسم حزب حرية كردستان الإيراني، القرار بأنه "حرب نفسية" تشنها طهران.

وضيف قوله "لن يكون لهذا القرار أثر كبير، لأن تنفيذه يعني إلغاء الاتفاق الأمني لعام 2023، وهو أمر لا يصب في مصلحة العراق ولا إيران".

وحذّر نادري من أن استمرار الضغوط قد يدفع الأحزاب إلى إعادة النظر في التزاماتها. وأضاف: "لقد أوقفنا نشاطنا العسكري منذ سنوات، احتراما لقوانين الإقليم وحماية له من الهجمات الإيرانية. النظام الإيراني يسعى لخلق توتر بيننا وبين الإقليم، لكنه سيفشل".

يوجد حاليا نحو 10 أحزاب كردية إيرانية معارضة تنشط في إقليم كردستان، من بينها الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني (حدكا)، وأجنحة حزب كومله الثلاثة، وحزب حرية كردستان (PAK)، وحزب الحياة الحرة الكردستاني (PJAK)، وفصائل أخرى. وتتمتع العديد من هذه الأحزاب بدعم شعبي واسع داخل كردستان الإيرانية.

وأكد أمجد حسين بناهي، القيادي في حزب كومله لكادحي كردستان - إيران، أن قوات الأسايش في محافظة السليمانية أبلغت أجنحة الحزب الثلاثة بوجوب إخلاء مقارها في مناطق زركويز وبانه كوره وزركويزله، والانتقال إلى منطقة سرداش، تنفيذا للاتفاق الأمني.

وقال بناهي لـ"الحرة": "لقد التزمنا بقرارات حكومة الإقليم، ولم نقم بأي خطوة تُعرّض المنطقة للخطر. لكن لدينا شرط أساسي: توفير مساكن مناسبة لعائلاتنا في المناطق الجديدة التي سنُنقل إليها".

ورغم تأكيده على أن الحظر سيؤثر على نشاط الأحزاب الكردية المعارضة في كردستان العراق، أشار بناهي إلى أن قوة هذه الأحزاب الحقيقية تكمن في وجودها داخل إيران، وفي قاعدتها الشعبية الواسعة.

ويرى بناهي أن توقيت إصدار الحظر يعكس ضعف النظام الإيراني. وأوضح أنه "كلما واجه النظام أزمة داخلية، سارع إلى استهداف المعارضة الكردية، لإيهام الشعب بأنه لا يزال قويا ومتماسكا. لذلك نرى أن تصعيده ضدنا هو دليل على أنه يعيش أزمة داخلية وخارجية مزدوجة".

يؤكد خبراء أن الاتفاق الأمني لعام 2023 لم ينصّ على حظر تام لتلك الجماعات، بل اقتصر على تحجيم نشاطها العسكري، وهو ما كانت الأحزاب قد التزمت به فعليا في السنوات الأخيرة.

ويقول الخبير الأمني العراقي، علاء النشوع، إن القرار يعكس التوترات المتزايدة في المنطقة، خاصة في ظل سياسة "الضغط الأقصى" التي تنتهجها الولايات المتحدة تجاه طهران. ويضيف أن النظام الإيراني يدرك أن عدم التزامه بالشروط الأميركية قد يدفع واشنطن لاستخدام ورقة المعارضة الكردية للضغط عليه. ولذلك طلب من العراق سرا اتخاذ هذا القرار.

ويشدّد النشو على أن قرار بغداد يبعث برسالة مزدوجة، إلى إقليم كردستان من جهة، وإلى المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة من جهة أخرى، مفادها أن العراق لا يمكن أن ينفصل عن الرؤية الاستراتيجية لإيران في منطقة تعيش وضعا أمنيا وعسكريا معقدا.

تتّهم طهران الجماعات الكردية بتنفيذ عمليات مسلحة وتنظيم احتجاجات في مدن كردية داخل إيران، أبرزها احتجاجات سبتمبر 2022، التي اندلعت إثر مقتل الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق، بزعم مخالفتها قوانين الحجاب.

بالتزامن مع تلك الاحتجاجات، شن الحرس الثوري الإيراني هجوما واسعا على مخيمات اللاجئين الإيرانيين شمالي العراق، مستخدما صواريخ باليستية وطائرات مسيّرة، ما أسفر عن مقتل 17 شخصا على الأقل، وإصابة أكثر من 50، بحسب مصادر صحية محلية.

وبحلول نهاية عام 2024، قدّرت مصادر غير رسمية عدد اللاجئين الكرد الإيرانيين في إقليم كردستان العراق بنحو 35 ألف لاجئ، معظمهم من النساء والأطفال.

ولم تقتصر الحملة الإيرانية على القصف الصاروخي؛ فقد شملت أيضا عمليات توغل بري واغتيالات، بالإضافة إلى قصف مدفعي طال قرى ومزارع، وتسبب في تدمير واسع للغابات والبنية الزراعية، ونزوح مئات المدنيين في الإقليم.

واليوم، ومع صدور قرار الحظر من بغداد، تجد المعارضة الكردية الإيرانية نفسها أمام فصل جديد غامض محاصرة بين نظام يسعى لإسكاتها، وحكومة عراقية عالقة وسط حسابات الجغرافيا والسياسة الإقليمية.

أور

تغير المناخ يفتك بكنوز الماضي العراقية، يحذر خبراء.

تتشققات وتصدعات في الأبنية، وتآكل في الزخارف والنقوش، وتقشر في أحجار الهياكل، إلى جانب تخلخل الأساسات وتفتتها، في حين تطمر العواصف الرملية مدنا أثرية بأكملها.

"يقول خبير الآثار العراقي، عامر عبدالرزاق، لموقع الحرة" إن آثار الرياح والجفاف والرطوبة بادية على كثير من الشواخص والمعابد في مدينة الحضر وفي بابل أيضا ومدينة أور.

ويضيف: "تأثيرات تغير المناخ واضحة على زقورة أور ومعبد "دب لال ماخ" والمقبرة الملكية في أور، وكذلك في مدينة الوركاء وزقوراتها ومعابدها ومدينة آشور أيضا في الشرقاط ومدينة نيبور في محافظة ديوانية".

وخلال زياراته المتكررة لتلك المواقع، لاحظ عبدالرزاق "تآكل كثير من أجزائها وانخفاض ارتفاعاتها، فالزقورات ومنها زقورة أور يقل ارتفاعها سنويا بنسب قليلة وتنخفض عن مستوى الأرض ببعض السنتمترات.

ويحذر عبدالرزاق "على الرغم من أن الانخفاض يجري بنسب قليلة سنوية، لكن إذا استمر الحال هكذا فإنها بمرور الزمن وبزيادة الوتيرة في التغير المناخي ستختفي هذه المدن الاثرية".

ويطالب خبير الآثار الحكومة العراقية بالعمل "للحفاظ على الآثار باستخدام تقنيات حديثة وإجراء عمليات صيانة لحماية هذا الإرث الحضاري من العوامل الجوية المتطرفة".

ويقترح عبدالرزاق إنشاء سقائف واقية عملاقة لحماية جميع المواقع الأثرية أو بناء صناديق زجاجية عملاقة لحماية المقابر الملكية والزقورات والمواقع والمباني الأثرية الأخرى كي تحميها من الرياح والعواصف الرملية.

ويؤكد عبدالرزاق وجود خطط حكومية لصيانة الآثار، لكنه يعتقد أنها لا ترقى إلى مستوى المشكلة، ويشير في الوقت ذاته إلى أن كثرة المواقع الأثرية وانتشارها في مواقع نائية يجعل من الصعب شمولها جميعا بالإجراءات الحكومية.

"هناك حاجة إلى جهد حكومي أكبر وصندوق مالي خاص بعمليات ترميم وصيانة الآثار،" يقول عبدالرزاق.

وتقدم كنيسة "القصير" الأثرية، جنوب غربي محافظة كربلاء وسط البلاد، مثالا بارزا على تأثير التغير المناخي على الآثار والمباني التراثية في العراق، بحسب وزارة الثقافة والأثار العراقية.

في سبتمبر الماضي، قالت الوزارة في بيان إن "الهيئة العامة للآثار والتراث في الوزارة تواصل تعاونها المشترك مع فريق التغيرات المناخية بشأن تدارس تأثير التغيرات المناخية والتطرفات المرتبطة بها على الآثار العراقية وقد اتخذت موقع القصير الآثاري نموذجا لهذا التأثير".

ولفت البيان الى أن كنيسة "القصير" التي يعود تاريخ بنائها إلى القرن الخامس الميلادي، كانت تتميز بوجود كتابات باللغة الآرامية على جدرانها، لكن هذه الكتابات اندثرت، فضلا عن تساقط أجزاء من جدران الكنيسة بفعل عوامل المناخ التي تشكل مشكلة حقيقية تهدد باندثار هذا المعلم الحضاري.

وتشير إحصائيات رسمية، أعلن عنها وزير الثقافة والسياحة والاثار، أحمد البدراني، خلال مقابلة مع قناة العراقية الرسمية، في أكتوبر الماضي، الى أن العراق يحتضن أكثر من 15 ألف موقع أثري مثبت، بينما تبلغ أعداد المواقع الأثرية غير المثبتة أكثر من 100 ألف موقع.

ويرى عمر عبد اللطيف، عضو مرصد "العراق الأخضر" المتخصص في شؤون البيئة، أن تأثيرات تغير المناخ على المواقع الأثرية ليست جميعها سلبية، بل هناك تأثيرات إيجابية أيضا.

يقول عبداللطيف لـ"الحرة"، "ظهر عدد من المواقع الأثرية التي كانت مختفية تحت مياه نهر الفرات في قضاءي هيت وحديثة التابعتين لمحافظة الأنبار غربي العراق، إثر انخفاض مناسيب مياه النهر".

ويدعو عبداللطيف الهيئة العامة للآثار والتراث إلى الاهتمام بالمناطق الأثرية والتراثية المتضررة من تأثيرات تغير المناخ.

ويحذر من أن التطرف المناخي في بعض المناطق قد يؤدي الى إصابة آثارها بضرر أكثر مثلما حصل في "طاق كسرى" جنوبي بغداد، إذ انهارت بعض أجزائه بفعل عوامل مناخية، وتجري حاليا عمليات ترميمه وإعادة تأهيله.

إلى جانب تأثيرات تغير المناخ، تتعرض المواقع الأثرية في العراق إلى مخاطر، تشمل عمليات نبش وتنقيب بطرق غير قانونية تؤدي في الغالب إلى تدمير الأثر بهدف سرقة محتوياته.

ويلفت مستشار محافظ ذي قار لشؤون المواطنين، حيدر سعدي، أن هجرة السكان من العديد من المناطق جنوبي العراق بسبب الجفاف، ومنها مناطق أثرية، فسحت المجال أمام العصابات للعبث بها.

يقول سعدي لـ"الحرة"، "ينبغي علينا تشديد الإجراءات خاصة في المناطق التي باتت الآن فارغة تماما، قد تكون مهيئة لعمليات النبش وربما النبش لأعماق كبيرة باستخدام الآليات الثقيلة باعتبار أنها بعيدة عن المراقبة، فالتصحر أثر سلبا بشكل واضح على الحماية المجتمعية لهذه الأماكن".

ويشير سعدي إلى الحاجة لتشريعات وإجراءات حكومية محلية أو بالشراكة مع منظمات دولية لحماية هذه المدن والمواقع الأثرية التي قد تكون عرضة للسرقة أو النبش.

يقول مدير عام الصيانة في الهيئة العامة للآثار والتراث، محمد حسين أمين، إن مديرية الصيانة تعمل على حماية المواقع الأثرية.

ويشير إلى أن عمليات الترميم والصيانة الدورية التي تقوم بها المديرية تشمل "إصلاح الأضرار التي لحقت بالهياكل الأثرية بسبب عوامل الطقس، وإنشاء مظلات واقية وسقائف لحماية المواقع الأثرية المكشوفة من الأمطار وأشعة الشمس المباشرة".

ويؤكد أمين لـ"الحرة"، أن "عمليات الترميم والصيانة تتضمن استخدام مواد حديثة مقاومة للرطوبة والأملاح تتناسب مع بيئة الموقع، إلى جانب إجراء دراسات تقييم الضرر المناخي، لتحديد أكثر المواقع تعرضاً للخطر ووضع خطط لحمايتها".

ووفق أمين، تقدم مديرة الصيانة التدريب المستمر لكوادرها الفنية، لإتقان الأساليب الحديثة في الصيانة واستخدام التقنيات العلمية المتطورة، كما تتعاون في مجال صيانة وترميم الآثار مع العديد من المنظمات الدولية كاليونسكو والآيكوموس، للحصول على دعم فني ومالي لتنفيذ هذه العمليات.

ويدعو أمين إلى زيادة التمويل الدولي لحماية التراث الثقافي العراقي من خلال برامج الأمم المتحدة أو الشراكات الثنائية، وإدراج مزيد من المواقع الأثرية العراقية على قائمة التراث العالمي لتوفير حماية دولية ورقابة مستمرة لهذه المواقع.

ويعتبر العراق، وفق الأمم المتحدة، خامس البلدان الأكثر تعرضا للتدهور المناخي عالميا، نظرا للظواهر المناخية العنيفة التي تعصف به منذ نحو عشر سنوات.

وأشارت إحصائيات صادرة عن الأمم المتحدة إلى أن العراق شهد عام 2021 ثاني أكثر مواسمه جفافا منذ 4 عقود، بسبب الانخفاض القياسي في هطول الأمطار. 

وعلى مدى السنوات الأربعين الماضية، انخفضت، بنحو 40%، تدفقات المياه في نهري دجلة والفرات، اللذين يوفران نحو 98% من المياه السطحية في العراق.