ما إن دخل اتفاق الهدنة في غزة حيز التنفيذ صباح الجمعة حتى بدأ المئات من النازحين الفلسطينيين العودة من جنوبي القطاع إلى شماله، ودفعت مشاهد توافد الكثير من المجموعات الجيش الإسرائيلي إلى إطلاق تحذيرات جاء فيها أنه "لن يسمح بأي شكل من أشكال تنقل السكان".
وبينما دعا الناطق باسم الجيش، أفيخاي أدرعي عبر موقع التواصل "إكس" إلى عدم الاقتراب من القوات العسكرية ومناطق شمال وادي غزة أعلن أن "منطقة شمال القطاع هي منطقة قتال ويحظر البقاء فيها"، مضيفا بالقول: "الحرب لم تنتهي".
وذكرت مراسلة "الحرة" أن 3 فلسطينيين قتلوا برصاص القوات الإسرائيلية، خلال محاولات مواطنين التوجه شمالا، بينما أصيب 15 آخرين.
وفي غضون ذلك وثّقت تسجيلات مصورة محاولات عناصر من الجيش الإسرائيلي منع سكان من التوجه إلى شمال القطاع، وأظهرت أخرى دبابات ومدرعات وبالقرب منها أشخاص يحاولون العبور.
ومن المقرر أن تستمر الهدنة لأربعة أيام، لكن لا يعرف ما إذا كانت إسرائيل وحماس ستتفقان عبر الوسطاء على تمديدها لأيام أخرى، مع استمرارهما أيضا بعمليات تبادل الرهائن والمعتقلين لديهما.
لماذا تتوجس إسرائيل؟
وعندما كانت مفاوضات الاتفاق تنضج ويتم الإعلان عن قرب الانتهاء منها بشكل تدريجي خلال الأيام الماضية أثار مسؤولون عسكريون سابقون في إسرائيل قضية حملت "مخاوف وتوجس" من أن تؤثر الهدنة بالسلب على "الزخم العسكري للجيش الإسرائيلي".
وبينما بقيت هذه المخاوف قائمة، توسعت دائرتها مع دخول الاتفاق حيز التنفيذ، وبدء توافد السكان الذين نزحوا مؤخرا إلى الجنوب، بفعل تكثيف حملة القصف.
وترى صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" في تقرير لها أن "توجه الآلاف من سكان غزة شمالا يمثل تحديا محتملا لحملة الجيش الإسرائيلي بعد الهدنة"، واعتبرت أن "حماس تشجع المدنيين على العودة إلى منطقة الحرب، بينما يستخدم الجيش الإسرائيلي قوة محدودة لمنع التدفق".
ونقلت الصحيفة عن الجنرال المتقاعد إسرائيل زيف، وهو الرئيس السابق لعمليات الجيش الإسرائيلي قوله إن "حماس تحاول تشجيع العديد من مئات الآلاف من سكان غزة الذين تم إجلاؤهم إلى الجنوب على العودة، من أجل تعطيل الحملة العسكرية الإسرائيلية بالكامل لتدمير الحركة الحاكمة لغزة".
وأضاف زيف: "ليس لدى حماس مشكلة في التضحية بجميع سكان غزة كما أثبتت"، متوقعا أن "تكثّف حماس جهودها خلال الأيام الأربعة المقررة للهدنة، مما يمثل تحديا معقدا للغاية، حيث يسعى الجيش الإسرائيلي إلى استئناف حملته عندما ينتهي وقف القتال".
اللواء الفلسطيني المتقاعد، واصف عريقات يقول إن "إسرائيل لا تريد عودة النازحين، لأنها تريد إفراغ المنطقة بشكل كامل". ورغم ذلك "لن يقبل الشعب الفلسطيني بتمرير هذا الواقع"، حسب تعبيره.
ويوضح عريقات لموقع "الحرة" أن "سكان غزة كانوا قد رفضوا من الأساس النزوح والهجرة. ومن خرج منهم من الشمال إلى الجنوب هاجر بفعل الضغط.. لكنه سيعود".
ومنذ أن أصدرت إسرائيل أوامر الإخلاء لأول مرة في شمال قطاع غزة في 13 أكتوبر نزح ما يقدر بنحو 1.7 مليون شخص من سكان القطاع البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة في ظل سعي إسرائيل للإطاحة بـ"حماس".
وعلى الرغم من دخول الجيش الإسرائيلي قبل ثلاثة أسابيع إلى مدينة غزة ومناطق أخرى في شمال القطاع بقيت المئات من العائلات المحاصرة في المشافي وفي عدة مخيمات، على رأسها جباليا.
"هناك محاولات في الوقت الحالي لعودة النازحين"، ويرى اللواء المتقاعد عريقات أنه "كلما امتدت الهدنة كلما كانت هناك فرصة لعودة النازحين، بغض النظر عن رغبة إسرائيل من عدمها".
"يصعّب المهام العسكرية"
ونقلت "تايمز أوف إسرائيل" عن ضابط كبير في القيادة الجنوبية للجيش الإسرائيلي قوله بعد ظهر الجمعة إن "القوات سترد على أي محاولة لإلحاق الأذى بهم وسط وقف إطلاق النار، بينما يقضي الجيش وقته في الاستعداد لاستئناف القتال".
وأضاف: "أي شخص يشكل تهديدا لقواتنا سيتم ضربه. إن أمن قواتنا هو أولوية قصوى"، وتابع: "هكذا تصرفنا، وهكذا سنواصل التصرف. نحن نستعد لمواصلة الهجوم بكل قوتنا فور انتهاء الهدنة".
وبشأن الموقف الإسرائيلي يوضح المحلل والباحث السياسي، يوآف شتيرن أن "قضية شمال القطاع وعودة السكان تشكّل تحديا لإسرائيل لأنها تريد بعد انتهاء الهدنة أن تبقى هذه المناطق خالية".
"وجود السكان يصعب المهام العسكرية في المنطقة، وإسرائيل تحاول أن تتجنب المدنيين"، واعتبر شتيرن في حديث لموقع "الحرة" أن "وجودهم في شمال القطاع يعني أنهم تحت خطر الاستهداف، مما يحد من قدرات العمل بحرية للجيش الإسرائيلي".
وأسفرت الحرب الإسرائيلية في شمال قطاع على مدى شهر ونصف الشهر عن مقتل الآلاف من المدنيين في غزة، غالبيتهم من النساء والأطفال، ودفعت بقرابة مليون شخص إلى النزوح جنوبا.
وأصبح 45 بالمئة من إجمالي المنازل في جميع أنحاء القطاع مدمرا للغاية بحيث لا يمكن العيش فيها، وفقا لتقديرات الأمم المتحدة.
وبحسب مجلة "بوليتيكو" الأميركية، فإن تدمير البنية التحتية الحيوية "له عواقب لسنوات مقبلة" على سكان القطاع الساحلي الذي يقطنه 2.3 مليون نسمة.
ويرى المحلل شتيرن أن "عودة السكان إلى الشمال تعني أنه وبعد انتهاء الهدنة سيضطر الجيش الإسرائيلي إلى توجيههم مرة أخرى إلى الجنوب".
وبما أن الجيش الإسرائيلي أصدر تحذيرات وهدد بمنع التنقل، يعتقد المحلل أنه "لا يستطيع أن يمنع العودة بشكل كلي، لأنه لا ينوي الاحتكاك معهم".
"فخ حماس"
ولا تمثل عودة السكان من جنوب القطاع إلى شماله التحدي الوحيد الذي تتوجس منه إسرائيل، ويشير مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق مئير بن شبات إلى آخر، ضمن مقالة نشرتها صحيفة "يسرائيل هيوم"، ظهر الجمعة.
تحت ما أسماه "ضرورة تجنب فخ حماس" قال بن شبات إنه "يتعين على إسرائيل أن تبقي آلتها الحربية قيد التشغيل أثناء وقف إطلاق النار"، و"مما لا شك فيه أن الحركة ترغب في رؤية وقف إطلاق النار كنقطة تحول في الصراع"، حسب تعبيره.
وتعتقد حماس كما يرى بن شبات أن "وقف إطلاق النار سيؤدي إلى فقدان جيش الدفاع الإسرائيلي للزخم وسيقوم بتقليص عملياته تدريجيا من خلال سلسلة من وقف إطلاق النار المحدود والشروط التقييدية، حتى يتم التوصل إلى وقف كامل للأعمال الهجومية".
وفي الوقت نفسه جاء في المقالة أن "إسرائيل سوف تفقد شرعيتها لخوض حرب شديدة الحدة، وسوف يزيد المجتمع الدولي من جهوده الدبلوماسية من أجل التوصل إلى ترتيبات أوسع نطاقا، وفي هذه الأثناء سوف تتعافى حماس".
"إن وقف إطلاق النار الذي تم الاتفاق عليه كجزء من صفقة الرهائن سوف يشكل العديد من التحديات العملياتية لإسرائيل"، و"التحدي الأكبر هو كيفية ضمان قدرة الجيش الإسرائيلي على استئناف إطلاق النار بدلا من الوقوع في فخ حماس"، كما يعتبر مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق.
بدوره يوضح الباحث شتيرن أن "إسرائيل معنية الآن بإطلاق سراح المزيد من المحتجزين وبأكبر قدر، لأنها تعرف أن جزء ليس ببسيط من الجنود سيبقى في يد حماس".
وستكون إسرائيل معنية بإطلاق سراح كبار السن والنساء والأطفال، وبعد ذلك ستستمر المعارك.
"يمكن أن نرى تمديدا للهدنة"، ويعتقد شتيرن أن "حماس ستماطل وسيكون هناك عدم وضوح من جانبها، وهو ما سيدفع إسرائيل للاستعجال للعودة إلى المعركة، كي لا يكون هناك أي شك".
وقبل دخول الهدنة حيز التنفيذ نشر الجيش الإسرائيلي تسجيلا مصورا لرئيس الأركان، هرتزل هاليفي، قال فيه: "لن ننهي الحرب سنستمر حتى ننتصر. نمضي قدما ونستمر في مناطق حماس الأخرى".
وقبله قال رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو قبل اجتماع للموافقة على الهدنة الإنسانية: "دعوني أوضح: نحن في حالة حرب – وسنواصل الحرب".
وبينما كان موقف رئيس الوزراء الإسرائيلي يهدف جزئيا إلى تهدئة المتشددين الذين يعارضون بشدة أي تنازلات لحماس يؤكد أيضا أنه حتى بعد ستة أسابيع من القتال الذي احتلت فيه شمال غزة وأحدثت دمارا غير مسبوق هناك فإن إسرائيل لا تزال بعيدة كل البعد عن تحقيق أهدافها العسكرية، وفق تقرير نشرته صحيفة "فاينانشال تايمز" يوم الخميس.