قبل 7 سنوات، ترك الشاب عبد العزيز "قطعتين من قلبه" (أمه وأبيه) في سوريا، قبل أن يغادر مع زوجته وأطفاله وشقيقتيه الاثنتين إلى لبنان، وبعدما تصاعدت الأحداث خلال الأيام الماضية، عاش ذات الحالة مع "ضريبة أكبر" على الصعيد المادي والنفسي، والواقع القائم الذي قتل "رفاهية انتقاء الخيارات".
وفيما بقي هو في لبنان، عادت عائلة الشاب إلى سوريا بعد انتظار دام لأكثر من 14 ساعة على الحدود، وتخلل هذه المدة الزمنية العمل على تصريف 100 دولار إلى الليرة السورية لكل فرد يزيد عمره عن 18 عاما.
وعملية تصريف الـ100 دولار تفرضها سلطات دمشق منذ سنوات، على كل مواطن يريد العودة عبر المعابر، بغض النظر عن حالته في الخارج، ويراها عبد العزيز في حديثه لموقع "الحرة"، "مؤشرا دقيقا عن نظرة النظام السوري لمن يقيم في الخارج من السوريين، وطريقة تعاطيه مع مآسيهم".
ولم يعد للشاب عائلة، ولا يعلم ما إذا كان سيلتقي بمن غادرهم لاحقا أم لا.. ويضيف أن القرار الذي اتخذه بإعادة زوجته وأطفاله وشقيقتيه إلى سوريا لم يكن "خيارا"، بل أجبرته الظروف القائمة في لبنان عليه، موضحا أنه لم يلتحق بهم لأسباب تتعلق بوضعه الأمني في سوريا والعسكري، بسبب تخلفه عن أداء الخدمة.
ومع ذلك، يرى أن الضريبة "المزدوجة" التي دفعها تكاد تكون "مضاعفة" على بقية السوريين المقيمين في لبنان، وليس على صعيد الانتظار مقابل "العودة للوطن برسوم"، إذ يشير إلى وجود عائلات دون مأوى، وأخرى تعجز عن تأمين المبالغ المحددة بالدولار على الحدود، أو اتخاذ قرار استئجار منازل أخرى بأسعار باهظة.
والسوريون في لبنان هم جزء من المجتمع في البلد الذي يشهد حملة إسرائيلية جوية تستهدف عدة مواقع في قراه وبلداته، أسفرت خلال الأيام الأربعة الماضية عن مقتل أكثر من 400 شخص، وإصابة قرابة ألفين آخرين.
وفي حين أن الأزمة والتداعيات الخطيرة الحاصلة تطال جميع السكان، فإن الصورة تبدو "أكثر قتامة" عند النظر إلى الحالة المتعلقة بانعدام الخيارات أمام السوريين، الذين يعيش القسم الأكبر منهم في ظروف معيشية صعبة.
"ليس للسوري مطرح"
حسب التقديرات الحكومية في لبنان، يعيش في البلاد 1.5 مليون لاجئ سوري و13,715 لاجئ من جنسيات أخرى.
وفيما يتعلق بالسوريين على وجه التحديد، تقول مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، إن 90 بالمئة منهم يعيشون في حالة من "الفقر المدقع"، فيما تبرز منطقة البقاع على أنها المنطقة الأعلى كثافة باللاجئين.
ولا تعتبر البقاع الوحيدة كمقصد، إذ تعيش الكثير من العائلات السورية في مناطق متفرقة من الجنوب اللبناني، وكان أفراد منها قد قتلوا خلال الأيام الماضية، بفعل الضربات الإسرائيلية، وفقا لـ"المرصد السوري لحقوق الإنسان" والمسؤولين اللبنانيين.
وأوضح أبو خالد، وهو أربعيني سوري، يقيم في محافظة النبطية جنوبي لبنان، لموقع "الحرة"، أنه وإلى جانب فقدان أرواح سوريين بفعل القصف، فقد استقر مصير الكثير منهم خلال الأيام الماضية في الحدائق وتحت الجسور دون مأوى.
وتحدث عن الواقع بقوله: "اللاجئ السوري لا مدرسة أو مركز إيواء يستقبله ولا أي مطرح! (مكان).. فقط يستقبلون النازحين اللبنانيين بالدرجة الأولى".
وقبل يومين، استقبل أبو خالد عائلة سورية نازحة من منطقة الغبيري، مضيفا أنه حسب مشاهداته، فإن قسما من السوريين اختاروا البقاء في منازلهم في جنوب لبنان "لانعدام الخيارات"، في حين اتجه آخرون إلى الإقامة في الحدائق، ومن بينها "حديقة قصقص".
وكانت السلطات اللبنانية قد أعلنت أنها جهزّت "مراكز إيواء". وذكرت وسائل إعلام لبنانية، أن قسما من العائلات النازحة قصدت المدارس. وفي غضون ذلك سجّل الأمن العام اللبناني خلال اليومين الماضيين، عبور 16139 لبناني إلى سوريا.
وبعدما انتشرت تقارير عن منع سوريين من الدخول إلى المدارس، نفى مسؤول لموقع "الحرة" ذلك.
وأوضح المسؤول الإعلامي لخلية إدارة الأزمات والكوارث في مدينة محافظة بيروت، الملازم أول فادي بغدادي، أنه تم استقبال نازحين سوريين في الأيام الماضية بالمدارس.
وقال لموقع "الحرة": "بين 68 إلى 70 مدرسة في بيروت، استقبلت نازحين سوريين تخطى عددهم الـ17 ألفا".
"النساء والأطفال إلى سوريا.. والشبان في لبنان"
وفي تعليقها لموقع "الحرة"، قالت الناطقة باسم مفوضية اللاجئين في لبنان، ليزا أبو خالد، إن المفوضية "تشعر بالقلق إزاء التقارير التي تفيد بحرمان أسر اللاجئين من الوصول إلى الملاجئ الجماعية".
وأضافت أن "المفوضية وشركاؤها تعمل مع السلطات المعنية على إيجاد حلول عاجلة".
وتخلق الأعمال العدائية الراهنة – المقرونة بالأزمة الاجتماعية والاقتصادية المستمرة –تحديات لجميع الفئات السكانية والمجتمعات المحلية، التي تستحق جميعها الوصول بشكل متساو إلى الأمان والكرامة، حسب أبو خالد.
وأوضحت أن اللاجئين الذين فروا من وطنهم بحثا عن الأمن والأمان حاليا، يواجهون واقعا صعبا مع اضطرارهم إلى النزوح مرة أخرى في لبنان جرّاء الأعمال العدائية المستمرة.
ونبهت أيضا إلى أن "حالة النزوح المزدوج تؤدي إلى تفاقم جوانب ضعفهم".
ووفقا لأرقام نقلتها وكالة "رويترز" عن المفوضية، الجمعة، فقد عبر أكثر من 30 ألف شخص، معظمهم سوريون، من لبنان إلى سوريا، وهو رقم يقترب من الإحصائية التي نشرها الأمن العام اللبناني، الخميس.
لكن بالنظر إلى تفاصيل العبور، فإن "معظم العائدين" السوريين إلى بلدهم هم من النساء والأطفال تحت سن 18 عاما، كما يقول الشاب السوري صلاح، المقيم في إحدى قرى جنوبي لبنان لموقع "الحرة".
وأضاف الشاب أن أخيه أرسل عائلته قبل يومين إلى سوريا ،وكذلك الأمر بالنسبة لابن أخيه.
ولفت إلى أن عمليات العبور من سوريا إلى لبنان "تتصدرها النساء والأطفال على وجه التحديد" بعيدا عن الشبان، "لاعتبارات أمنية".
من ناحية أخرى، أشار صلاح إلى وجود عائلات سورية دون مأوى تحت جسر خلده وعين المريسة، وآخرين لا يزالون في الحدائق.
وتابع متحدثا عن حالة انعدام الخيارات: "الأوضاع الخاصة بالسوريين سيئة إلى أبعد الحدود. قسم منهم في الحدائق بينما قرر الكثير من الرجال إرسال نسائهم وأطفالهم (إلى سوريا)، بعدما أغلقت جميع الطرق أمامهم".
كما أشار إلى ذلك، الأربعيني السوري أبو خالد، بقوله إن "الكثير من العائلات ذهبت إلى سوريا كنساء وأطفال، بينما ظّل الشباب في لبنان، بسبب عدم إمكانيتهم عبور الحدود لاعتبارات أمنية".
"طريقان وسائقون على الخط"
وبينما تستمر عمليات العبور من لبنان إلى سوريا، من جانب السوريين أو اللبنانيين، بدأ سائقون في العاصمة اللبنانية بيروت ينشطون على طول الخط الواصل إلى الحدود، لنقل العائلات لقاء مبالغ مالية.
وتواصل موقع "الحرة" مع سائقين اثنين عبر تطبيق "واتساب"، قالا إن عملية عبور السوريين خلال الأيام الماضية كانت "ضمن مسارين". الأول عبر طرق شرعية، والثاني هو التهريب من خلال المعابر غير الشرعية.
وفي حين أن الوصول من بيروت إلى نقطة المصنع تتطلب دفع 70 دولارا أميركيا للسوري الواحد، دون أن يشمل ذلك تصريف الـ100 دولار، تتطلب عملية دخول سوريا عن طريق "التهريب" دفع 60 دولارا، وفق قول أحد السائقين.
وأوضح السائق الآخر أن "عامل الوقت والانتظار" يميّز الفارق بين المسارين، إذ يضطر كثير من السوريين واللبنانيين للانتظار أكثر من 10 ساعات قبالة المعابر الشرعية من أجل العبور، في حين تستغرق رحلة الدخول بصورة غير شرعية ساعة واحدة فقط عبر "جسر قمار".
ووفقا لـ"المرصد السوري"، لا تزال عائلات سورية تفضل الموت في لبنان على العودة إلى مناطق النظام السوري، برغم تزاحم العائلات اللبنانية عند المعابر الحدودية قاصدين سوريا للإقامة، ريثما تتوقف الهجمات الإسرائيلية.
وأضاف في تقرير، الجمعة، أن مراكز الإيواء التي حددتها الحكومة اللبنانية "ترفض استقبال السوريين باعتبار أن الأولوية هي للبنانيين الهاربين"، وهو ما نفاه بغدادي.
من جهته، قال الشاب السوري صلاح، إن قسما من النازحين السوريين توجهوا إلى طرابلس، بعدما فُتحت منازل هناك أمامهم.
لكن في المقابل، أضاف أن آخرين "لا يزالون تحت الجسور وفي الحدائق".
و"تقع على عاتق جميع الجهات الفاعلة في لبنان، مسؤولية دعم مبادئ العمل الإنساني المتمثلة في الحياد وعدم التمييز وعدم الإضرار (do no harm)"، حسب المتحدثة باسم مفوضية اللاجئين، أبو خالد.
وأوضحت أن ما سبق يجب أن يكون "ضمن سياق المساواة في الوصول إلى المساعدات والمأوى الآمن، بما في ذلك اللاجئين من سوريا والجنسيات الأخرى".