"كنت أفكر في العودة إلى العمل بإسبانيا من أجل قوت أولادي ولكن الظروف قاسية هناك، ولو كان زوجي يشتغل وذا إمكانيات لما وطأت قدماي تلك البلاد منذ المرة الأولى"، بهذه العبارة تحكي الأم المغربية الزهرة الفتوح، عن تجربتها كعاملة موسمية بإسبانيا خلال العام الماضي.
تعيش الزهرة (46 سنة) في دوار الدشريين ببلدية صدية بإقليم تطوان شمال المغرب (حوالي 270 كلم عن الرباط)، وتروي لموقع "الحرة" عن اضطرارها لقبول فرصة العمل الموسمية بمزارع إسبانية بعد أن فقدت الأمل في إيجاد مصدر دخل مستقر في بلدها، ووجدت نفسها أمام خيارات صعبة من أجل تأمين حياة أفضل لأبنائها.
بدأت رحلة الزهرة بالتسجيل لدى الوكالة الوطنية لإنعاش التشغيل (أنابيك) بمدينة فاس، وعند وصولها إلى الحقول الإسبانية وجدت نفسها في بيئة عمل قاسية، حيث كانت أيامها طويلة وشاقة، تبدأ قبل بزوغ الفجر ولا تنتهي إلا عند غروب الشمس.
تشير الزهرة وهي أم لثلاثة أبناء، إلى أنها تحملت أوضاعا قاسية أثناء فترة عملها (ثلاثة أشهر)، إذ كان عليها تسلق سلالم عالية وحمل أكياس وصناديق ثقيلة من البرتقال في ظروف تتسم بالإرهاق والخطر الجسدي. تقول الزهرة "انكسرت شوكة شجرة البرتقال في رأسي وبدأ الدم ينزف على وجهي، أذرفت الدموع وعانيت كثيرا".
ورغم ذلك، ظلت تعمل الزهرة بصمت، متشبثة بحلم إعالة أسرتها في المغرب، لكن القصة لم تقتصر على العمل المضني، فقد واجهت معاملة تمييزية من المشرفين جعلت كل يوم عمل أشبه بمعركة جديدة من الإذلال والانتهاكات التي تحملتها بألم وحسرة مما جعل الغربة أكثر مرارة.
شهادة الزهرة تعكس واقعا مريرا يعيشه العديد من العمال الموسميين المغاربة في أوروبا، الذين يجدون أنفسهم عالقين بين أحلام تحسين المعيشة وكابوس الاستغلال الذي يصل إلى حد الاتجار بالبشر.
"وسطاء وشبكات غير قانونية"
وفي هذا السياق، أكد الفاعل الجمعوي المغربي بفرنسا، جمال بوسيف، عن "استمرار استغلال العمال المغاربة الموسميين في أوروبا خاصة في المناطق الفلاحية جنوب فرنسا وإسبانيا، إذ يتم استقدامهم عبر وسطاء وشبكات غير قانونية".
وقال بوسيف في حديث مع "الحرة" إن هؤلاء العمال يعيشون ظروفا قاسية ما يجعلهم عرضة للاستغلال والاتجار بالبشر، وهو ما تم توثيقه مؤخرا في قضية بمحكمة فرنسية أصدرت حكما ضد مغربي ونجله تورطا في استغلال عمال موسميين.
وأوضح بوسيف أن "استقدام العمال الموسميين في المناطق الفلاحية يتم غالبا عبر شبكات تستغل حاجة هؤلاء الأشخاص لتحسين أوضاعهم الاقتصادية، مقابل مبالغ مالية غير قانونية يدفعونها مسبقا".
وأضاف أن "العديد من هؤلاء العمال يصدمون عند وصولهم بالواقع المرير، حيث يجدون أنفسهم في بيئة عمل صعبة ومنافسة غير عادلة مع عمال محليين يتمتعون بامتيازات قانونية، مما يضع العمال المغاربة في ظروف عمل غير آدمية".
ودعا بوسيف لزيادة التوعية بين الشباب المغاربة عبر منصات التواصل الاجتماعي، لتجنب الوقوع ضحايا لهذه الشبكات، مؤكدا أن الحل يكمن في تمكين هؤلاء العمال من التواصل المباشر مع المشغلين دون وساطة، ما يضمن حصولهم على فرص عمل حقيقية وآمنة.
كما دعا الجهات المسؤولة في المغرب وأوروبا لاتخاذ إجراءات صارمة لحماية هؤلاء العمال من الاستغلال، سواء عبر تنظيم الحملات التوعوية أو توفير وسائل قانونية لاستقدام العمال.
"استغلال وتحرش جنسي"
وقال رئيس المركز المغربي لحقوق الإنسان، عبد الإله الخضري، إن "استقدام العمال المغاربة الموسميين للعمل في الحقول الأوروبية يتم غالبا عبر وسطاء وسماسرة غير شرعيين ينشطون في المناطق النائية بالمغرب، حيث يستغلون هشاشة وظروف السكان الاقتصادية والاجتماعية، ويروجون لمعلومات مغلوطة حول ظروف العمل والأجور المرتفعة في الخارج، ويقومون بابتزاز النساء المرشحات للهجرة عن طريق طلب رشاوى للتسجيل في اللوائح أو حتى استغلالهن جنسيا قبل مغادرتهن البلاد.
وذكر الخضري في تصريح لـ"الحرة"، أن "انتشار شبكات الاتجار بالبشر يعود بالأساس إلى غياب وسطاء قانونيين ومؤسساتيين يعملون وفق إطار قانوني"، مضيفا أن "الطلب المرتفع على اليد العاملة الموسمية في دول مثل إسبانيا وفرنسا وإيطاليا خلق سوقا سوداء تزدهر فيها شبكات التهجير غير القانوني التي تمتلك قدرة الوصول إلى أبعد المناطق القروية، مستهدفة النساء اللاتي يعانين من الفقر أو المسؤوليات الأسرية الثقيلة، مما يدفعهن لقبول الهجرة رغم المخاطر".
وبشأن ظروف العمل بالخارج، أوضح الخضري أن العمال المغاربة يعانون من أوضاع قاسية تشمل السكن غير اللائق، ساعات العمل الطويلة التي قد تتجاوز 12 ساعة يوميا، والأجور التي تحتجز أحيانا في حسابات بنكية أوروبية دون ضمان صرفها بالكامل، مشيرا إلى أن "العديد من العاملات يتعرضن للاستغلال والتحرش الجنسي خاصة في الحقول الزراعية البعيدة عن الرقابة القانونية أو الحضرية".
وشدد الناشط الحقوقي على أهمية وضع حلول جذرية لهذه المعضلة، بما في ذلك تحسين ظروف العمل بالمغرب للحد من الهجرة القسرية، وتوفير آليات مؤسساتية لمواكبة العمال الموسميين قبل وأثناء الهجرة، داعيا إلى تعزيز الإشراف القانوني على العقود ومراقبة ظروف العمل في الخارج وإنشاء مكاتب تابعة للمؤسسات المغربية في دول المهجر لضمان حماية حقوق العمال وحل أي نزاعات قد تواجههم.
"ظواهر مشابهة بالخليج"
ومن جانبها، أفادت نائبة رئيس المجلس الوطني لاندماج ومشاركة كفاءات مغاربة العالم، زينبة بن حمو، بأن مسألة العمال الموسميين المغاربة في أوروبا أصبحت معروفة بشكل واسع، خاصة في المجال الفلاحي في دول مثل إسبانيا وجنوب فرنسا، مشيرة إلى أن هذه الأخيرة أبرمت اتفاقيات رسمية كالاتفاقية التي تم توقيعها مع الوكالة الوطنية لإنعاش التشغيل في المغرب في أغسطس الماضي، لاستقدام 800 ألف عامل مغربي للعمل بعقود موسمية في القطاع الفلاحي.
وتابعت بن حمو حديثها لـ"الحرة"، بأن المغاربة كانوا من بين الأكثر استفادة من تصاريح العمل الموسمية بأوروبا خلال سنة 2023، حيث بلغ عدد التصاريح الممنوحة لهم 58 ألفا و547 تصريحا، مسجلة أن العقود الموسمية الرسمية تضمن حقوق الطرفين سواء العمال أو الجهة المشغلة، لكن بعض العمال لا يلتزمون بشروط هذه العقود، حيث يقوم البعض "بالحريك" أي البقاء في أوروبا بشكل غير قانوني بعد انتهاء مدة عملهم، مما يعرضهم لصعوبات قانونية ومطاردات أمنية.
واعتبرت بن حمو أن "المسؤولية تقع جزئيا على هؤلاء الأفراد الذين يدخلون أحيانا في اتفاقيات غير رسمية مع وسطاء غير قانونيين، ويدفعون مبالغ مالية مقابل وعود عمل لا تضمن حقوقهم، مما يفتح الباب أمام استغلالهم أو حتى الاتجار بهم".
وأوضحت المتحدثة أن الاتجار بالبشر لا يقتصر على العمال الموسميين في أوروبا فقط، بل يشمل أيضا ظواهر مشابهة في دول الخليج، حيث يتم استقدام شابات مغربيات للعمل تحت وعود زائفة، ليجدن أنفسهن في أعمال غير مشروعة وغير شريفة.
وشددت بن حمو على "ضرورة توعية العمال المغاربة بمخاطر الهجرة غير القانونية، وتشجيعهم على البحث عن فرص العمل عبر قنوات رسمية واتفاقيات دولية مضمونة".
"ارتفاع عدد المتابعات والإدانات"
ولمواجهة التحديات المرتبطة باستغلال العمال المغاربة الموسميين في أوروبا وظاهرة الاتجار بالبشر، تعمل السلطات المغربية على تعزيز جهودها لحماية مواطنيها داخل وخارج البلاد، إذ اعتمد المغرب قانون مكافحة الاتجار بالبشر عام 2016، كما أحدث اللجنة الوطنية لتنسيق إجراءات مكافحة الاتجار بالبشر.
وعلى المستوى التنفيذي، سجلت المملكة خلال عام 2023 أكثر من 100 متابعة قضائية لجرائم مرتبطة بالاتجار بالبشر، إلى جانب إطلاق منصة رقمية "إبلاغ" للتبليغ عن الجرائم المتعلقة بهذا المجال.
ورغم هذه الجهود، أشار تقرير وزارة الخارجية الأميركية لعام 2024 إلى أن المغرب لا يزال في المستوى الثاني ضمن قائمة الدول التي تبذل جهودا دون أن تلتزم بالحد الأدنى في محاربة ظاهرة الاتجار بالبشر.
المصدر: الحرة