بشار الأسد حكم سوريا لمدة 24 سنة - أ ب
بشار الأسد حكم سوريا لمدة 24 سنة - أ ب

ما أن سيطر مسلحو الفصائل المعارضة على العاصمة دمشق وهرب الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد إلى روسيا، حتى تحولت مواقف فنانين، لطالما عرفوا بدعمهم للنظام أو التزامهم الصمت تجاه جرائمه.

هذا التغير في المواقف، يرى البعض بأنه محاولة منهم للخروج من موقف محرج وجدوا أنفسهم فيه، بعدما برروا جرائم نظام الرئيس الأسد، التي أصبحت الآن مكشوفة وظاهرة للعالم.

الفنان السوري عبد الحكيم قطيفان من إسطنبول قال لقناة "الحرة" إن السوريين عاشوا خلال 6 عقود داخل أسوار "مملكة الرعب والصمت" لكنه استطاع أن يعارض نظام الأسد رغم تلك المخاوف وسجنه لمدة 9 سنوات.

هذه الفترة الصعبة التي مرت بها سوريا قسمت الفنانين إلى مجموعات بعضها دعمت النظام وأخرى عارضته وثالثة التزمت الصمت. قطيفان أوضح أن البلد يمر الآن بمرحلة جديدة تمنى أن تبنى على أسس ديمقراطية وعادلة لكل المواطنين.

وقال قطيفان إنه لن يتصالح على الإطلاق مع الفنانيين الذين دعموا "الإرهاب والقمع والتشريد" الذي مارسه نظام بشار الأسد، وإنه لن يسامح الذين وقفوا ضد الشعب السوري واتهموا المعارضين بالخيانة والعمالة.

وعبر الفنان قطيفان أيضا عن مخاوفه من مستقبل البلد بعد سيطرة الفصائل المعارضة التي قال إنها "تحمل إيديولوجيات يعرفها الجميع"، داعيا تلك الفصائل أن تتحول إلى أحزاب سياسية فاعلة وتحل نشاطها المسلح.

سقط نظام الأسد في سوريا وسقطت معه آراء بعض مؤيديه خصوصا في الأوساط الفنية، فقد عبّر فنانون معارضون عن فرحتهم الغامرة وأعربوا عن فخرهم بالتغيير، في حين ظل آخرون في صمت أو خجل، محاولين التبرؤ من دعمهم السابق للنظام.

أبرز هؤلاء كان الفنان أيمن زيدان، الذي اعتذر بشكل صريح للشعب السوري، مشيراً إلى أنه كان أسيرا لثقافة الخوف.

سوزان نجم الدين، المؤيدة سابقا للأسد، تراجعت أيضا واحتفت بسقوطه، قائلة "سوريا للسوريين، سوريا بتجمعنا".

سلاف فواخرجي المشهورة بمواقفها المؤيدة للنظام، حذفت صورة تجمعها مع الأسد من صحفتها الرسمية على الإنستغرام.

أما المخرجة السورية رشا شربتجي التي اجتمعت هي ومجموعة من الفنانين السوريين مع الأسد في مارس الماضي، علقت على سقوط النظام بأن سوريا بحاجة إلى ناس تحبها.

لكن رغم تغير المواقف، يرى كثيرون أن الهوة التي تعمقت على مدى نحو 14 عاما في الوسط الفني السوري، بين فناني المنفى وفناني الداخل، قد تكون صعبة الردم، وهو ما يجعل مستقبل عودة الدراما السورية لسابق عهدها، واجتماع فنانيها باختلاف مواقفهم السياسية موضع شك، على الأقل في المستقبل القريب.

مي سكاف خلال مظاهرة في باريس 2016- فرانس برس
رسائل من الأرض إلى السماء.. "سوريا حرة"
ومع وصول قوات المعارضة التي أطاحت بالأسد إلى دمشق، تذكرتها كاتبة السيناريو والناشطة الحقوقية السورية ريما فليحان بمنشور على فيسبوك "حين كانت مي سكاف تتصل بي وفي جعبتها خبر ما، كانت تبدأ مكالمتها بـ يا ريماااااا بطريقة مميزة، اليوم صباحا بعد أن غفوت لثلاث ساعات فقط استيقظت وكأنني أسمع صوتها تنادي بنفس الطريقة.. ربما كنت أحلم ربما روحها تحوم اليوم تنتظر سقوط الطاغية".

أديغة يتظاهرون أمام السفارة الروسية في تركيا في ذكرى تعرضهم للإبادة - AFP
أديغة يتظاهرون أمام السفارة الروسية في تركيا في ذكرى تعرضهم للإبادة - AFP

عاشت عالمة الاجتماع الأديغية شولن شانلي حياتها بين تركيا والولايات المتحدة، وهي تنتمي إلى اللامكان. يساورها شعور دائم بالحنين لوطن لم تعش فيه، ولا يمكنها إيجاده.

هذا الوطن، بالنسبة للأكاديمية في جامعات أميركية، تحمله معها أنّى ارتحلت. 

وتحاول شانلي الاقتراب من المهاجرين طوعا وقسرا، أينما وُجدوا، بقصتها الشخصية، لتضيء على الإبادة الجماعية التي حلّت بشعب الأديغة على يد الإمبراطورية الروسية.

أديغيه بزيه هي اللغة التي تجمع قبائل الأديغة الـ12، بعد قرار اتخذوه في القرن التاسع عشر للوحدة بوجه طغيان الرّوس.

لكن هذه اللغة اليوم في خطر بحسب اليونسكو. المتحدثون بها لا يصلون بالكاد إلى مليون شخص، أكثرهم يعيشون في روسيا.

صورة لجدة شولن بعد التهجير لتركيا، عرضتها في مشروع حول قصة الأديغيه انطلاقا من تاريخها الشخصي

تمتد جذور شانلي إلى قبيلة "أوبوخ" في شمال القوقاز، وكانت لهم لغة خاصة انقرضت بوفاة آخر متحدث بها عام 1992.

الأديغة، كما يسمون أنفسهم، هم الشركس، وفق التسمية الأكثر شيوعا في الأوساط غير الأديغية.

من المهم بالنسبة لشانلي اعتراف الدول بأن ما حدث لشعبها خلال 100 سنة بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، إبادة جماعية.

قالت ذلك في 2021 عبر بودكاست أميركي. حينها كانت جورجيا فقط اعترفت بالإبادة (مايو 2011). 

لكن يناير الحالي شهد لحظة تاريخية جديدة للأديغة. ففي التاسع منه، اعترفت أوكرانيا بالإبادة التي تعرضوا لها على يد روسيا القيصرية.

مقاومة الطغيان الروسي

قبل أيام، نقلت السفيرة الأوكرانية في الأردن، بشارة في التاسع من يناير للأديغة. خاطبتهم "أيها الإخوة بالروح والسلاح". 

تشير بذلك إلى التاريخ المشترك في المقاومة المسلحة لواحدة من أعتى القوى في العالم؛ روسيا القيصرية.

وقالت ميروسلافا شيرباتيوك إن "أصوات الشركس التي تم إسكاتها عبر قرون من الظلم، باتت الآن تصدح بقوة في أروقة برلماننا".

فقد اعترف البرلمان الأوكراني (رادا العليا) بوقوع الإبادة الجماعية للشعب القوقازي (1763–1864).

العديد من أديغة الأردن، التي يقيم بها عدد كبير منهم، تلقوا الخبر بفرح وأكدوا على أهميته، وأن تحذو دول أخرى في الأمم المتحدة حذو أوكرانيا وجورجيا.

وأضافت شيرباتيوك أن اعتراف بلادها دليل على التزامها بالتضامن مع الشعوب المضطهدة في الإمبراطورية الروسية السابقة.

كما يعبر عن "الشجاعة الأخلاقية والإنسانية المشتركة وعدالة التاريخ"، وفق تعبيرها.

وتابعت شيرباتيوك "لطالما فهمت أوكرانيا الألم المدمر للكارثة التي تعرض لها الشركس، والقوة الهائلة المطلوبة لمواجهتها حتى يومنا هذا".

واعتبرت أن الإقرار بالإبادة جسر بين الشعبين الأوكراني والشركسي في شتاته. إنه جسر من الأمل والذاكرة والوحدة.

وأكدت شيرباتيوك على أن الفظائع التي ارتكبتها روسيا على مر الزمان لن تُنسى، كذلك ستستمر أوكرانيا بمقاومة العدوان الروسي بأشكاله.

قرار من قلب المأساة

مجموعة "العدالة لشمال القوقاز"، احتفت بهذا الاعتراف الأوكراني عبر استذكار أبيات الشاعر التونسي أبي القاسم الشابي الشهيرة "إذا الشعب يوماً أراد الحياة".

وقالت في بيان إن الاعتراف بالإبادة الجماعية للشركس "بادرة أمل" لكنها "ممزوجة بحزن عميق على الأرواح التي فُقدت في الحرب الوحشية".

ولكونه جاء من دولة تقاوم الغزو الروسي منذ ثلاث سنوات، يكتسب الاعتراف بعداً أعمق.

جاء في البيان "رغم أن أوكرانيا واجهت هجمات الغزاة والطغاة. ورغم الخيانة والقتل والدمار الناتج عن الهجمات المستمرة، لا تزال تقاوم محاولات تقويض مكانتها كدولة مستقلة ذات سيادة".

ووصفت اعتراف البرلمان بأنه "شجاع وصادق" تجاه معاناة الأمة الشركسية.

وتأمل المنظمة الشركسية بأن تتخذ دول أخرى خطوة مشابهة.

وأكدت على القاسم المشترك بين الأديغة والأوكران، فكلاهما يقاوم الطموحات الاستعمارية لروسيا منذ العهد الإمبراطوري حتى الآن.

حرب القوقاز

كان أحد أسباب التوسع الروسي في القوقاز هو الوصول إلى داغستان — ديربنت بعده إلى بحر قزوين. 

فقد كتب مسافر فرنسي في أوائل القرن الثامن عشر أن التجارة مع الجبال كانت تجلب لفرنسا عشرات الآلاف من العملات الذهبية.

هذا الأمر جذب الروس الطامعين بخيرات بلاد القوقاز. بدأ الأمر بالترويج لصورة سكان الجبال على أنهم "همج" وأحقية قتالهم، بحسب البروفيسور في العلوم التاريخية ديمتري بيلو.

كما تميزت مناطق الأديغة بأنظمة زراعية واقتصادية فريدة وسابقة لعصرها، دون إيذاء البيئة من حولهم.

حتى عندما وقعت المعارك الشرسة وأسر الشركس مقاتلين روس، كان يمكنهم كما فعل عدوهم، يقول بيلو، أن يحرقوا الأراضي والمساكن، لكنهم لم يفعلوا.

روسيا الإمبراطورية والسوفييتية اعتمدت تاريخ الحرب بين 1817 و1865، لكنها في الواقع الواقع بدأت قبل ذلك بكثير. 

أضاف بيلو "الشركس يحددون بداية هذه الحرب من عام 1763 ويؤكدون أن المواجهة العسكرية استمرت 101 سنة".

صورة أرشيفية للحرس الملكي الشركسي في الأردن- أ ف ب

واعتبر بيلو، وهو مدير قسم أبحاث "الهولودومور" في المتحف الوطني لـ"الهولودومور-الإبادة الجماعية"، أن الحرب مع الأديغة كانت أطول حرب استعمارية خاضتها روسيا في تاريخها الإمبراطوري.

والهولودومور، وتعني "القتل بالتجويع"، هي المجاعة التي حاقت بأوكرانيا السوفيتية في الموسم الزراعي 1932 - 1933.

روح جبليّة عصيّة الكسر

يختلف المؤرخون على أصل تسمية الأديغة بالشركس أو الجركس، إلا أن الكاتب عادل عبد السلام لاش، كتب عن ذلك في أحدث مؤلفاته "المجتمع الشركسي في سورية".

يقول إنها تعود لمنتصف القرن الثالث عشر، حيث ظهرت في وثيقة رسمية مكتوبة لأول مرة عام 1245، في رسالة كتبها جان دوبلان دوكاربان موفد البابا إينوسنت الرابع إلى خان المغول.

و أصبح الاسم متداولاً في الأوساط غير الشركسية، والإسلامية في عهود سلاطين الأيوبيين والترك والجركس، وفق لاش.

وتابع "كما استخدمت في عهد الدولة الجركسية في الشرق الأوسط بالذات (1382-1517م)، التي عرفت بـ (دولة السلاطين الجراكسة)".

ويحيي الأديغة حول العالم، ذكرى ضحايا الإبادة الجماعية في 21 مايو من كل عام. 

وقال بيلو، في خطاب بذكرى الإبادة، إن شعب الأديغة "فريد جداً".

ورغم الخصائص الإثنية لكل قبيلة، وحدتهم قوانين عُرفية: لغة، قرابة، أرض عاشوا فيها آلاف السنين.

في مايو 1864، وقعت آخر معركة بين المحاربين الأديغة والقوات الروسية في منطقة كراسنايا بوليانا قرب سوتشي، حيث قُتل جميع المحاربين.

يتحدث الشاعر الأوكراني تاراس شيفتشينكو عن هذه المعركة في قصيدته "القوقاز" قائلا: "وراء الجبال، جبال، مغطاة بالغيوم، مزروعة بالحزن، غارقة في الدماء".

يبين ديمتري بيلو، أن القوات الروسية دفعت الأديغة الذين بقوا في الجبال، أراضيهم الأصلية، نحو الساحل في مشروع تهجير قسري نحو تركيا.

لقي الآلاف مصرعهم بين فصلي الخريف والشتاء على ساحل البحر الأسود. 

بعض الشهود وصفوا بدموع حرّى "كان الطريق مفروشاً بالجثث. الناس يتجمدون، ويموتون من الأمراض والجوع".

دفع الأديغة كل ما لديهم من أجل الصعود للسفن، بعضها غرق بسبب حملها أكثر من طاقتها الاستيعابية.

شركس من سوريا، صورة أرشيفية التقطت عام 1950- أ ف ب

50 في المئة من أولئك اللاجئين لأراضي الدولة العثمانية قضوا في الطريق، وفق مصادر تاريخية ذكرها بيلو.

وقبل الإبادة الجماعية قدرت أعداد الأديغة بمليوني شخص. لم يبق منهم بعد التهجير للإمبراطورية العثمانية سوى 10في المئة.

من بقوا على قيد الحياة زرعوا في نفوس الأجيال اللاحقة ثقافة، كان الكثير يظن أنها ستندثر بسبب عدم تدويل قضيتهم حتى نهايات القرن العشرين.

وهو الذي جعل شانلي تحفر عميقاً في تاريخ أجدادها، لأنه بالنسبة لها التعريف الحقيقي لمعنى الانتماء.

"لماذا أنا في تركيا"، كان السؤال الذي راودها في بلد ولدت وترعرت فيه، مع عائلتها الأديغيّة.

تخبر شونلي عن الشركس الذين وصلوا السواحل في عزّ البرد، مات الكثير منهم بالمرض والجوع وصارت جثثهم طعاماً لأسماك البحر الأسود.

قالت "أخبرتني أمي أن الكثير من الشركس حتى اليوم لا يتناولون طعام البحر.. يشعرون أنهم يأكلون لحم أجدادهم".