سوريا في عهد الجولاني.. ماذا ينتظرها؟
سوريا في عهد الجولاني.. ماذا ينتظرها؟

مع دخول سوريا مرحلة ما بعد بشار الأسد، باتت النقاشات حول مستقبل المصالحة الوطنية ومستقبل سوريا محور حديث الشارع السوري، الذي انقسمت آراؤه بين ضرورة محاسبة المسؤولين عن الجرائم وتطبيق العدالة الانتقالية، وبين دعوات المسامحة وطي الماضي وبدء صفحة جديدة، وهي دعوة يخشى الكثير من الضحايا أن تكون خطوة لطمس آلامهم وتضحياتهم.

وبينما بدأت الإدارة الجديدة في سوريا تحضيرات العمل على عقد اجتماع موسع لإطلاق حوار وطني شامل بشأن المرحلة الانتقالية وآلية إدارة شؤون الدولة في الفترة المقبلة، بمشاركة هيئات وممثلين عن الشعب السوري ومكوناته، تبقى المصالحة قضية شائكة تعكس عمق الانقسام، إذ اعتبر العديد من السوريين الذين التقتهم الحرة، ورصدت موافقهم على وسائل التواصل، أن الحوار والمصالحة الوطنية بداية جديدة وفرصة لرأب الصدع، بينما أكد آخرون أن أي تسامح دون محاسبة سيفتح الباب أمام تكرار المآسي، ويصرون على محاسبة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة.

تجاوز الماضي

يرى المؤيدون للمصالحة الوطنية دون شروط، أن سوريا بحاجة إلى تجاوز جراح الماضي، وأن التسامح هو السبيل الوحيد لإنقاذ البلاد من دوامة الانتقام والانقسامات المتجددة، تماشيا مع تصريح أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) القائد العام لهيئة تحرير الشام، الذي أكد أن "سوريا الجديدة لا مكان فيها للانتقام"، وأن المصالحة الوطنية هي السبيل الوحيد لبناء مستقبل مستقر.

ويقول مروان العلي من مدينة جبلة في حديثه لموقع الحرة، "يكفي ما عشناه من دماء ودمار، يجب أن نضع الماضي خلفنا إذا أردنا مستقبلًا أفضل لأولادنا، فمن يؤمن بأهمية استقرار سوريا يتطلب عليه تجاوز الجراح مهما كانت".

بدورها، تؤكد سمر الشامي من مدينة حلب، أن التذكير بالماضي والجرائم المرتكبة تزيد حقد الناس على بعضهم البعض، ولن يدفع الثمن إلا الناس البسطاء اللذين ظُلموا مثلهم مثل غيرهم في هذه الحرب، "الضباط الذين ارتكبوا الجرائم أصبحوا جميعا خارج البلاد، لهذا على الجميع التسامح والبدء من جديد".

وفي السياق ذاته تقول جلنار جرجس في منشور لها على فيسبوك، "انتبهوا إلى كلماتكم وعباراتكم، من أراد أن يكون وطنياً، فليتحدث من منطلَقٍ وطني"، معتبرة أن الغفران والمحبة، ليسا انتقائيين.

مسامحة مشروطة

"التسوية لا تعني العفو، إنها خطوة أولى لدراسة أوضاع الجميع، لكن من شارك في الجرائم، عليه أن يواجه العدالة." يؤكد سعد رماح من مدينة دوما في حديثه لموقع الحرة.

بدورها تؤكد ريما عطايا من مدينة عربين في ريف دمشق رفضها لفكرة المصالحة غير المشروطة واعتبرت أن العدالة الانتقالية حجر الأساس لأي مصالحة حقيقية، وتضيف، 'لا يمكننا بناء وطن على جثث الضحايا ودموع عائلاتهم دون محاسبة المجرمين، فالعدالة ليست رفاهية، بل ضرورة لمنع إعادة إنتاج الظلم".

ويؤكد وائل الآغا من ريف دمشق أن من كان له دور في الجرائم يجب أن يُحاسب وفق القانون، فالمصالحة الحقيقية هي التي تعيد الحقوق لأصحابها ولا تهمل الجرائم، بحسب تعبيره.

وعلى وسائل التواصل الاجتماعي يدعو الناشط السياسي السوري ماهر شرف الدين في منشور له على فيسبوك إلى المسامحة وفتح صفحة جديدة ومحاكمة المجرمين فقط، "النصر يجب أن يكون متعاليا على الزمن الذي سبقه، الناس ممن كانوا على الضفة المقابلة، هم على الرغم من خطئهم، جزء من شعبنا، وسوريا الجديدة ستتسع لكل أبنائها، والجسور المهدّمة سيُعاد تشييدها".

خالد الخاني
ناج من مذبحة حماة.. واجه المأساة طفلا فطارد رفعت الأسد عبر أوروبا وسوريا
نجا طفل في السابعة من عمره من مجزرة حماة غربي سوريا عام 1982، لكن قائد جيش النظام السوري آنذاك الذي قتلت قواته عشرات الآلاف، لم يدرك أن هذا الطفل سوف يطارده ويجعله يهرب من أوروبا لسنوات، قبل أن الهروب مجددا مع سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر.

المعارضون للمصالحة: العدالة أولاً

على جانب آخر، يرى كثيرون أن التسامح دون محاسبة يعتبر خيانة لدماء الضحايا، ويدعون لتحقيق العدالة الانتقالية ومحاسبة النظام على جرائمه.

"لا مصالحة على الدماء"، يقول أسامة عثمان شريك "قيصر"، الذي وثق آلاف الصور لضحايا التعذيب في معتقلات الأسد، والذي يؤكد أن النظام لم يسقط بهروب بشار فقط، مشددًا على ضرورة محاكمة كل المتورطين.

ويقول أيهم عودة، من مدينة حمص، في حديثه لموقع الحرة، مكررا حديث عثمان، "لا مصالحة مع الذين سفكوا دماءنا، يظنون أننا سننسى بهذه البساطة، خلعوا العلم الأحمر ورفعوا العلم الأخضر، ولكن هذا العلم لن يمسح الدماء عن أيديهم".

بدوره يؤكد عماد غريبة أن المسامحة ليست عدلا، "العدل يقتضي أن يذوق الظالم نفس الألم الذي أذاقه المظلوم، والصفح لا يكون في مثل هذا، وأي عقاب لا يصل إلى مستوى فظاعة الألم، هو عقاب ثان للمظلوم نفسه وانتصار للظالم، لهذا لا يمكننا أن ننسى ولا أن نصالح قبل تحقيق العدالة ومحاكمة جميع المجرمين"، بحسب تعبيره.

وتحت عنوان لن ننسى لن نسامح ولن نستكين يتداول العديد من المواقع والناشطين على فيسبوك منشورا للمحامي وائل الزهراوي بعنوان التعذيب بالشمعة، يتناول قصته خلال الاعتقال وقصص التعذيب المروعة في معتقلات النظام ، مؤكدين أن العدالة يجب أن تتحقق، وإلا سنظل ندور في حلقة مفرغة من الظلم.

أما الإعلامي السوري، فيصل القاسم، فيقول في منشوره على منصة إكس، "لا تذهبوا فأنتم لستم طلقاء، يجب التعامل مع كل الشبيحة الذين كانوا يشبحون على السوريين في الإعلام والفن والجيش والأمن وأي مجال آخر لصالح النظام الساقط، يجب التعامل معهم كما تعاملت المانيا مع أنصار هتلر والنازية، محاكمات نورمبيرغ، لا أكثر ولا أقل".

الأسد وجنود بجيشه.. لقطة أرشيفية
قبل السقوط بيومين.. رواية جديدة عن أسد "التهمه عِنادُه"
في 11 نوفمبر، انطلقت في العاصمة الكازاخستانية "اجتماعات أستانة 22" حول سوريا بمشاركة الدول الضامنة تركيا، وروسيا، وإيران، ووفدين سوريين أحدهما يمثل الأسد والآخر معارضيه، بوجود الصليب الأحمر الدولي، ومفوضية اللاجئين الأممية، ومراقبين من ومراقبون من الأردن ولبنان والعراق.

انتقاد بيانات العفو العام غير المشروط

وبين دعوات التصالح والمسامحة والعدالة الانتقالية، برزت أصوات تدعو للعفو العام غير المشروط، كان أبرزها الدعوات التي أطلقها ممثلو ورجال دين من الطائفة العلوية، التي لاقت استهجانا كبيرا من الأطراف الأخرى.

يقول سالم حمادة من مدينة دمشق في حديثه لموقع الحرة، "في عائلتي الكثير من المختفين والشهداء تحت التعذيب والتنكيل الذي تسبب به أبناء الطائفة العلوية الذين كانوا يشغلون أعلى الرتب بين الضباط، وكانوا من أبرز المسؤولين عن جرائم القتل والتعذيب وإهانة السوريين، إضافة إلى أن جزءا كبيرا منهم كان من الشبيحة التي امتهنت القتل والسرقة والترويع".

ويتابع: "الآن يطالب مشايخهم بدل الاعتذار للشعب السوري والاعتراف بالخطأ، بعفو عام غير مشروط عن أبنائهم، وهذا الأمر يزيد الألم والشرخ لدى فئة كبيرة ظُلمت وعانت على يد أبناء هذه الطائفة، ولا زالت تبحث عن عظام أحبائها في المقابر الجماعية التي دفنوا فيها".

وأصدر مشايخ الطائفة العلوية عدة بيانات يدعون فيها إلى عفو عام يشمل الجميع دون استثناء، وتقديم الضمانات الكافية لعودة من غادر من أبناء طائفتهم إلى منزله، معتبرين أن المصالحة الوطنية هي الطريق الوحيد لطي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة.

سوريات في القاهرة - أرشيفية (رويترز)
"في مواجهة المجهول".. السوريون في مصر بعد سقوط الأسد
تشعر سلام بأنها حبيسة داخل العاصمة المصرية القاهرة، إذ تخشى طوال الوقت المرور على أي من الأكمنة الأمنية على الطرق منذ إتمام دراستها في مصر التي كانت قد حصلت بموجبها على الإقامة في البلاد منذ قدومها من سوريا، لكنها يحدوها الأمل من تبني مصر قانونا جديدا بشأن اللجوء.

حق للضحايا 

بين الدعوات للتسامح والمطالبة بالقصاص، تبقى سوريا أمام تحدٍ كبير لبناء مستقبل يجمع بين العدالة والسلام.

وفي ظل الآراء المتباينة، كيف يمكن تحقيق مصالحة شاملة تضمن حقوق الضحايا وتعيد اللحمة الوطنية؟ وهل العدالة الانتقالية هي السبيل الوحيد لمنع تكرار المآسي؟

يقول مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، في حديثه لموقع الحرة أن المحاسبة تنقسم إلى قسمين رئيسيين، محاسبة جنائية وأخرى غير جنائية.

ويشير عبد الغني إلى أن القسم الجنائي يركز على محاكمة المتورطين في الجرائم الإنسانية وجرائم الحرب، خصوصًا من الصفوف الأولى في النظام، باعتبارهم صناع القرار والمسؤولين المباشرين عن ارتكاب هذه الجرائم.

ويلفت إلى أن المحاسبة قد تشمل أيضًا شخصيات من الصفوف الثانية، لكنها تستهدف بالدرجة الأولى القيادات العليا.

أما بالنسبة للقسم الآخر غير الجنائي، يوضح عبد الغني أنه يحظى بنقاش واسع مؤخرًا، ويشمل آليات تتعلق بمساءلة من لم يتورطوا بشكل مباشر في الجرائم، ولكنهم دعموا النظام وساهموا في تغطية جرائمه، وأكد أن المطالبات بالعفو العام لهذه الفئة، دون قيامها بتقديم أي اعتذار خطي وعلني، هي إهانة لملايين الضحايا وعائلاتهم.

ويضيف عبد الغني في حديثه مع الحرة، "طلب العفو العام بهذا الشكل هو إهانة للأمهات اللواتي فقدن أبناءهن تحت القصف والبراميل المتفجرة، هذه الجرأة بطلب العفو العام، دون أي خطوات تمهيدية مثل الاعتراف والاعتذار، أمر غير مقبول".

ويبين عبد الغني أن الخطوة الأولى لأي محاسبة غير جنائية يجب أن تبدأ باعتذار علني ومكتوب، يتسم بالتواضع والاحترام، ويشمل اعترافًا صريحًا بالجرائم المرتكبة ودون أي إنكار.

وأكد أنه على من يطالبون بالعفو أن يتحملوا مسؤولياتهم، من خلال تقديم تعويضات مالية مناسبة للضحايا من ثرواتهم الخاصة، والانخراط في أعمال مجتمعية لخدمة الضحايا.

كما دعاهم للمساهمة في كشف الحقيقة، خاصة إذا كانت لديهم معلومات عن المجرمين، مع التعهد بعدم تولي مناصب عليا مستقبلًا.

وشدد عبد الغني على أن ما ارتكبه هؤلاء الأشخاص كان فظيعًا، معتبرًا أن دعمهم للنظام وتوفيرهم غطاءً سياسيًا أو فنيًا أو إعلاميًا للإجرام، يستوجب تحملهم تبعات أفعالهم، مضيفا، "المحاسبة غير الجنائية بهذا الشكل هي أبسط حق ممكن أن يقدموه للضحايا، فما فعلوه كان فظيعًا، ويجب أن يدفعوا ثمنه".

واختتم عبد الغني بالإشارة إلى أن الشبكة السورية لحقوق الإنسان تحتفظ بأسماء المجرمين، وتعهدت بملاحقتهم قضائيًا، وأكد أن المحاسبة لن تسقط، وستظل مستمرة حتى ينال أهالي الضحايا حقهم الكامل.

وأصدرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، الثلاثاء، بيانا بعنوان "لا بديل عن محاسبة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب"، أكدت فيه على الانتهاكات الجسيمة التي طالت ملايين السوريين، والتي شارك في تنفيذها عشرات الآلاف من العاملين ضمن منظومته.

ووثَّقت الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان هذه الانتهاكات بشكل يومي، وأرست قاعدة بيانات شاملة تضم ملايين الحوادث الموثَّقة على مدار 14 عام.

وأضاف البيان أنَّ الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان تمكنت من تحديد قائمة تضم أسماء نحو 16,200 شخص متورط في تلك الجرائم، بينهم أفراد من الجيش وأجهزة الأمن ومن القوات الرديفة التي تضم ميليشيات ومجموعات مساندة قاتلت إلى جانب القوات الرسمية.

شاحنات الطعام في واشنطن تحمل أحلاما عربية على عجلات

كانت الريح تخترق معطفي الأسود الثقيل، وبرد يناير يلسع جيوبي الأنفية، حين شدتني رائحة شواء تفوح من بعيد.

الساعة تشير إلى العاشرة صباحا.

يكسو الجليد شوارع العاصمة واشنطن وأزقتها.

الأبيض يغطي كل شيء، عدا شاحنة على جانب الطريق نحو الكابيتول توشحت بصورة شطيرة لحم مع جبن ذائب.

وسط يافطة كبيرة كُتبت بالإنجليزية على الشاحنة، لمحتُ كلمة واحدة بالعربية: “حلال".

"صباح الخير”، نطقتُها بلهجتي المصرية.

أطل برأسه من نافذة جانبية، ووجه أذنه نحوي، وقال متسائلا: ها؟

أعدت التحية نفسها، فانشرحت أسارير وجهه.

هلّل: "مصرية؟ أنا من الإسكندرية”.

إسكندرية - واشنطن درجة سياحية

قبل عامين ونيف، هبط أحمد محمد في مطار واشنطن دالاس الدولي.

الاسكندراني ذو الواحدة والأربعين سنة يحمل ليسانس في السياحة والفندقة من مصر.

عمل سنوات في بلده الأم، ثم في السعودية، ليقرر لاحقا متابعة دراسته للحصول على ماجستير في إدارة الأعمال من جامعة "بوتوماك" بالعاصمة الأميركية.

وضعت الصدفة أحمد في طريق رجل مصري آخر من أبناء القاهرة، اسمه وليد وكنيته "بيلي"، يعيش هنا منذ سنوات طويلة.

تحول اللقاء العابر إلى صداقة استمرت إلى اليوم.

"بيلي" يمتلك عددا من شاحنات الطعام، المعروفة بالإنجليزية بـ”فود تراك”، وهي واحدة من أشهر معالم الحياة في المدن الأميركية.

حصل أحمد سريعا على فرصة للعمل على متن إحدى شاحنات “بيلي".

شباك الشاحنة صغير الحجم كان نافذة كبيرة أطل منها أحمد على عوالم جديدة: فسيفساء من الأعراق واللغات والأديان والأجناس.

العمل الجديد لم يكن مجرد مصدر دخل مادي.

حسّن أحمد مستواه في اللغة الإنجليزية؛ يقول حتى "لهجة الرابرز صارت يسيرة الفهم علي".

بالنسبة لأحمد، عمله على شاحنة طعام هو خطوة أولى على طريق تحقيق حلم يراوده منذ دهر من الزمن.

"أنا عاوز يبقى عندي مطعم مش فود تراك. بس واحدة واحدة"، هكذا لخص ابن الإسكندرية حلمه الكبير في كلمات بسيطة.

إسكندرية الأميركية!

في إسكندرية أخرى، تبعد نحو 7 أميال فقط عن وسط العاصمة واشنطن، دقت الساعة الرابعة، بعد ظهر يوم عمل طويل.

بدأ مصنع صغير للجعة يستقبل زبائنه.

على مقربة، صُفت شاحنة طعام تأخذ اسم حضارة أفريقية قديمة عُرفت باسم “كوش".

رائحة فلافل تعدك بدفئ تتوق له في بردي الشتاء والغربة.

خرج من الشاحنة في زي طاهٍ باللون الأسود، على كتفه اليمنى خيط علم السودان، وعلى وجهه ابتسامة ترحاب عريضة.

علي عثمان ابن مدينة ود مدني السودانية.

ترك وطنه في ظروف لا تختلف كثيرا عن تلك التي يعيشها البلد الآن.

كان في 18 من عمره عندما كانت حرب أهلية تدور رحاها بين الشمال والجنوب.

عَلِمَ أن التجنيد الإجباري ينتظره. وكانت مشاركته في الحرب ضد الجنوب لا مفر منها، فقرر الرحيل.

إلى سوريا شد الرحال، وتبددت آماله بدراسة القانون.

اشتغل بأحد المطاعم هناك.

في أروقة المطبخ، عثر على كسرة من بيت تركه مكروها.

استرجع بين الأطباق والحلل ذكريات بسيطة سعيدة، كان فيها رفقة أمه بالمطبخ يحضّّران معا الطعام في رمضان.

ومضات أبقته قريبا وإن كان بعيدا.

التحق بمعهد لدراسة الطبخ، بنصيحة من رئيسه الشيف أبو جورج.

راوده حُلم جديد: مطعم خاص به!

حُلم لم ير علي أن سوريا الأرض الملائمة لتحقيقه، فآن وقت رحيل ثان!

مشوار مع الصدف

في إحدى الليالي، ذهب علي إلى مقهى للسودانيين في العاصمة السورية.

تعرف هناك على رجل سوداني آخر كان قادما من تايلاند.

لم يكن علي يعرف الكثير عن هذا البلد، وهو في بحث عن أرض جديدة، فطرح بشغف العديد من الأسئلة.

مر أسبوع.

وجد السوداني نفسه أمام السفارة التايلاندية في دمشق يطلب تأشيرة دخول. حصل عليها.

"عندي في جيبي 95 دولار وتذكرة ذهاب، ومابعرفش حاجة في تايلاند"، يتذكر.

على متن طائرة الخطوط الأردنية المتجهة إلى بانكوك تعرف علي على مجموعة من الشباب الليبيين.

لا يعرف علي في تايلاند أحدا، ولا أين ينزل، ولا ماذا ينتظره.

دلّه الليبيون على فندق اعتادوا الإقامة به، دعوه أن ينزل معهم، فقبل.

"رحت على الفندق، حطيت الشنط، نزلت تحت، ولعتلي سيكارة، بتفرج في الجماعة الأسيويين.. اشوف أتنين سُمر زيي شايلين أنبوبة غاز".

- سلام عليكم.

- عليكم السلام.

- سوداني؟

- نعم، سوداني.

- من وين أنت؟

- يا أخي أنا جاي من سوريا.

- جاي تعمل شنو؟

- جاي أدور على شغل.

- تعال، تعال، روح معانا نعبي أنبوب الغاز ده.

دل السودانيون علي على المنطقة العربية في بانكوك، سوكومفيت.

هناك، تحصل على وظيفة طاه رئيس في مطعم يملكه مواطن كويتي.

14 عاما قضاها ابن ود مدني في تايلاند.

ذاع صيته كطاهٍ يقدم أكلات تقليدية بلمسة غير معهودة.

ليلة ليست كغيرها

كان طقس بانكوك رطبا كعادته، لكن تلك الليلة كانت غير عادية.

كان علي يسير رفقة صديق له في أحد شوارع المدينة المكتظة، عندما لمح وجها مألوفا: امرأة جنوب أفريقية يعرفها وزوجها التايلاندي.

اقترب ليلقي التحية، فعَرَّفَته على منْ معها، و"جيني".

جيني أميركية تعيش وتعمل في تايلاند، ويبدو أن الحب من النظرة الأولى ليس دائما من نسج خيال الكُتاب.

"طبخت لها بامية عشان كده حبتني"، يقول علي ضاحكا.

رحيل ثالث

بلغت ليلى الرابعة من عمرها.

بدأت جيني وعلي يفكران في مستقبل ابنتهما.

اقترحت الأم الانتقال إلى موطنها الأصلي: الولايات المتحدة، حتى تتلقى ليلى تعليما جيدا.

علي في حيرة من أمره.

فهو، يملك الآن شركة للضيافة، وعمله على ما يرام. فكيف يتصرف؟

صفى علي كل شيء، وانتقل رفقة عائلته الصغيرة إلى أميركا.

هناك، تحصلت جيني على عمل في إحدى المنظمات في العاصمة واشنطن.

وتمكن علي بعد بحث طويل من العمل طباخا مساعدا بمطعم فرنسي في المدينة.

لكن: "انا عارف نفسي اني موهوب وعاوز اوصل الأكلات بتاعتي للناس".

أنشأ علي شركته للضيافة التي حملت اسم ابنته ليلى.

وزع بطاقات للتعريف بالشركة في كل مكان. لم يتصل أحد.

قدم للمشاركة بخيم تقديم وبيع الطعام في أسواق المزارعين، التي تقام كل نهاية أسبوع.

قُوبل طلبه بالرفض أكثر من مرة.

تحدث إلى جيني: ما رأيك في أن أفتح مطعما؟!

كورونا

ضربت الجائحة العالم. أغلقت واشنطن كغيرها من المدن. تبددت آمال علي.

اضطر للعمل سائقا بإحدى شركات تشغيل سيارات الأجرة.

وبات اليأس عنوان تلك الأيام.

في يوم عادي، كان علي في طريقه لشراء مستلزمات المنزل، حين شدت انتباهه شاحنة للطعام مصفوفة في الجوار. لا أحد فيها.

كتب اسمه ورقم هاتفه على ورقة، وعلقها بماسحة الزجاج الأمامي، طالبا من صاحب الشاحنة الاتصال به.

صاحب الفوود تراك عراقي كان ينوي تشغيلها لكن عقبات أوقفته.

اقنعت جيني زوجها بشراء الحافلة، خاصة وأن الحياة بدأت تعود إلى طبيعتها في المدينة بنهاية 2022.

نَفَس طويل

سلسلة من الإجراءات القانونية واللوجستية وقائمة طويلة من التراخيص كانت في انتظار علي.

رخصة الأعمال التجارية، رخصة الطعام من إدارة الصحة العامة، رخصة بيع الطعام.

فحص الصحة والسلامة، شهادة الفحص الدوري.

تأمين على الشاحنة وتأمين على الطعام وتأمين للمسؤولية العامة لتغطية الأضرار والحوادث المحتملة.

تصريح موقف الشاحنة.

التسجيل للحصول على رقم تعريف دافع الضرائب الفيدرالي والمحلي.

تقديم الضرائب المناسبة التي تشمل ضريبة المبيعات والضرائب الأخرى المتعلقة بالأعمال التجارية.

حجز مطبخ تجاري لحفظ المكونات وتجهيز الأكلات.

"لو زول غيري ما لحوح وعنده طموح، كان استسلم."، يقول الشيف علي.

حسب ما كشفه لي علي، تكلفة شراء الشاحنة وتجهيزها بالمعدات والأجهزة اللازمة تتراوح بين 50 إلى 70 ألف دولار.

أما التراخيص نفسها فلا تقل رسومها عن ألف دولار.

كوش فرايد تشيكن ساندويتش

بإمكان علي العمل أخيرا.

أمام مبنى تجاري، في منطقة تايسون كورنر، التي تبعد بحوالي 20 ميلا عن العاصمة واشنطن، صف علي شاحنته للطعام: “كوش”.

كان أول طلب يبيعه شطيرة الدجاج المقلي، التي منحها نكهة جديدة بإضافة مزيج محسوب بدقة من البهارات السودانية: كزبرة، كمون، ثوم، بابريكا…

"الاكل عجبهم، كنت فرحان شديد، إحساس لا يقاوم."

على مدار ثلاث سنوات، تمكن علي من امتلاك وتشغيل شاحنتين الطعام: كوش 1، كوش 2.

بنى سمعة ممتازة، تعكسها تقييمات زبائنه على غوغل.

يقول إن وصفته للنجاح، هي جودة الأكل والنظافة والمثابرة، "باشتغل يوميا 13 او 14 ساعة، ما حقي لازم اتعب فيه."

تذوقت فلافل أو طعمية "كوش".

تختلف عن الطعمية المصرية. عجينتها من الحمص. لكن فيها لمسة خاصة.

"هذه لمسة أمي! فالطعمية أعملها بالطريقة التي تعلمتها من أمي الله يرحمها"، يقول علي.

الصيف الماضي، أطلق الشيف علي، بشراكة مع طاه مصري، شاحنة طعام ثالثة: بلو نايل أو النيل الأزرق.

تقدم بلو نايل للزبائن، شطائر "برجر" من لحم ضأن يعكف علي على فرمها وتشكيلها بنفسه.

أما حلمه الذي ظل يطارده لسنوات، فيبدو أنه سيرى النور أخيرا.

قبل أيام، وقع علي عقد إيجار محالّ داخل ساحة لبيع الأطعمة في قلب واشنطن.