يطرح الجزائريون تساؤلات عدة بشأن التغيير الديموقراطي في بلدهم الذي ضحى فيه الملايين من أجل نيل الحرية وطرد الاستعمار الفرنسي طيلة الفترة ما بين 1830 و1962، وذلك منذ أن خرج آلاف الشباب للشارع في انتفاضة الخامس أكتوبر 1988 تعبيرا عن احتجاجاهم على الوضع السياسي والاقتصادي، مطالبين بإنهاء عهد الحزب الواحد الذي قاد البلاد لعقود طويلة.
الفترة الذهبية
استقال جمال (57 سنة) الذي كان متحمسا للعمل السياسي في التسعينيات من كافة النشاطات الجمعوية، كما نأى بنفسه عن أي مشاركة في الأعمال الحزبية منذ سنوات.
هو الآن منشغل أكثر بأسرته المتكونة من الزوجة والابن والابنة بعد أن استفاد من تقاعد متواضع، وقد قضى عقودا من العمل بائعا في صيدليات مختلفة.
في أعالي هضبة سياحية يجلس جمال قرب سور، يطل جمال على مدينة تلمسان غرب الجزائر، متذكرا سنوات الانفتاح السياسي التي أعقبت انتفاضة 5 أكتوبر 1988، مشيرا إلى أن تلك المرحلة تميزت بتعددية سياسية وإعلامية "غير مسبوقة" بداية من 1989، عاشها بكل جوارحه وهو في ريعان شبابه.
وفي تلك السنوات كانت الجزائر تمر بـ"فترة ذهبية" تجاوزت من خلالها الواقع العربي ومحيطها الإقليمي الذي اتسم بكثير من الانغلاق.
ومع انهيار الاتحاد السوفياتي وجدار برلين، كانت البلاد تشهد انهيار آخر قلاع الحزب الواحد، وقد اضطرت السلطة إلى فتح المجال للأحزاب السياسية والجمعيات من كافة الأيديولوجيات، كما شهدت تخلي الدولة عن وصايتها على الإعلام والاقتصاد، وسمحت بالتعددية النقابية.
كانت الانتفاضة قد فتحت أبواب التعددية السياسية والإعلامية التي أقرها دستور فبراير 1988، واعتبرها كثيرون بداية تحولات سياسية محورية أدت إلى إصلاحات سياسية كبيرة تضمنت الانتقال من نظام الحزب الواحد إلى التعددية الحزبية.
صراعات أجهضت التعددية
وبرأي جمال فإن "الصراعات المتعددة بين أجنحة الحكم غذتها عوامل وأطراف داخلية وخارجية ساهمت في إجهاض التجربة الديموقراطية في الجزائر، وأدت بالبلاد إلى العودة لنقطة الصفر".
يستحضر المتحدث في تصريحه لـ "الحرة" ما توصف بـ"سنوات الجمر" التي نسى فيها الناس التعددية، بل و"اعتبروها سببا في الجحيم الذي عاشوه، وفقدوا خلاله أحبتهم وأقاربهم وممتلكاتهم"، مشيرا إلى أنها كانت ذكريات سيئة للغاية أعقبت فترة قصيرة جدا من عصر الحرية والتعددية التي طالما حلم بها غالبية الجزائريين".
لم تدم مرحلة الانفتاح كثيرا، فقد شهدت البلاد تحديات كبيرة، أهمها العشرية السوداء في التسعينيات التي نشبت نتيجة للصراع بين الحكومة والجماعات الإسلامية المسلحة، مما أثر بشكل كبير على التحول السياسي، وأعاد المشهد إلى نقطة البداية.
انتهت تجربة التسعينيات بمأساة دموية خلفت عشرات الآلاف من القتلى واليتامى والنساء المغتصبات، وتدمير ممنهج للبنية التحتية في البلاد، جراء المواجهة المسلحة خلال عشر سنوات، بعد أن ألغت السلطة الانتخابات التشريعية (فازت بغالبية مقاعدها الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي حلت لاحقا) في يناير 1992 تاريخ استقالة الرئيس الشاذلي بن جديد.
علق الجزائريون أحلامهم على مرحلة ما بعد تسعينيات القرن الماضي، حيث خرجت البلاد من نفق المواجهة المسلحة. وجاء عبد العزيز بوتفليقة رئيسا للبلاد بمشروع للمصالحة بعد أن تولى السلطة في أبريل 1999، ومع حلول 2002 كان آلاف المسلحين قد سلموا أنفسهم للحكومة وألقوا بالسلاح ضمن خطة مصالحة وطنية.
ويعتقد الإعلامي الجزائري، محمد إيوانوغان، في حديثه لـ"الحرة"، أنه على الرغم من كون النظام السياسي للحزب الواحد في الجزائر ليس نفسه اليوم، إلا أن التغيير الذي أراده الشعب الجزائري "لم يحدث".
آمال تحققت وأخرى تنتظر
في 22 فبراير 2019، أطلق الجزائريون حراكًا شعبيًا واسع النطاق، طالبوا فيه بتغيير جذري للنظام السياسي. وتميز بسلمية أدهشت الجميع.
في صباح ذلك اليوم حمل حسين (29 سنة)، وهو خريج معهد العلوم السياسية، علم الجزائر ومكبر صوت متجها إلى ساحة مدينة تلمسان.
كانت منصات التواصل الاجتماعي تموج بدعوات الاحتجاج ضد ترشح عبد العزيز بوتفليقة لعهدة رئاسية خامسة، ولم يشفع انتساب الرئيس السابق للمدينة من خروج آلاف من سكانها للشارع مطالبين برحيله.
وبينما كان حسين يردد شعارات الحراك بمكبر للصوت، غصت الساحة الكائنة وسط مدينة تلمسان بالغاضبين، كان الوضع في الجزائر العاصمة أضعافا مضاعفة، حيث أصوات الملايين تملأ أرجاء الجزائر، مما عزز زخم الحراك الشعبي الذي انتشرت مسيراته في كل الولايات.
دعا المتظاهرون إلى إنهاء الفساد والمحسوبية وإجراء إصلاحات سياسية حقيقية، واستجابة لذلك، شهدت الجزائر بعض التغييرات، بما في ذلك استقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، بعد تراجعه عن الترشح لولاية خامسة تحت ضغط الشارع، وإجراء انتخابات رئاسية جديدة.
ويروى حسين لـ"الحرة" الآمال التي علقها على مشاركته في الحراك الشعبي، مشيرا إلى أن بعضها "تحقق" والبعض الآخر "يتطلب وقتا" بسبب "الخوف من تكرار التجارب المريرة التي عاشتها البلاد في وقت سابق"، في إشارة إلى مرحلة التسعينيات.
ويأمل حسين أن تفرز المرحلة الجديدة "ثقافة سياسية ونخبا وأحزابا سياسية جديدة تمنح ديناميكية لحراك سياسي في البلاد"، مضيفا أن الرهان اليوم قائم على "حوار ونقاش سياسي يساهم في لم الشمل وعدم إقصاء أي طرف أو جهة".
بينما تؤكد الحكومة أن المرحلة الحالية التي يقودها الرئيس عبد المجيد تبون المنتخب لعهدة ثانية في السابع سبتمبر 2024 تتميز بتحولات اقتصادية هامة تفتح المجال للاستثمار وتنويع الاقتصاد والرفع من الصادرات خارج المحروقات، ومحاربة الفساد والبيروقراطية وتحقيق العدالة والحفاظ على "المكاسب الاجتماعية" عبر سياسة الدعم.
وكان عبد المجيد تبون انتخب في أول رئاسيات نظمتها السلطة في 12 ديسمبر 2019، عقب الإطاحة بنظام الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وحصد خلالها غالبية الأصوات المعبر عنها.
لكن الإعلامي الجزائري محمد إيوانوغان يشير إلى أن التغيير الذي يريده الشعب الجزائري "لا يتحقق بمرسوم، أو بتغيير نظام حكم بآخر"، مضيفا أن الجزائريين "يريدون تغييرا أكثر حرية وأكثر تقدم اقتصادي واجتماعي، وهذا الأمر يبني ولا يقرر".