ست قطرات من الدم على قصاصة ورقية وعلبة زجاجية تحوي عظاما مكسرة: هي العناصر الهزيلة التي يعتمد عليها الطب الشرعي العراقي لتسليط الضوء على الفظائع التي ارتكبها تنظيم داعش خصوصا ضد الأيزيديين.
ويشبه أخصائي الطب الشرعي محمد إحسان العملية بالأحجية، بينما يحاول مرتديا قناعا يغطي وجهه، إعادة جمع هيكل عظمي يميل لونه إلى الاصفرار داخل مختبر في بغداد.
وقد تم جمع رفات بشرية وأدلة وقرائن صغيرة في المقابر الجماعية لتنظيم داعش، فيما أخذت عينات من الحمض النووي للناجين، وتستخدم كلها للتعرف على الضحايا ومحاولة معرفة المزيد عن أولئك الذين قد لا يزالون على قيد الحياة.
بعد خمسة أعوام من اجتياح عناصر داعش للشمال العراقي، لا يزال نحو 3000 أيزيدي في عداد المفقودين.
والأيزيديون أقلية ليست مسلمة ولا عربية، تعد أكثر من نصف مليون شخص، ويتركز وجودها خصوصا قرب الحدود السورية في شمال العراق.
ويقول الأيزيديون إن ديانتهم تعود إلى آلاف السنين وأنها انبثقت من الديانة البابلية القديمة في بلاد ما بين النهرين، في حين يرى آخرون أن ديانتهم خليط من ديانات قديمة عدة مثل الزرادشتية والمانوية.
وناصب تنظيم داعش العداء لتلك الأقلية، فقتل الآلاف من رجالها، واتخذ من نسائها سبايا استعباد جنسي، فيما أرغم الأطفال على القتال في صفوفه، وتم تحرير الكثيرين بعد سقوط آخر معقل للتنظيم المتطرف في شرق سوريا في مارس.
بالنسبة إلى الأمم المتحدة، قد يكون ما تعرض له الأيزيديون إبادة جماعية محتملة، وهي أخطر جريمة في القانون الدولي.
ويعمل المحققون الأمميون، وكذلك السلطات العراقية على الوصول الى نهاية قانونية وعاطفية لتلك الأقلية الصغيرة التي أصيبت بصدمة كبيرة.
لكن التحديات هائلة، والأدلة في حالة سيئة وتحديد الحمض النووي أصبح صعبا بسبب زواج الأقارب، وهو قانون في الديانة الأيزيدية.
ومنذ مارس الماضي، تسلم الطب الشرعي في بغداد عظاما وخصلات شعر وأمتعة شخصية مستخرجة من 12 مقبرة جماعية من معقل الأيزيديين في سنجار.
ويعمل الخبراء المتخصصون على تحديد "جنس وطول وعمر الضحية ويمكن معرفة أسباب الوفاة أو الكسور أو الإصابات الناتجة أثناء الوفاة"، بحسب ما يوضح إحسان.
وبعد ذلك، يتم رفع الحمض النووي للضحايا، خصوصا من منطقة الفخذ أو الأسنان، إذا ما وجدت.
وبعد معالجة العينات ووضعها في أجهزة مختلفة، يقارن الحمض النووي بعينات دم لناجين مخزنة على بطاقات بحجم البطاقة المصرفية.
وتقول المتخصصة في علم الوراثة ميس نبيل لوكالة الصحافة الفرنسية إن وجود آثار حمض نووي على بقايا تعرضت للأمطار والنيران ولسنوات من المعارك يعد إنجازا رائعا.
وتضيف "أحيانا تكون العينة تالفة تقريبا، ونحاول مرات عدة استخراج الحمض النووي منها قبل أن تتلف تماما".
وعندما يتم عزل الحمض النووي، تبدأ عملية تحديد الهوية، وهو عمل يحتاج وقتا طويلا.
وفر نحو مئة ألف أيزيدي من أتباع الأقلية التي كانت تعد 500 ألف نسمة قبل العام 2014، الى خارج العراق أو إلى مخيمات النازحين، خصوصا في إقليم كردستان المجاور.
ويقول معاون المدير العام للطب العدلي عامر حمود، إنه بالنسبة إلى بعض الضحايا، لم يعد هناك من يطلب معرفة مصيرهم، لأن "هناك عائلات فنت بالكامل".
ويرى حمود، أنه حتى مع وجود 1280 اسما لمفقودين، و1050 بطاقة عينات دم، و2600 بطاقة أخرى ينتظرها من السلطات الكردية العراقية، فالحل هو في الخارج.
ويوضح أن هناك "2200 عائلة أيزيدية في ألمانيا، و800 في أستراليا و800 في كندا، و150 في فرنسا، أطمح أن أحصل منهم على عينات حمض نووي لغرض المطابقة، قاعدة البيانات هذه ستكون أكبر من تلك الموجودة داخل العراق".
بالنسبة إلى الطب العدلي في العراق الذي شهد حروبا متتالية منذ العام 1980، فإن قضية الأيزيديين ليست إلا حلقة إضافية، فالبطاقات الكرتونية مترامية في كل مكان في المركز.
قرب تلك المعنونة باسم "سنجار"، هناك "الأنفال" العائدة للمجزرة التي ارتكبتها قوات صدام حسين ضد الأكراد في العام 1988، و"البصرة" الحدودية مع إيران التي دمرتها حرب الثماني سنوات مع العراق، إضافة إلى "الكرادة" وهو حي شعبي في وسط بغداد شهد اعتداء داميا في العام 2016 أسفر عن مقتل أكثر من 300 شخص.
ويقول حمود "هناك خبرة اكتسبناها من مقابر سابقة لكننا نأخذ وقتنا أكثر كي تكون نسبة الخطأ لدينا صفر".
لكن الأيزيدي بشار حمد (51 عاما) لا يمكنه الانتظار أكثر، وهو يعيش في مخيم للنازحين في شمال العراق، منتظرا أخبار شقيقه وخمسة من أقاربه منذ صيف العام 2014، عندما فقد أثرهم لدى فرارهم مع تقدم تنظيم داعش في منطقة سنجار.
ويقول لوكالة الأنباء الفرنسية إن "معرفة أي شيء أفضل من لا شيء".
ويضيف "هناك دائما أمل داعش انتهى، وفي مخيم الهول بسوريا هناك نساء وأطفال، لكن لا رجال".
ويتابع "لن نرتاح تماما مع كل هذه الأحداث في رؤوسنا لكن الأفضل أن نعرف".
المصدر: وكالة الأنباء الفرنسية "أ ف ب"