510392 4

د. عماد بوظو/

في كل يوم تتكشّف أبعاد جديدة لحادثة انفجار صاروخ "بوريفيستنيك" الروسي في الثامن من شهر أغسطس الحالي، وتتوالى "بالقطّارة" الاعترافات الروسية، فبعد إنكار وجود تسريب إشعاعي اضطرت وكالة تاس الرسمية للاعتراف بأن مستويات الإشعاع ارتفعت في مدينة سفرودفينسك، التي يقطنها 190 ألف إنسان وتبعد 40 كيلومتر عن مكان الحادث، 16 ضعفا عن الحد الطبيعي، في حين قالت منظمة السلام الأخضر إنه ارتفع إلى عشرين ضعف. وتم الإعلان في البداية عن وفاة شخصين ليرتفع العدد إلى خمسة، وليصل بعد ذلك إلى سبعة، وصفهم فالنتين كوستيوكوف رئيس مركز نووي في شركة "روس أتوم" التابعة للحكومة الروسية بأنهم صفوة العلماء في المركز النووي التابع للاتحاد الروسي.

ربما اضطرت الحكومة الروسية للاعتراف بالحادث بعد انتشار صور عبر تطبيق تليغرام لأشخاص يرتدون ثيابا تقي من الإشعاعات وسيارات إسعاف وطائرات هليكوبتر تحوم في المواقع القريبة من الحادث. وفي اليوم التالي، اعترفت الإدارة المحلية في مدينة سفرودفينسك أن وميض إشعاع عمّ المدينة لأربعين دقيقة، فهرع سكانها لشراء مادة اليود من الصيدليات للوقاية من سرطان الغدة الدرقية الذي قد ينجم عن التعرض للأشعة.

كذلك، أخفيت المعلومات عن الطاقم الطبي الذي عالج المصابين بالانفجار، وقال أربعة من الأطباء والعاملين لصحيفة موسكو تايمز إنه تم إحضار ثلاث رجال عراة ملفوفين بأغطية بلاستيكية بعد ظهر يوم الحادث وقيل لهم إن انفجارا حدث دون أن يخبرهم أحد أن هؤلاء يعتبروا نشيطين إشعاعيا، وتم بعد ذلك رصد نظائر مشعة "سيزيوم 137" بعضلات أحد الأطباء. وقالت إحدى الممرضات لنيويورك تايمز "لم يخبرونا بشيء في البداية ثم قالوا سنغسل الجدران وسيكون كل شيء طبيعيا، وتم فيما بعد إخلاء الأطباء الذين تعاملوا مع الجرحى إلى موسكو بعد أن وقّع الجميع على تعهد بعدم الإفصاح عن أي معلومات تتعلق بالحادث".

اضطرت الحكومة الروسية للاعتراف بالحادث بعد انتشار صور عبر تطبيق تليغرام

​​أعادت طريقة التعامل الروسية إلى الأذهان كارثة تشيرنوبيل عام 1986، عندما لم تعترف الحكومة السوفياتية بالحادث مباشرة، وادّعت أن الغبار النووي هو بخار غير ضار، ولم يبدأ إخلاء المدينة إلا بعد 36 ساعة، كما قال البيان الرسمي إن عدد القتلى كان 31 شخصا، في حين تنبأت منظمة السلام الأخضر بوفاة عشرات آلاف الأشخاص بسبب الإشعاعات التي بلغت 20 ضعفا عن المعدل الطبيعي، وقالت وزارة الصحة الأوكرانية إن 2.3 مليون إنسان مازالوا يعانون بشكل ما من مضاعفات الكارثة، خصوصا بعد تلوث 1.4 مليون هيكتار من الأراضي الزراعية في أوكرانيا وروسيا البيضاء بالإشعاعات.

في كارثة تشيرنوبيل أتت الرياح من الجنوب والشرق فحملت الإشعاعات نحو الشمال الغربي إلى عدة دول أوروبية، بينما كان اتجاه الرياح في الحادثة الحالية من الشمال والشرق مما دفع الإشعاعات للجنوب والغرب أي نحو مناطق الكثافة السكانية في جمهورية روسيا الاتحادية، ولذلك قطعت قنوات التلفزيون الروسية برامجها لمدة 53 دقيقة بعد ساعات من الانفجار لتبث رسالة تحذيرية من وزارة الطوارئ مكتوبة على خلفية زرقاء ومسجلة بصوت نسائي، "يتوقع هبوب رياح عاتية احتموا في مبنى منيع"، ولم تأت هذه العاصفة أبدا، وبررت قناة حكومية فيما بعد ظهور هذه الرسالة بأنه نتيجة خطأ في نظام إنذار العواصف.

ومع أن حجم الانفجار الحالي غير كبير لكن القلق الدولي تضاعف عندما توقفت محطتان روسيتان لمراقبة المواد المشعة تابعتان لمعاهدة حظر التجارب النووية، هما دوبنا وكيروف عن إصدار بياناتها في غضون يومين من الانفجار، وفي يوم الثالث عشر من شهر أغسطس الحالي أبلغ مسؤول رئيسي بالمنظمة شبكة "سي أن أن" بأن مركزين جديدين يقعان في بيليبينو وزاليسوفو قد توقفا أيضا عن إرسال البيانات. وقالت صحيفة "بزنس إنسايدر" بأن الأدلة تتراكم بأن روسيا تحاول إخفاء شيء ما حول الحادث.

كانت تجربة هذا الصاروخ استمرارا لسياسة روسية تقوم على استعراض القوة، وقد عبّر عنها الرئيس فلاديمير بوتين في رسالته السنوية أمام الجمعية الفيدرالية في الأول من شهر مارس 2018 والتي أعلن فيها عن إنتاج أسلحة روسية خارقة تعجز منظومات الدفاع الجوي عن التصدي لها بعد تأزم علاقاته مع أوروبا نتيجة الأزمة الأوكرانية، في نفس الوقت الذي كان العملاء الروس في طريقهم لتسميم سيرغي سكريبال في لندن وما نتج عنها من تدهور العلاقات مع بريطانيا.

وربما لذلك وصفت صحيفة روسيسكايا غازيتا الروسية الرسمية صاروخ "بوريفيستنيك" بأنه سلاح انتقامي وهي نفس التسمية التي أطلقها النازيون على الصواريخ التي قصفوا فيها بريطانيا قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية. وفي بداية العام الحالي قال الأمين العام لحلف الأطلسي إن روسيا نشرت صواريخ جديدة موجهة إلى أوروبا. وقال وزير الخارجية البريطاني إن روسيا طورت ونشرت بشكل سري نظاما صاروخيا يمكنه استهداف العواصم الأوروبية، نتيجة هذه الممارسات الروسية أعلنت الولايات المتحدة في بداية شهر أغسطس الحالي انسحابها رسميا من معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى، وحمّل وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو روسيا المسؤولية عن هذا الانسحاب.

وبعد أسبوعين أجرت الولايات المتحدة تجربة ناجحة لصاروخ كروز متوسط المدى، بما يعاكس البداية الروسية المتعثّرة، التي عبّر عنها مارك غاليوتي، الباحث في معهد العلاقات الدولية في براغ: "ثمة شك كبير بأن يرى صاروخ "بوريفيستنيك" النور، كذلك صاروخ "بولافا" الذي فشلت تجاربه لعدة سنوات"، وقال تقرير للاستخبارات الأميركية أن التجارب الأربعة السابقة لصاروخ "بوريفيستنيك" في الفترة بين نهاية 2017 وبداية 2018 فشلت جميعها بعد أن قطع أفضلها مسافة 35 كيلومترا فقط، وقالت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية: "يبدو أن روسيا ليست جاهزة بعد لتطوير برامج عسكرية نووية بتكنولوجيا عالية، وصواريخها الجديدة بعيدة عن أن تتحول إلى تهديد للغرب فهي حتى الآن لم تشكل تهديدا سوى على شعبها".

روسيا الاتحادية في الطريق لتكرار أخطاء الاتحاد السوفياتي في الدخول في منافسة مكلفة

​​وقبل حادث الصاروخ بثلاثة أيام وقعت سلسلة تفجيرات استمرت خمس ساعات في مستودع أسلحة في سيبيريا شرق روسيا مما أدّى، بحسب البيانات الرسمية، إلى إصابة ثمانية أشخاص وإجلاء 11 ألف آخرين من المنطقة وإغلاق أكبر معمل ألمنيوم في البلاد. وقبل ذلك بشهر نشب حريق على متن الغواصة النووية "لوشاريك" أدى إلى مقتل أربعة عشر ضابطا من أعلى الرتب في البحرية الروسية.

ورغم كل هذه الخسائر البشرية والمادية تبدو روسيا مصرة على الاستمرار في سباق التسلح، ففي جنازة ضحايا التفجير قال الأمين العام لـ "روس أتوم" إن أفضل طريقة لتكريم الضحايا هي بمواصلة العمل الذي بدأوه، ومهّد الكرملين لتجاوز الحادثة والتقليل من شأنها بتعليق بارد وبعيد عن مراعاة مشاعر عائلات الضحايا "الحوادث تقع"، كما أمر بوتين وزارة الدفاع بإعداد رد متكافئ على تجربة الصاروخ الأميركي، أي أن روسيا الاتحادية في الطريق لتكرار أخطاء الاتحاد السوفياتي في الدخول في منافسة مكلفة وغير متكافئة ومن الصعب عليها الفوز فيها.

اقرأ للكاتب أيضا: أضلاع مثلث التطرّف والإرهاب في مصر

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

هل ستخسر روسيا سباق التسلح الذي بدأته 7651E4FE-21F2-4BEC-A451-68DA17EB23FC.jpg Reuters هل-ستخسر-روسيا-سباق-التسلح-الذي-بدأته يضيؤون الشموع تكريما لضحايا كارثة تشيرنوبيل 2019-08-30 11:48:17 1 2019-08-30 12:11:29 0

وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن يتحدث خلال مؤتمر صحفي مع نظيره البريطاني في وزارة الخارجية والكومنولث والتنمية (FCDO) في لندن في 10 سبتمبر 2024.
وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن يتحدث خلال مؤتمر صحفي مع نظيره البريطاني في وزارة الخارجية والكومنولث والتنمية (FCDO) في لندن في 10 سبتمبر 2024.

حمّل وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الثلاثاء إسرائيل مسؤولية مقتل ناشطة أميركية-تركية بالرصاص خلال احتجاج ضد الاستيطان في الضفة الغربية المحتلة الأسبوع الماضي، معتبرا أن على الجيش الإسرائيلي القيام بـ"تغيير أساسي" في كيفية تنفيذ عملياته.

من جهته، أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن أنّ مقتل الناشطة كان "حادثا عرضيا على ما يبدو".

وقال بايدن "على ما يبدو كان حادثا عرضيا، لقد ارتدّت (الرصاصة) عن الأرض وأصيبت (الناشطة) عرضا".

وأكد بلينكن أن بلاده ستثير قضية الناشطة على أعلى المستويات مع حليفتها التقليدية إسرائيل، بعدما اقتصر ردّ فعلها خلال الأيام الماضية على دعوة إسرائيل للتحقيق.

وأتت تصريحات الوزير الأميركي بعيد إعلان الجيش الإسرائيلي أنه من "المرجح جدا" أن تكون نيرانه هي التي قتلت الناشطة عائشة نور أزغي إيغي "بشكل غير مباشر وغير مقصود" خلال الاحتجاج.

وقال بلينكن في لندن إن التحقيق وروايات شهود العيان تؤشر بوضوح إلى أن "مقتل الناشطة كان غير مبرر".

وشدد على أن "أحدا لا يجب أن يتعرض لإطلاق النار ويُقتل لمشاركته في احتجاج. ما من أحد يجب أن تتعرض حياته للخطر لمجرد تعبيره عن رأيه بحرية".

وأضاف "في رأينا أن قوات الأمن الاسرائيلية تحتاج إلى القيام ببعض التغييرات الأساسية في كيفية تنفيذ عملياتها في الضفة الغربية، بما يشمل تغييرات لقواعد الاشتباك لديها".

وتابع "لدينا مواطنة أميركية ثانية قتلت بيد قوات الأمن الإسرائيلية. الأمر غير مقبول، ويجب أن يتغيّر".

وجدّد بلينكن مخاوف واشنطن من غياب العواقب للمستوطنين الإسرائيليين الذين يشنون هجمات تطال الفلسطينيين في الضفة الغربية تصاعدت وتيرتها منذ اندلاع الحرب بين إسرائيل وحماس في غزة قبل 11 شهرا.

أصيبت عائشة نور إزغي إيغي (26 عاما) "برصاصة في الرأس" خلال مشاركتها في تظاهرة في بيتا قرب نابلس بشمال الضفة الجمعة. 

واتهمت عائلتها الجيش الإسرائيلي بقتلها "بطريقة غير قانونية وعنيفة"، وطالبت بإجراء "تحقيق مستقل".

كانت إيغي منتسبة إلى حركة التضامن الدولية المؤيدة للفلسطينيين التي قالت إنها كانت في بيتا الجمعة في إطار تظاهرة أسبوعية ضد الاستيطان.

"غير مباشر وغير مقصود"

وقال الجيش الإسرائيلي الثلاثاء إنه "المرجح جدا" أن تكون نيرانه قتلتها "بشكل غير مباشر وغير مقصود".

وأكد أن التحقيق خلص الى أن نيرانه "لم تكن موجهة إليها بل كانت موجهة إلى المحرض الرئيسي للشغب" خلال تظاهرة قرب نابلس، بحسب بيان الجيش.

وقال إن إطلاق النار استهدف "أحد المحرضين الرئيسيين على أعمال العنف الذي رشق القوات بالحجارة وشكل تهديدا لها"، وإن الناشطة قتلت "خلال أعمال عنف قام خلالها عشرات الفلسطينيين المشتبه بهم بإحراق الإطارات ورشق قوات الأمن بالحجارة".

لكن عائلة الناشطة رفضت رواية الجيش للأحداث، ووصفت التحقيق الأولي بأنه "غير كاف على الإطلاق". 

وقالت في بيان "كانت إيغي تحتمي في بستان زيتون عندما أصيبت في رأسها برصاصة أطلقها جندي إسرائيلي، ولا يمكن تفسير هذا على أنه أي شيء آخر غير هجوم متعمد ومستهدف ودقيق من قبل الجيش ضد مدني أعزل".

وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قال الإثنين إن بلاده ستبذل كل ما في وسعها "لكي لا يمر مقتل عائشة نور إزغي من دون عقاب".

وقالت حركة التضامن الدولية التي كانت الناشطة تنتمي إليها السبت إن المزاعم بأن النشطاء رشقوا الجيش الإسرائيلي بالحجارة "كاذبة".

تحتل إسرائيل الضفة الغربية منذ العام 1967 وكثّفت قواتها العمليات في المنطقة منذ اندلاع الحرب في غزة بعد هجوم حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر.

وقتلت القوات الإسرائيلية ومستوطنون إسرائيليون  662 فلسطينيا على الأقل في الضفة الغربية منذ السابع من أكتوبر، بحسب وزارة الصحة الفلسطينية.

وقُتل 23 إسرائيليا على الأقل، بينهم عناصر أمن، في هجمات نفّذها فلسطينيون في المنطقة خلال الفترة ذاتها، بحسب مسؤولين إسرائيليين.

وأكد بلينكن الثلاثاء مواصلة الجهود للتوصل إلى وقف لإطلاق النار في قطاع غزة، مقرا بوجود تباينات "بالغة الصعوبة" بين طرفي الحرب.

ورأى أن من مصلحة الجميع إبرام اتفاق يتيح "تبريد الأجواء" في غزة، مضيفا "من الواضح أنه في صالح إسرائيل".