516210 4

حسن منيمنة/

الأستاذ الجامعي الوقور قيس سعيد فاز في انتخابات الرئاسة التونسية. ومن تابع المناظرة التي أجراها مع منافسه رجل الأعمال نبيل القروي يدرك بأن هذا الفوز جاء عن جدارة.

نبيل القروي بدا صادقا حين تقدّم بأفكار عدة، بعضها شجاع وبعضها جسور، خارج الأطر المتعارف عليها، وهو قد أورد مقترحاته وفصّلها باللهجة التونسية، ما يجعلها أقرب للمستمع ويبرز انسجامها مع المنطق السليم.

في المقابل حافظ قيس سعيد على مستوى مرتفع من الفصاحة والبلاغة، وشدّد في أفكاره وطروحاته على الالتزام بالإطار الدستوري المتشكل في أعقاب الثورة، واضعا نفسه باستمرار في موقع خدمة المواطن التونسي والسعي الفاعل إلى التعبير عن توجهاته وآرائه. فالمسألة كما طرحها قيس سعيد ضمنا ليست في المباشرة بثورة على الثورة، بل في تحقيق مضمون الثورة التي أنجزها التونسيون في ربيعٍ، بلادهم تبقى فيه الياسمين الوحيد.

ترصّد الحقوق إلى مآلاتها لا ينتهي عند الإقرار بالحق الفلسطيني

​​قيس سعيد لم يخرج عن منطق الاعتدال والهدوء والمحافظة إلا في موضوع واحد، مسألة "التطبيع" مع إسرائيل. والوجه العملي لهذه المسألة في تونس هو السماح للإسرائيليين بالدخول إلى تونس بجوازات سفرهم الإسرائيلية.

موقف قيس سعيد كان واضحا وصارما. ليس في الأمر عداوة لأي من القادمين، بل تونس ترحّب بالجميع، شرط إشهار جواز آخر. إذ لا تطبيع مع إسرائيل بأي شكل. بل كما قال قيس سعيد وكرّر، التطبيع مع إسرائيل "خيانة عظمى".

لليهود في تونس تاريخ عريق يعود إلى ما قبل الفتوحات الإسلامية. ففي حين أن المسيحية لم تكن قد توطدت في المنطقة المغاربية عند قدوم الإسلام، بل كثرت فيها السجالات اللاهوتية والفلسفية وصولا إلى بعض الغلبة للمذهب الآريوسي، والذي ينسجم مع المعتقد الإسلامي في إنكاره ألوهية المسيح، ما قد يفسّر استيعاب تابعيه واندثار المسيحية المغاربية، فإن الحضور اليهودي، في الحواضر المدنية كما في الأوساط الريفية كان راسخا، واستمرّ على مدى القرون، مع وفود جاليات إضافية من الأندلس وغيرها من النواحي الأوروبية. وجزيرة جربة التونسية على وجه الخصوص تحضن أحد أقدم المعابد اليهودية، وسط تواجد يهودي متواصل ومميّز في طابعه وخصوصيته.

والتجاور، بل التلاحم، بين المسلمين واليهود في تونس هو ما أشار إليه قيس سعيد في استعادته لذكرى حماية والده لجيرانه اليهود من بطش النازيين. بل لعموم المنطقة المغاربية سجل مشرّف في هذا الصدد طوال الحرب العالمية الثانية.

ورغم تضاؤل أعداد اليهود في تونس على مدى العقود، فإن العواطف الطيبة لعموم التونسيين إزاء مواطنيهم اليهود تبرز من خلال الحنين إلى زمن تواجدهم، والظاهر في الإنتاج الثقافي التونسي.

ودون الإفراط في تنزيه التاريخ المحلي عن صفحات أقل إشراقا لا يخلو منها أي تاريخ، فإنه من الواضح أنه لا يجوز إعادة موقف قيس سعيد حول التطبيع، وما يشكله من صدى لمواقف مطابقة واسعة النطاق في أوساط التونسيين، إلا إلى ثبات التقييم الأخلاقي لدى الرجل طوال حياته، كما يتبين من شهادات طلابه ومعارفه.

أي أنه لو جاء الكلام عن كون التطبيع خيانة عظمى من أحد السياسيين الممعنين بالفساد والتجاوزات، كما هو حال العديد من رؤوس الأنظمة في المحيط العربي في مراحل سابقة ومستمرة، لكان من السهل وسمه بالنفاق والتوظيف الشعبوي.

أما أن يصدر من رجل متحفظ في معظم مواقفه، وغير محتاج لتعبئة استدراكية، بل أن يأتي مصحوبا بثمن محتمل في عواصم خارجية سوف يحتاج الرئيس العتيد إليها، فدليل إلى وجوب التفاعل الموضوعي مع هذه المقولة.

لليهود في تونس تاريخ عريق يعود إلى ما قبل الفتوحات الإسلامية

​​مع مطلق التقدير والاحترام لشخصك ومواقفك، سيدي الرئيس، يمكن للمرء أن يختلف مع نظرتك للتطبيع، بالمعنى الضيق المتداول في تونس والذي يكاد أن يقتصر على الموافقة على الدخول بجوازات السفر الإسرائيلية، أو بالمعنى الأوسع، دون أن يكون قد ارتكب "خيانة عظمى".

المسلمة الأولى هنا هي أن الشعب الفلسطيني قد تعرّض دون شك لظلم تاريخي بواح بإخراجه من دياره ومنعه من العودة إليها وبإخضاع من بقي على أرضه للاحتلال والتمييز. والإقرار بهذا العدوان السافر على حياة الإنسان الفلسطيني وحريته وكرامته وأرضه هو معيار الالتزام بالقيم العالمية ومقياس المصادقة على حقوق الإنسان.

بل إن تخلف الغرب وغيره عن الوضوح والصراحة في هذا الشأن هو من الأسباب الجوهرية لاختلال المنظومة الدولية المشهرة لهذه القيم والحقوق، ولإتاحة المجال أمام بروز غيرها من الطروح، رغم الضمور الموضوعي في مضمون هذه البدائل.

غير أن ترصّد الحقوق إلى مآلاتها لا ينتهي عند الإقرار بالحق الفلسطيني. بل بغضّ النظر عن أية قراءة للمسؤوليات حول أصول مصاب الفلسطينيين، وإن مع التسليم الفرضي بأن المسألة كانت مجرد فعل استعماري استيطاني لصهيونية عنصرية، على ما في ذلك من إهمال لتفاصيل ناقضة، فإن الحال، عند الحد الأدنى، قد استحال بفعل التقادم، وللإسرائيليين اليوم كذلك حقوق لا بد قطعا من موازنتها عند اعتبار الحق الفلسطيني.

والتطبيع، أي مد اليد إلى الإنسان الإسرائيلي على أساس المساواة، لدعوته إلى الخروج من قناعة مبنية على قراءة لتاريخ مؤلم، مبالغ بها أو مختلف عليها لا فرق، ولتبديد مخاوف قائمة على استماعه لدعوات صريحة في جواره إلى طرده واستئصاله وإبادته بوصفه تجسيدا للشر، قد لا يكون البتة خيانة عظمى، بل قد يرى فيه البعض واجبا إنسانيا تجاه المجتمع الإسرائيلي كما تجاه المجتمع الفلسطيني.

فلو كان الهدف هو إنزال الهزيمة بإسرائيل، وإذا كان التصور هو أن المواجهة هي حرب تاريخية ووجودية مع كيان غاصب، فإن الكلام عن "خيانة عظمى" يتطلب المجاهرة بطبيعة هذه الملحمة والاستحصال من كافة الجمهور المحارب على عقود بيعة للجهاد المطلوب، إذ لا تستقيم الخيانة دون العهد. وإلزام العموم دون التزامهم تعسف يمتهنه الطفاة. واليقين هو أن الرئيس التونسي الجديد، في قراءة وإن سريعة لإنسانية خطابه، لا ينحى هذا المنحى.

أما إذا كان الرجاء أن يستتب سلام في المنطقة قائم على صلح تاريخي بين الفلسطينيين والإسرائيليين، كما بين كافة مجتمعات المنطقة واليهود عامة، يحفظ للجميع حقوقهم غير القابلة للتصرف، فإن الوصول إلى هذا الهدف، والذي يبقى للأسف بعيد المنال، فلا يستقيم إلا بالتطبيع، أي بالإقرار بأن التاريخ ظالم، والألم واقع، والخلاف قائم، والاختلال في تحميل المسؤوليات حاصل، إنما الثابت هو المساواة في الإنسانية، وأن الحوار القائم على حفظ الكرامة هو السبيل إلى الكسب المتبادل.

يوصد المعترضون على مقولة التطبيع كوسيلة لتحقيق الصلح الباب أمام النظر بالموضوع بإشهار شعار "الخيانة ليست وجهة نظر". مع انتفاء الإجماع الموضوعي حول أية مسألة، يمكن إدراج هذا الشعار في إطار الترويع الفكري، إذ أن مضمونه الفعلي هو "وجهة النظر المختلفة هي خيانة". والتخوين، مع تواجد مَن مِن شأنه الإمساك بزمام الأمور فعلا لا قولا وحسب، كما التكفير، هو تهديد صريح.

الوصول إلى السلام، والذي يبقى للأسف بعيد المنال، فلا يستقيم إلا بالتطبيع

​​هي مسألة خطيرة قد شهدت انحدارا باتجاه الأذى في أكثر من حالة في المحيط العربي، ولكنها لا تنطبق على قيس سعيد، فهو إذ يتحدث في إطار احترام المجتمع التونسي للنظام والحريات، ليس مسؤولا عن التجاوزات والإساءات خارجه.

بل ما هو جلي لدى الرئيس التونسي الجديد هو أنه لا يغيّب القناعة الأخلاقية عن الخطاب السياسي. الأمل الصادق هو بالتالي أن يضع الأستاذ الفاضل قيس سعيد مقام الرئاسة التونسية في موقع التأثير على هذا الموضوع الهام في الوعي التونسي وفي الضمير العالمي، حيث ما يزال مستفيقا.

رغم فيض المسؤوليات التي من شأنها أن تستهلك جهود الرئيس التونسي وأوقاته، ليته يشرف على نقاش راق، كما يليق به، حول مسألة التطبيع، هل هو خيانة عظمى أو واجب إنساني، في الفضاء العربي ابتداء، ثم مع الجوار المتوسطي وما يتعداه. التعويل، مجددا، هو على ربيع يأتي من تونس.

اقرأ للكاتب أيضا: "زكام" الولايات المتحدة و"حمى" العالم

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).
هل التطبيع مع إسرائيل "خيانة عظمى"؟ EE59327F-EE02-4244-8296-6F54C9866A29.jpg AFP هل-التطبيع-مع-إسرائيل-خيانة-عظمى الأستاذ الجامعي قيس سعيد محتفلا بانتخابه رئيسا 2019-10-16 11:42:37 1 2019-10-15 16:43:27 0

الإجهاض قضية تثير انقساما في وجهات النظر بالولايات المتحدة
الإجهاض قضية تثير انقساما في وجهات النظر بالولايات المتحدة - AFP

بدأ عدد متزايد من النساء في الولايات المتحدة يبدين اهتماما على مواقع التواصل الاجتماعي بتبني حركة  "4 بي" (4B) النسوية، في أعقاب فوز الرئيس السابق دونالد ترامب بفترة رئاسية جديدة تبدأ في يناير 2025.

وبدأت بالفعل بعض الناشطات على مواقع التواصل بحلق رؤوسهن إعلانا عن تبني حركة "4 بي"، والتي بموجبها تتعهد النساء بعدم مواعدة الرجال أو ممارسة الجنس معهم، فضلا عن عدم الزواج أو الإنجاب. 

وتخشى كثير من النساء الأميركيات، بخاصة المناصرات للحزب الديمقراطي، من احتمال فرض مزيد من القيود على الإجهاض وغيره من شؤون الصحة الإنجابية مع وصول الجمهوري دونالد ترامب للحكم ثانية.

@wecanstillsmile

My take on the 4B movement.. 🫣 #shavingmyhead #4bhair #trump #trump2024 #2024election #harris #protest #hairloss #alopecia

♬ original sound - Megs

وخلال فترة حكمه الأولى، عين الرئيس السابق ثلاثة قضاة محافظين في المحكمة الأميركية العليا، ما كان له الأثر في قرار الهيئة القضائية في 2022 بإلغاء دستورية الحق في الإجهاض.

وترك الحكم القضائي قانونية الإجهاض من عدمها قرارا تحدده كل ولاية أميركية على حدة.

وتسبب القرار في موجة عارمة من الاحتجاجات التي اعتبرته قيدا على حرية المرأة الأميركية وسلطتها الشخصية على جسدها، في مقابل تأييد آخرين له.

ما هي حركة "4 بي"؟

ظهرت حركة "4 بي" النسوية على مواقع التواصل الاجتماعي في كوريا الجنوبية قبل سنوات، احتجاجا على ما وُصف حينها بـ"عدم المساواة" بين الجنسين في البلد الأسيوي.

و"4 بي" هي الأحرف الأولى من كلمات كورية أربع ترجمتها بالعربية هي "لا زواج، لا ولادة، لا مواعدة ولا جنس مع الرجال".

وتتضارب الأقاويل حول العام الذي ظهرت فيه حركة "4 بي"، تحديدا.

لكن تقارير صحفية تشير إلى واقعة قتل امرأة كورية جنوبية بالقرب من محطة قطار أنفاق في العاصمة سيول، عام 2016، باعتبارها كانت الشرارة التي أشعلت فتيل هذه الحركة النسوية.

آنذاك، قال الجاني إنه قتل الضحية "انتقاما من تجاهل النساء له"، ما أدى إلى إثارة الرأي العام في كوريا الجنوبية، والمطالبة بمحاسبة عامة على المعاملة التي تجري مع النساء الكوريات الجنوبيات.

وشمل الجدل الحديث عن  عدم المساواة في الأجور، وفي القيام بالواجبات داخل المنزل، وامتد ليهم أيضا حوادث قتل النساء والجرائم الجنسية بحقهن.

ووفق بيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، تتقاضى النساء في كوريا الجنوبية أجورا أقل بنحو الثلث من الرجال، وهي أعلى فجوة في الأجور بين دول المنظمة.

"4 بي" في الولايات المتحدة

عبرت كثيرات من الأميركيات اللواتي تبنين قبل أيام قليلة أفكار حركة "4 بي" على منصات تيك توك وإنستغرام، عن شعورهن بالغضب بعد أن "صوت أغلب نظرائهن من الذكور لصالح ترامب".

وصوت لترامب في الانتخابات الرئاسية الأخيرة 52 في المئة من الرجال بين 18 عاما، وهو السن القانونية للتصويت، و44 عاما، وفق مسح أجرته وكالة أسوشيتد برس.

المسح الذي جرى بعد النتائج الأولية للانتخابات أظهر أيضا أن 56 في المئة من الرجال الأميركيين في سن 45 عاما فما فوق صوتوا لصالح ترامب.

في حين صوتت 55 في المئة من النساء بين 18 و44 عاما للمرشحة الديموقراطية كامالا هاريس، وصوتت لها أيضا 51 في المئة من النساء في عمر 45 فأكثر، بحسب المسح نفسه.

وكان الإجهاض بين قضايا رئيسية قسمت أصوات الناخبين الأميركيين، وعكفت المرشحة الديموقراطية كامالا هاريس خلال حملتها على تأكيد رفضها لأية قيود على الإجهاض.

وتحدثت نساء عدة خلال حملة هاريس  عن معاناتهن وإنهن كن على وشك الموت بسبب رفض المستشفيات والأطباء التدخل جراحيا لإنقاذ حياتهن، بعد وفاة الجنين داخل أرحامهن، وذلك بسبب القيود المفروضة على الإجهاض في ولاياتهن.

ورغم أن الجمهوري ترامب كان السبب في إلغاء قرار تاريخي جعل قبل 50 عاما الإجهاض حقا دستوريا للنساء، وعد الرئيس المنتخب مرارا بأنه لن يفرض حظرا فيدراليا على الإجهاض.

وخلال الانتخابات الأخيرة، سُئل الناخبون في 10 ولايات، على بطاقات الاقتراع، عن الإجهاض.

وأيد الناخبون ،في سبع منها، رفع القيود على الإجهاض التي تفرضها بعض من تلك الولايات، وتوسيع الحريات التي تتيحها حاليا البعض الآخر.

واللافت أن بعض تلك الولايات التي صوتت لصالح رفع القيود عن الإجهاض، انتخبت ترامب رئيسا للبلاد، وهي ميزوري وأريزونا، ومونتانا، ونيفادا، حسبما أفادت به وسائل إعلام أميركية.

ومن غير المعلوم ما إن كانت حركة "4 بي" الاحتجاجية ستحظى بانتشار واسع بين النساء الأميركيات في وقت لاحق أم لا.