517109 4

مالك العثامنة/

كنت في العاصمة اللاتفية ريغا مع ذروة الاحتجاجات اللبنانية، وفي لقاء سريع وخاطف مع شخص مصري مقيم هناك، تبادلنا الحديث عن لبنان وقد بادر هو بالسؤال عما يحدث هناك، وأردف بقوله معلقا: هي ثورة محقة، ميزتها أنها في محيط فيه الماء والخضرة والوجه الحسن. ثم استطرد بخفة دم المصريين المعتادة بقوله: ثوراتنا العربية لا نرى فيها إلا "حسن" نفسه.

تلك ملاحظة طريفة وخفيفة يمكن لمن يتلقاها أن يوسع ذمته إلى أقصى حد ممكن فيرى فيها تنمرا على باقي نساء الشرق الأوسط، أو يأخذها بنية صافية وخالية من شوائب التحرش فلا يرى فيها إلا غمزا تهكميا من خشونة القمع العربي ـ قياسا إلى لبنان ـ وغزلا جميلا بالسيدة اللبنانية وهو غزل لا يخدش ولا يثير الحنق، فاللبنانيات غالبا أنيقات وبيروت عاصمة الأناقة والجمال.

"حسن" نفسه قد يكون إسقاطا على المرأة العربية وقد يكون إسقاطا على "القمع الأمني" وهذا مرهون بضمير المتلقي واستيعابه، وتلك قصة واسعة تحيلنا فورا إلى الثقافات والمحاذير والتابوهات في عقل كل شخص.

الشعوب العربية مثل أنظمتها، تريد للبنان أن يكون ساحة صراع لكل ما يحملونه من أمنيات ورغبات

شخصيا، تلقيت عبارة محدثي بحسن نية وأعقبت بيني وبين نفسي أن الثورة في لبنان قد تكون المواجهة النهائية بين كل وجه حسن أمام "حسن" وجماعته وكل من هم معه في سدة السلطة.

من أكثر صور الثورة الشعبية في لبنان انتشارا، تلك السيدة الكبيرة والطيبة التي كانت تقف أمام حاجز جيش لبناني وتهتف وتتحدث وتصرخ ضد السلطة، وتخاطب ضابط الجيش المسؤول والشاب بلغة حانية وتتغزل غزلا رقيقا بعينيه الجميلتين، فقبل رأسها بكل محبة (اللبنانيون يخاطبون عسكرهم وينادونهم بكلمة : يا وطن).

ومن صور الثورة الشعبية في لبنان، العديدة بالمئات، توثيق لروح اللبناني المحبة للحياة والتي تضج بكل تفاصيل الفرح رغم كل المنغصات، وهذا جزء من الشخصية اللبنانية أساسا، ولا يزال كثير من جيلي ومن سبقوه يتذكرون قصصا من الحرب الأهلية البشعة في لبنان مطلع الثمانينيات، وقد كان كثير من اللبنانيين يقيمون حفلات السهر والفرح تحت القصف ويضيئون العتمة ببهجتهم مواجهين الموت بالإصرار على الحياة، تلك معجزة اللبناني التي تستعصي على غيره في العالم العربي المثقل بالموت والقهر والدم.

المشكلة ليست عند اللبناني بالمطلق، المشكلة دوما عند من يتلقى المشهد، وردة فعله هي انعكاس لما في داخله الشخصي، فإن كان يرى في الجميلات الثائرات صورة وسخة، فهذا انعكاس لوساخته الداخلية ضمن أبجدية راسخة فيه، وإن كان يرى فيها تمردا على الظلم، بجمالية أنيقة فتلك رؤية إنسانية بلا شك.

♦♦♦

قبل اندلاع الغضب الشعبي حتى ذروته، سنحت لي الفرصة لمشاهدة مقابلة على الهواء في برنامج لبناني كانت ضيفته النائب والإعلامية بولا يعقوبيان، وكان المتحدث على الهاتف معها الوزير اللبناني غسان عطاالله، وفي الحوار ألقى الوزير تهما مست شرف يعقوبيان، وكان رد يعقوبيان كافيا فلم يعد من بعدها حاجة إلى الرد وقد تكفلت بجدارة به، لكن ما حدث كان تنمرا واضحا، يوظف صفة "المرأة" في السياسية يعقوبيان، وينال من تلك الصفة فيها بما يتماهى مع العقل العربي المشرقي الذكوري الإقصائي، ولو تخيلنا أن الموجود كان ضيفا ذكرا، فلن يستطيع الوزير المذكور اتهامه بماضيه الشخصي بتلك السهولة، فالماضي الشخصي لا يجرح الرجل الشرقي ولا يحرجه، بل ربما يكون "إن وجد" انتصارا يضاف إلى قائمة انتصاراته الكثيرة من هذا النوع.

♦♦♦

هناك فرق بين خفة الدم، وهي كانت متوفرة وموجودة في كل صور الثورات والاحتجاجات العربية في تونس والسودان ومصر، وبين التحرش المسعور والتنمر الجنسي على النساء في كل تلك الثورات، ولا بد أن تتجلى إلى حدها الأقصى في لبنان تحديدا، فأنت في حضرة الأناقة المفرطة رغم كل ظروف الأزمة، حتى أن اللبنانيين قاموا بتطعيم احتجاجاتهم بهذا المرح وخفة الدم عبر مشاهد لم تبدأ بالتظاهر مع النرجيلة ولم تنته بالغناء والسهر، وهذا يذكر أيضا بليالي المرح الشبابي في ميدان التحرير التي أحياها الشباب المصري الغاضب وقتها عام 2011، ليواجه عتمة القمع بإضاءات الحياة، قبل أن يختطف كل هذا الفرح دعاة العتمة الذين خطفوا الثورة من شبابها، ثم العسكر "وهؤلاء لا يعرفون الفرح أصلا" ليدوسوا على كل ما سبق.

تحميل ثورة اللبنانيين أكثر مما يريده اللبنانيون أنفسهم، أيضا تنمر ومحاولة فاضحة لاختطاف إرادتهم الشعبية

على وسائل التواصل الاجتماعي كان التحرش والتنمر موجودا وبوفرة، تعكس دواخل ومكنونات المتلقي للصورة، ولا تعكس بأي حال واقع الروح اللبنانية، ومن أوسخ المشاهد مثلا كان ذلك الذي وقف بين النساء في المظاهرات ببيروت، ليتحرش جنسيا وجسديا بهن وقد التصق بأجساد المتظاهرات، وبعد القبض عليه يتبين أنه من الأردن!

المأساة لم تكن بهذا المسخ نفسه، بل بالتعليقات العديدة (أردنيا وعربيا) التي لم تر في فعله المشين أي خطأ، بل بررت فعلته بالفحش النسائي اللبناني كما وصفوه في مجمل التعليقات.

هؤلاء الذين برروا للمتحرش الوسخ فعلته، وأدانوا اللبنانيات لأنهن بكامل طبيعتهن وألقهن، هم أنفسهم الخاضعون للقهر والظلم والعتمة، ولن يتخلصوا من طغيان السلطة مطلقا لأن الطغيان حقيقة يعيش فيهم وفي دواخلهم.

♦♦♦

الثورات حق الناس حين تضيق حياتهم حد القهر وعدم القدرة على الاستمرار في واقع لم يعد محتملا، وواقع اللبنانيين على اختلاف توجهاتهم وتباين خلفياتهم السياسية والدينية والطائفية والاقتصادية والاجتماعية وضعهم أمام مسطرة واحدة من الهم المحلي.

وتحميل ثورة اللبنانيين أكثر مما يريده اللبنانيون أنفسهم، أيضا تنمر ومحاولة فاضحة لاختطاف إرادتهم الشعبية، وهذا ما يمكن ملاحظته بوضوح في وسائل التواصل الاجتماعي العربية، فالبعض يقحم فكرة المقاومة والممانعة في قراءاته الخاصة لثورة اللبنانيين، وهو بذلك مثلا يقصي اللبناني الكتائبي الغاضب أو القواتي المقهور من واقعه، والبعض يريد للثورة أن تبيد الضاحية الجنوبية بأكملها متناسيا أنها منطقة المقموعين الأكثر قهرا وهم الأكثر غضبا من كل ما يحيط بهم من ترهيب وخوف، والبعض يتحدث بسعة وراحة بال عن "أسلمة" الثورة وتحشيمها، وهو ذات الخطاب الفانتازي المريض في رؤية "إسبانيا" كحق "أندلسي" شرعي لكل مسلم.

المأساة لم تكن بهذا المسخ نفسه، بل بالتعليقات العديدة (أردنيا وعربيا) التي لم تر في فعله المشين أي خطأ

تكتشف أن الشعوب العربية مثل أنظمتها، تريد للبنان أن يكون ساحة صراع لكل ما يحملونه من أمنيات ورغبات.

اللبنانيون، هم الأكثر دراية بمطالبهم، وقد قفزوا فوق كل تعقيداتهم الداخلية وبكل تشابكاتها ليوحدهم الشارع في مطلب واحد، هو استعادة دولتهم المخطوفة من "كلن.. يعني كلن" وبلا استثناء.

الشارع اللبناني المتظاهر بكل ما فيه من صور مختلفة ومتباينة، هو لبنان بكل تناقضاته التي تجمعه تحت علم الأرز الوحيد، أما تباينات العالم العربي في وسائل التواصل الاجتماعي فهي قراءات شخصية لا تعبر عن اللبنانيين، وهي تعليقات أغلبها يصدق فيها المثل اللبناني نفسه حين يقول:

"والله شي تك تك.. شي تيعا!".

اقرأ للكاتب أيضا: صديقي "نينوس": أنت مجرد شبح غير موجود

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

"شي تك تك.. شي تيعا" 4E9A7028-792C-4B57-B5DA-A529719D8D28.jpg Reuters شي-تك-تك-شي-تيعا متظاهرون في جل الديب شمالي بيروت 2019-10-22 12:52:16 1 2019-10-22 13:03:16 0

نصب أمام المستشفى الذي يرقد فيه البابا
البابا فرانسيس دخل المستشفى في 14 فبراير ولم يظهر للعامة سوى مرة واحدة

قال رئيس الفريق الطبي للبابا فرنسيس، السبت، إن بابا الفاتيكان، الذي يعاني من التهاب رئوي منذ أكثر من خمسة أسابيع، سيخرج من المستشفى غدا الأحد لكنه سيحتاج إلى شهرين من الراحة في الفاتيكان.

ودخل البابا فرنسيس (88 عاما) إلى مستشفى جيميلي بروما في 14 فبراير بسبب عدوى تنفسية حادة تحولت إلى أخطر أزمة صحية شهدها خلال فترة بابويته الممتدة منذ 12 عاما.

وأضاف الطبيب أن البابا لم يُشف تماما وإن الشفاء التام سيستغرق "فترة طويلة".

وأردف قائلا إنه خلال الشهرين المقبلين يتعين على البابا النأي بنفسه عن حضور الاجتماعات التي يحضرها عدد كبير من الناس أو تلك التي تتطلب مجهودا خاصا.

ولم يظهر البابا للعامة سوى مرة واحدة أثناء إقامته في المستشفى، إذ نشر الفاتيكان صورة الأسبوع الماضي ظهر فيها فرنسيس وهو يصلي في كنيسة المستشفى.

وقال الفاتيكان في بيان مقتضب في وقت سابق من، السبت، إن البابا فرنسيس يريد أن يظهر من نافذة المستشفى غدا الأحد لتقديم التحية.