لماذا كان اجتماع "المجموعة الدولية لدعم لبنان" في باريس، طالما أنه لم يقدّم مساعدة عاجلة تساهم في منع الانهيار المالي والاقتصادي والاجتماعي الحاصل في "بلاد الأرز"، مكتفيا ببيان سياسي ـ اقتصادي؟

هذا السؤال كان قد سبق الاجتماع وواكبه ولحقه.

الجواب عنه بارد وبسيط: المجموعة ليست صندوق هبات بل هي اختصار معبّر للمجتمع الدولي الذي يعنيه لبنان ويتعامل معه على أساس أنه دولة، وليس شحاذا.

ووفق مفهوم "المجموعة" فإن على لبنان حتى ينقذ نفسه ويستفيد من المساعدات المخصصة له، أن يتصرّف كدولة ناضجة معنية بسيادتها وبشعبها وبمؤسساتها.

وهذا ما عكسه، بأمانة، البيان الختامي للمجموعة.

رسالة دولية موحّدة

وتأكيدا لأهمية الاجتماع، فإن المرحلة التي سبقته حفلت بتحليلات كثيرة لدى المسؤولين اللبنانيين المعنيين بتشكيل الحكومة، بحيث كان كل طرف يفسّر الإرادة الدولية، وفق مصلحته الخاصة، ويقسّم المجتمع الدولي إلى جماعات بحيث يمكن اللجوء إلى "كرم وجود" بعض الدول، تخلّصا من ضغوط وشروط بعضها الآخر.

تلقت باريس جوابا واضحا: دعم لبنان ضروري ولكن على قاعدة أن يعود إلى "لبنانيته"

وجاء البيان الختامي للمجموعة راسما خارطة طريق واضحة مدعومة من روسيا والصين وجامعة الدول العربية والصناديق الإقليمية والدولية، أي موفّرا رؤية دولية موحّدة إلى لبنان، وبذلك تكون الصين وروسيا مثلها مثل الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا.

وهذا يفيد بأن كل لبنان بات، بعد اجتماع باريس، في حال أراد إنقاذ نفسه بمساعدة المجتمع الدولي، يملك مستندا يشكل مرجعية بناء، تنعكس على شكل الحكومة ونوعية الوزراء وروحية المشاريع، وطريقة التعاطي مع الثوار وحمايتهم، وهم الذين يرفعون، منذ 17 أكتوبر مطالب محقة ولا خلاص للبنان إن حاول أن يتجاوزها أو ينقض عليها.

مساعدات عاجلة ولكن!

إلا أنّ هذا لا يعني أن موضوع توفير مساعدات مالية عاجلة للبنان لم يطرح. وتفيد المعلومات أن السفير حسام زكي، الذي ترأس وفد جامعة الدول العربية، طلب من الدول والصناديق النقدية المشاركة في الاجتماع توفير وديعة توازي خمسة مليارات دولار لإيداعها مصرف لبنان، ولكن هذا الطرح "أُهملت مناقشته"، فلم يوافق عليه أحد ولم يعترض عليه أحد.

هذا الاقتراح الذي بدا كأنه أُسقط على آذان صمّاء، قد تكوّن في لبنان، إذ كان محور اجتماع ضمّ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة مع وفد جامعة الدول العربية الذي زار لبنان مؤخرا.

وكانت باريس، في وقت سابق، قد سعت مع السعودية والإمارات العربية المتحدة، من أجل توفير مساعدة مالية عاجلة للبنان، ولكنها لم توفّق، وجاءها جواب واضح: دعم لبنان ضروري ولكن على قاعدة أن يعود إلى "لبنانيته"، حتى لا تكون هذه المساعدة هي تشجيع لتدخله، من خلال "حزب الله" المهيمن على قراره، في أزمات تمس "أمننا الاستراتيجي".

الغياب السعودي

ولكن، ما لم يحظ بتفسير هو الغياب ـ المفاجأة للملكة العربية السعودية عن اجتماع المجموعة بعدما كانت قد شجعت على انعقاده.

حتى كتابة هذا المقال لم يكن هناك جوابا شافيا عن خلفية هذا الغياب، فهل هو لأنّ الرياض تريد أن تنأى بنفسها عن بيان تعرف من مسودته أنه يتضمّن رؤية تؤيّدها؟ أم لأنها لا تريد أن تنساق إلى مناقشة "مساعدة مالية عاجلة" من خارج التزام لبنان بما هو وارد في البيان؟ أم لأنها لا تريد أن تتموضع كمتدخل إقليمي في الشأن اللبناني مما يعطي حجة لعرقلة إقليمية موازية؟

لبنان والتحديات الأربعة

ومن الواضح، وفق المداولات التي شهدتها جلستا عمل المجموعة في مقر وزارة الخارجية الفرنسية أن هناك 4 مواضيع جرى التركيز عليها، في سياق البحث التقني في أسباب الانهيار الحاصل في لبنان، وهي: ربط "حزب الله" للبنان بـ"أجندة إيرانية"؛ ملف الكهرباء الذي احتكره الوزراء؛ وإدارة ملف الاتصالات الذي يعاني من تدخلات انتفاعية؛ والفساد في الإدارة اللبنانية عموما وفي المرافق الحيوية خصوصا.

وإذ عكس البيان الختامي هذه الأمور، لفتت أوساط موثوق بها إلى أن حث لبنان على تشكيل حكومة فاعلة وذات مصداقية" تكون ملتزمة بسياسة النأي بالنفس عن التوترات والأزمات الإقليمية" لم يكن من باب "الكلام الإنشائي"، بل هو من الشروط الضرورية لإنقاذ لبنان، على اعتبار أن المجتمع الدولي لا يستطيع أن يعوّض لبنان الخسائر الفادحة التي يتسبب بها تدخله، من خلال "حزب الله"، في "التوترات والأزمات الإقليمية".

وخلافا لما يعتقده البعض، فإنّ هذا الموضوع له مؤيدون كثر في المجموعة وليس حكرا على الإدارة الأميركية.

واشنطن "تساير" وموسكو "تُفاجئ"

ولأن الإحداثيات اللبنانية معروفة كما واجبات السلطات فيه، فإن وزارة الخارجية الأميركية كانت قد تحفظت بداية على جدوى انعقاد هذه المجموعة، ولكنّها عادت ووافقت "مسايرة" لباريس التي شرحت أسبابها الموجبة ومن أهمها إزالة اللغط حول الموقف الدولي من لبنان، وإشراك روسيا والصين في الرؤية نفسها حتى لا يحاول البعض استغلال "وهم التمايز"، وإزالة تهمة "التدخل الخارجي" لبعض الدول، على خلفية ما قيل عن بحث الملف اللبناني في إطار "اللقاء الثلاثي" الذي جمع واشنطن وباريس ولندن.

وبدا لافتا للانتباه، في "المجموعة " أن موسكو، ولأول مرة، كانت إيجابية ومتعاونة في كل النقاط التي ذهب إليها البيان الختامي، فهي وافقت فورا على "النأي بالنفس" كما على توصيف الحكومة "الفاعلة وذات المصداقية"، وتحديد المخارج الواجبة لمساعدة لبنان.

وسبق أن أشارت معلومات إلى أن روسيا، وقبل الاجتماع، أدخلت تعديلات إلى نظرتها للحكومة اللبنانية المفترض تشكيلها، فبعدما كانت ترى وجوب تشكيل حكومة شبيهة بتلك التي استقالت، أصبحت ميّالة بقوة إلى حكومة غالبيتها من الاختصاصيين.

الحكومة والطائف

وإذا كان بيان المجموعة قد جال على كل النقاط التي يعاني منها لبنان، في المرحلة الأخيرة، فإن ما كان لافتا أن الجميع يعتبر أن أي حديث جدي مع السلطات اللبنانية لا قيمة له قبل تشكيل حكومة "فاعلة وذات مصداقية" لا تشبه بأي شكل من الأشكال الحكومة التي استقالت تحت وطأة "ثورة أكتوبر"، على أن يعود لبنان إلى الاسترشاد بنصوصه التأسيسية، ولا سيما منها اتفاق الطائف الذي لاحظت جامعة الدول العربية، في مداخلة السفير حسام زكي، أنّه تعرض، في المرحلة الأخيرة لانتهاكات من شأنها المس بأسس الاستقرار والسلم الأهلي.

ما لم يحظ بتفسير هو الغياب ـ المفاجأة للملكة العربية السعودية عن اجتماع المجموعة

وبالنتيجة، وفي ضوء كل ذلك، هل يملك لبنان فعلا القدرة على إنقاذ نفسه؟ وهل يمكن أن يضخ روح المسؤولية في "حزب الله" فينأى بنفسه أمنيا وعكسريا عن التوترات والنزاعات الإقليمية؟ وهل يمكنه أن يأتي باختصاصيين كفوئين ونزيهين من أجل إدارة الملفات الأكثر كلفة ووطأة على المال العام، كما هي عيه الحال مع ملف الكهرباء؟

وفق التجارب، لم يعرف عن الأطراف المعنية بكل ذلك تراجعها أمام أي خطر يحدق بالمصلحة العامة، فهي طالما قدّمت "الأجندة الإقليمية" على المصلحة اللبنانية والمصلحة الشخصية على المصلحة العامة، وما المواجهة التي تصطنعها هذه الأطراف مع الثوار، تحت عناوين واهية، إلا من الإشارات المقلقة.

احتجاجات سابقة في تونس

تتصاعد المخاوف في تونس من تنامي الاعتقالات والملاحقات القضائية التي تستهدف نشطاء بالمجتمع المدني من ممثلي جمعيات وإعلاميين ومحامين، وسط جدل ونقاشات في الأوساط الحقوقية بشأن مصير هذه المنظمات في ظل التحديات التي تواجهها.

وأشار تقرير صادر عن منظمة العفو الدولية في سبتمبر الماضي إلى أنه منذ عام 2022، شنت السلطات التونسية موجات متعاقبة من الاعتقالات استهدفت عددا من الخصوم السياسيين ومنتقدي الرئيس التونسي قيس سعيد.

وانتقد التقرير "تعرّض أكثر من 70 شخصا، من بينهم معارضون سياسيون، ومحامون، وصحفيون، ومدافعون عن حقوق الإنسان ونشطاء للاحتجاز التعسفي أو الملاحقات القضائية أو كليهما منذ نهاية 2022". 

ولفت إلى أن العشرات ما يزالون رهن الاحتجاز التعسفي على خلفية ممارسة حقوقهم المكفولة دوليا، مثل الحق في حرية التعبير والتجمع السلمي وتكوين الجمعيات والانضمام إليها.

في المقابل، تثير حملة الاعتقالات والملاحقات التي تشنها السلطات الأمنية التونسية في العامين الأخيرين تساؤلات بشأن تداعياتها على المجتمع المدني في تونس ومصير الجمعيات والمنظمات في ظل هذه الخطوات.

تقلص نشاط المجتمع المدني

تعليقا على هذا الموضوع، يرى رئيس "الجمعية التونسية من أجل نزاهة وديمقراطية الانتخابات" (رقابية غير حكومية) بسام معطر أن نشاط المجتمع المدني بتونس تقلص بشكل لافت بعد إجراءات 25 يوليو 2021 التي أعلن عنها الرئيس قيس سعيّد.

ويوضح معطر في حديثه لـ"الحرة" بأن تعامل مؤسسات الدولة مع الجمعيات والمنظمات تراجع بشكل كبير بعد أن كان هناك انفتاح على منظمات المجتمع المدني والاستئناس بتجاربه وآرائه في القضايا التي تخص الشأن العام، من ذلك مشاريع القوانين التي يسنها البرلمان في تونس.

ويشدد على أن الاعتقالات التي طالت عددا من النشطاء في تونس ورافقتها حملة شيطنة واسعة استهدفت نشاط منظمات المجتمع المدني فضلا عن الصعوبات في الحصول التمويلات، كلها عوامل أدت إلى انحصار دور هذه المنظمات والجمعيات والأحزاب السياسية وأدخلتها في مرحلة ركود.

ويلفت المتحدث إلى أن جزءا من الجمعيات والمنظمات في تونس محل تدقيق ومتابعة من السلطات القضائية بخصوص نصوصها القانونية ومصادر تمويلها خاصة تلك التمويلات المتأتية من الخارج.

وسبق للرئيس التونسي قيس سعيّد أن اتهم بعض الجمعيات بتلقي أموال من الخارج كما اتهم القائمين عليها بـ"الخيانة والعمالة"، وأعقبت هذه الاتهامات حملة إيقافات طالت ممثلي جمعيات حقوقية في تونس.

وفي نوفمبر الماضي، أصدرت جمعيات تونسية ودولية بيانا مشتركا نددت فيه بما اعتبرته "تجريم الحراك السلمي والاحتجاجات" من طرف السلطة ودعت في المقابل إلى "وقف جميع التتبّعات ضد النشطاء السياسيين والمدنيين والاجتماعيين والنقابيين".

غلق الفضاء العام

"واقع الحقوق والحريات في تونس سيء جدا، والسلطة سعت بكل ثقلها إلى غلق الفضاء العام في البلاد في خطوة تهدف إلى التضييق على نشاط الأحزاب والمنظمات والجمعيات وتغيبها عن المشهد العام"، هذا ما يراه المنسق العام لـ "ائتلاف صمود" (جمعية حقوقية غير حكومية) حسام الحامي في تشخيصه لتعامل السلطة مع منظمات المجتمع المدني في تونس.

ويقول الحامي لـ"الحرة": إن حملة الاعتقالات و الملاحقات القضائية التي طالت العشرات من النشطاء سواء كانوا سياسيين أو صحفيين أو محاميين أو ممثلي جمعيات ومنظمات فضلا عن الضغط المسلط على المؤسسات الإعلامية العمومية والخاصة كانت عوامل ساهمت في تراجع الاهتمام بالشأن العام وأدت إلى خفوت صوت المجتمع المدني في البلاد.

وبخصوص مصير منظمات المجتمع المدني في ظل الواقع الذي تعيشه اليوم، يشدد المتحدث على أن مرحلة ما بعد الانتخابات الرئاسية المقامة في 6 أكتوبر 2024 "يخيم عليها شعور عام بالإحباط" ودفعت الأحزاب والمنظمات والجمعيات إلى الشروع في تقييم الفترة السابقة وإعادة النظر في المقاربات والاستراتيجيات التي يجب اعتمادها في المرحلة المقبلة لتكون أكثر جدوى، وفقه.

ويضيف في السياق ذاته، بأنه يجري العمل على صياغة بدائل في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية استعدادا للمحطات الانتخابية القادمة، لافتا إلى أن أنشطة المجتمع المدني في تونس لن تتوقف وذلك بالنظر إلى وجود أكثر من 20 ألف جمعية ومنظمة تنشط في البلاد.

وفي مايو 2024 كشف الرئيس سعيّد عن وثيقة تفيد بتلقي جمعيات تونسية تمويلات تفوق ملياري دينار (نحو 700 مليون دولار) من الخارج من سنة 2011 إلى 2023، لافتا إلى أن لجنة التحاليل المالية أثبتت ذلك دون القيام بدورها كاملا.

في الشهر ذاته، ناقش مجلس وزاري مضيق مشروع قانون يتعلق بتنظيم الجمعيات  "يهدف إلى تنظيم وتعصير آليات تأسيس الجمعيات وطرق سيرها مع الموازنة بين تكريس حرية العمل الجمعياتي والرقابة على تمويلاتها ونظمها المالية".

جدير بالذكر أن عدد الجمعيات ارتفع من 9600 جمعية سنة 2011 إلى نحو 25 ألف جمعية سنة 2024 وفق ما أعلنت عنه منظمات رقابية في البلاد.