يسعى فرقاء السلطة في لبنان إلى تأليف حكومة سريعاً بالاتفاق فيما بينهم تكون مهمتها الأساسية، تحصيل ما يُمكن تحصيله من المليارات التي أقرها مؤتمر "سيدر" لمساعدة لبنان والتي تبلغ حوالي 11 مليار دولار، هي كفيلة، إذا ما وصلت بالكامل، بانفراجة مرحلية قد لا تتعدى السنة بحسب ما يقول اقتصاديون.
لهذا، ينشط سعد الحريري بعد تكليفه لإيجاد تركيبة من الاختصاصيين، حسب زعمه، تسمّيهم أحزاب المنظومة السياسية الحاكمة في لبنان، وهو ما بدأت مؤشراته تظهر حتى منذ ما قبل التكليف.
ويستند الحريري في مسعاه إلى المبادرة الفرنسية ودعم من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي زار لبنان مؤخراً حاملاً معه مبادرة، يقول الحريري إنه سيُطبقها.
وتنص المبادرة الفرنسية في الشق المتعلق بمكافحة الفساد والتهريب، على أن التدابير المطلوب اتخاذها فوراً (في مهلة شهر) بعد تشكيل الحكومة:
• تعيين أعضاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ومنحها القدرات الضرورية للقيام بالمهمات المنوطة بها والإطلاق الفعلي لأعمالها.
• إطلاق مسار الانضمام إلى معاهدة منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية لعام 1997 حول مكافحة الفساد في العالم.
• التطبيق الفوري للإصلاحات الجمركية.
-أما التدابير المطلوب اتخاذها على المدى القصير للغاية (في مهلة ثلاثة أشهر):
• إنشاء بوابات رقابة وتعزيز الرقابة في مرفأي بيروت وطرابلس وفي مطار بيروت وأيضاً في نقاط المرور الأخرى على الحدود وتخفيف المعاملات وفقاً للمهل المتبعة في الإدارة.
ومن المعروف أن مطار رفيق الحريري الدولي عليه الكثير من علامات الاستفهام، مثله مثل باقي المرافق من مرافئ ومعابر حدودية، وتقول تقارير كثيرة إن حزب الله يعتمد على المطار بشكل كبير في كُل عملياته وفي نقل ما يريد واستيراد ما يُريد من دون حسيب أو رقيب، وهو ما يؤكده الخبير العسكري نزار عبد القادر الذي يعتبر في حديث لموقع "الحرة" أن "من المستحيل وقف سيطرة الحزب على المطار إذ كُل ما في المطار يتبع له بما فيه موظفي الدولة".
وسبق لمطار بيروت أن كان محل تجاذب بين الفرقاء السياسيين في لبنان حين فتح النائب السابق وليد جنبلاط ملف كاميرات المراقبة التي زرعها حزب الله في محيط مطار بيروت الدولي، وقال حينها: "لا قيمة للإجراءات التي تقام لتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 1701 (الذي يقضي بمنع دخول السلاح الى لبنان) إذا كان رئيس جهاز أمن المطار وغالبية العناصر والضباط معه تابعين لحزب الله الذي لا يعترف بالدولة"، مضيفاً أن "عناصر حزب الله بزرعهم كاميرات لمراقبة مطار بيروت يستطيعون أن يقوموا بعملية تخريبية ويراقبون وصول شخصية لبنانية أو غير لبنانية وبهذه الطريقة يستطيعون أن يخطفوا أو يغتالوا على طريق المطار".
وحصل موقع "الحرة" على مراسلات كانت جرت آنذاك في هذا الخصوص بين وزير الدفاع حينها الياس المر وقيادة الجيش، إذ أرسل المر كتاباً لقيادة الجيش يقول فيه "وردتنا معلومات عن تركيز كاميرات مراقبة لاسلكية في محيط مطار بيروت الدولي، ضبطت إحداها داخل حاوية وموجهة في اتجاه مدارج المطار" مطالباً إياها برفع تقرير مفصل عن المعلومات المتوفرة والاجراءات المتخذة بصورة فورية".
وكان الأمر قد أثار القضية في 30 أبريل 2008، وجاءه رد قيادة الجيش في اليوم نفسه وفيه: "- بتاريخ 26/4/2008 صباحاً توجهت دورية بإمرة ضابط الى محاذاة المستوعب فلاحظ آمرها جسماً غريباً يعكس الضوء أحياناً (نظراً الى الظلام داخل المستوعب) فاشتبه بأنه قد يكون كاميرا للمراقبة وموجهة باتجاه المدرج الغربي للمطار (رقم 17)، فأفاد على الفور قائد جهاز أمن المطار العميد وفيق شقير عن الموضوع، بحيث وعده الأخير بأنه سوف يعالج الموضوع.
- بتاريخ 28/4/2008 شاهد عناصر لفيف حماية المطار ثلاثة عناصر باللباس المدني قرب المستوعب وبيد أحدهم كاميرا كان قد أخذها من المستوعب، وغادروا بعدها المكان".
وبضغط من الأكثرية النيابية حينها التي كانت تُعرف بقوى 14 آذار وهي مناهضة لحزب الله وإيران، اتخذت الحكومة في 5 مايو 2008 قراراً بإقالة قائد جهاز أمن المطار وفيق شقير الذي يُدين بالولاء لحزب الله وكان هذا القرار إلى جانب تفكيك شبكة الاتصالات الخاصة للحزب، سبباً لاحتلال بيروت ومحاولة احتلال مناطق من جبل لبنان من قبل حزب الله والأحزاب المتحالفة معه بقوّة السلاح في 7 مايو 2008.
ويقول عبد القادر: "كاميرات المراقبة أدت إلى 7 أيار (مايو)، ومن المستحيل أن يستطيع لا الحريري ولا غيره تطبيق ما يريده الفرنسيون في مبادرتهم فيما خص أبواب المراقبة في مطار بيروت، قد يحدث ذلك في مرفأ طرابلس أو حتى في مرفأ بيروت ولكن في مطار بيروت لا يُمكن القيام بهذا الأمر، فمن خلاله يحضر الحزب إلى لبنان كُل شيء يريده من سلاح وأموال وينقل عبره مطلوبين وغيرهم، وبالتالي المطار هو كل شيء بالنسبة لهم".
وذكرت وثيقة مُسربة من ويكيليكس تحمل الرقم 08BEIRUT686 أن السفارة الأميركية في لبنان قالت في مذكرة صادرة عنها إنه "بينما يحتاج مطار القليعات إلى معدّات الملاحة والأمن والتشغيل الأرضي، فإن مطار بيروت يبقى بعيداً جداً من الأمان، إضافة إلى أنه عرضة للاستيلاء الفوري من قبل "حزب الله" كما ثبت في 7 مايو 2008 و23 يناير 2007 عندما أغلق من قبل الحزب بطريقة فعالة عبر وضع حواجز على الطرقات".
وفي سياق متصل، يذكر أحد أبرز المحققين الأميركيين في وكالة مكافحة المخدرات الأميركية ديريك مالتز أن "حزب الله يسيطر على مطار بيروت ويفعل به ما يشاء، وينقل عبره كُل ما يريده من شحنات أموال ومخدرات وغيرها، وعناصر من الحزب يتواجدون بأسلحتهم في حرم المطار تحت أعين قوات الأمن اللبناني".
كذلك، يلفت مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات ماثيو ليفيت في تقرير عام 2018 في "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى" إلى وجود أشخاص متنفذون في حزب الله يُمارسون أنشطة تتعلق بتهريب السلاح والاتجار بالمخدرات وغسيل الأموال، وتوفر هذه النشاطات الدعم المالي لحزب الله وأنشطته العسكرية.
يلفت ماثيو أن هذه الأنشطة العسكرية التي يمولها الحزب، قد أشارت إليها وكالات إنفاذ القانون في الولايات المتحدة بـ “مكوّن الشؤون التجارية في حزب الله”، الذي قد تم الكشف عنه عام 2016، بواسطة جهود عملية مشتركة شملت إدارة مكافحة المخدرات الأمريكية، والجمارك وحماية الحدود، ووزارة الخزانة، والـ "يوروبول" والـ"يوروجست" والسلطات الفرنسية والألمانية والإيطالية والبلجيكية.
وقد أدى التحقيق إلى اعتقال عدد من أعضاء حزب الله، والمتعاونين معه، بتهم الاتجار بالمخدرات وغسيل الأموال وحيازة الأسلحة لاستخدامها في سوريا.
ونتيجة للبحث والتحري، حصل موقع "الحرة" على وثيقة صادرة عن محكمة نيويورك تُظهر مدى سيطرة حزب الله على مطار بيروت، إذ تذكر الوثيقة أن عملاء أميركيين متخفّين تواصلوا مع أحد الأشخاص التابعين لحزب الله وتُدعى إيمان قبيسي على أنهم يريدون التعامل معها في تجارة المخدرات وتبييض الأموال.
وتظهر الوثائق أن قبيسي اجتمعت مع العملاء المتخفين في نيويورك وباريس وأيضاً في بيروت وناقشت معهم تهريب أسلحة وقطع طائرات لصالح إيران، ويُذكر أنه في ذلك الوقت أي بين عامي 2014 و2105 كانت إيران تعاني من عقوبات فرضتها الإدارة الأميركية في عهد الرئيس السابق باراك أوباما.
وتكشف الوثيقة أن قبيسي ذكرت أمام العملاء المتخفّين أن بإمكانهم الحضور إلى مطار بيروت دون أن يعلم أحد بذلك، وهي تقصد القوى الأمنية، وتشير إلى أنه يُمكنهم اللقاء بمن يريد أن ينفذ معهم الصفقة (أي حزب الله) داخل المطار ثم يعود ويسافر من دون طبعاً أن يمر على المعابر الرسمية أي عند الأمن العام اللبناني.
وتذكر قبيسي وفقاً للوثيقة والتي تستند إلى تسجيل بالصوت والصورة أنه يُمكن للتجار أي (العملاء المتخفين) أن يلتقوا بالمطار بخبراء لمناقشة الأسعار والنوعية والمواصفات، إذ بحسب ما تنقل الوثيقة عن قبيسي، فإنه "بإمكان الإيرانيين شراء أي كمية، "يمكنك إرسال طائرة واحد محملة بكل شيء. ستقوم بالهبوط دون علم أحد، يتحكمون بكل شيء (في المطار)، هم محترفون".
ويظهر من خلال الوثيقة أيضاً مدى سيطرة حزب الله على مطار بيروت والقدرة على استخدامه في كُل تعاملاته وما يريد تنفيذه بعيداً عن أعين الرقابة المحلية، واستناداً إلى ما يذكره عبد القادر، يبدو أيضاً أن لا مشكلة للحزب مع الأجهزة التي تعمل داخل المطار، ويُذكر هنا أنه صار من الثابت بعد قرار إقالة شقير وما تلاها، أن كُل من يُعيّن على رأس هذا الجهاز لا بد أن يمر اسمه على حارة حريك، معقل حزب الله، للموافقة عليه أو عدمها.
وإذ يعيد عبد القادر التشديد على استحالة مراقبة المطار، يُشاركه في هذا الرأي عدد كبير من السياسيين اللبنانيين، فيما يبدو أن حزب الله وجد لنفسه طريقاً للخروج من بعض التزامات المبادرة الفرنسية، إذ نُقل عن مسؤوليه أنهم مُلتزمون بجزء كبير من المبادرة، وهو ما يرى فيه عبد القادر "وسيلة للتهرب من بعض البنود التي لا تُناسبهم وهذا ما قصده النائب محمد رعد حين قال إنهم يُنفذون 90٪ من المبادرة".
ولا يبدو أن الرئيس المكلف سعد الحريري مُتمسّك بحذافير المبادرة، ويترك لنفسه حرية الحركة طالما أن هناك بعض البنود المقدور عليها.