من مطار بيروت - لقطة أرشيفية
من مطار بيروت - لقطة أرشيفية

يعد الجنوح نحو الهجرة أحد أبرز سمات المجتمع اللبناني عبر التاريخ، ومنذ تأسيس الدولة وحتى اليوم، شهد لبنان موجات هجرة كبيرة رافقت المراحل المفصلية التي عاشها، وأسس لمفاهيم ووقائع لا زالت تنعكس على صورته العامة، لاسيما على صعيد علاقة البلد الأم بالمهاجرين منه، واعتماده عليهم كرافعة مالية للبلاد.

اليوم، يستعد لبنان لموجة هجرة جديدة، تأتي كواحدة من تداعيات الأزمة الاقتصادية الأسوأ في تاريخه، والأعقد عالمياً، وفق ما يؤكد البنك الدولي في تقاريره.

وتنعكس هذه الموجة بالأرقام والنسب على مختلف المؤسسات والقطاعات، وتظهر علناً على شكل طوابير انتظار طويلة لآلاف المواطنين، يتنقلون بين مراكز الحصول على جوازات سفر، وأماكن تخليص الأوراق والمعاملات، كذلك الأمر أمام السفارات التي باتت المواعيد في بعضها مؤجلة إلى العام 2022 بسبب حجم الطلبات، وصولا إلى المطار الذي يغص بالمغادرين يومياً.

حول هذه الظاهرة، أعد "مرصد الأزمة" التابع للجامعة الأميركية في بيروت، تقريراً يرصد ما وصفه بـ "موجة الهجرة الثالثة"، لافتا إلى أن البلاد دخلت هذه الموجة (Exodus) بالفعل، حيث تشهد منذ أشهر ارتفاعاً ملحوظاً في معدلات الهجرة والساعين إليها، ومحذراً من عواقبها طويلة الأمد على مصير لبنان.

الهجرة الكبرى الأولى شهدها لبنان في أواخر القرن التاسع عشر امتدادًا حتى فترة الحرب العالمية الأولى (1865 - 1916) حيث يُقدر أن 330 ألف شخص هاجروا من جبل لبنان آنذاك، وفقاً للمرصد.

والموجة الكبيرة الثانية جاءت خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975 -1990)، حيث يقدر الباحث، بول طبر، أعداد المهاجرين في تلك الفترة بحوالي 990 ألف شخص.

ومن الصحيح أن الموجات السابقة رافقت بتوقيتها فترات الحروب، إلا أن الحروب في لبنان لم تكن محركاً أساسياً للهجرة، وإنما الأوضاع الاقتصادية السائدة، فقد شهدت البلاد حروبا عدة لم تؤد إلى تنشيط مفاجئ لحركة الرحيل عن البلاد، والأمر عكسي اليوم، إذ لا تشهد البلاد حرباً أو اختلالاً أمنياً كبيراً.

وحول هذا الأمر يرى المشرف على المرصد، أستاذ السياسات والتخطيط في الجامعة الأميركية في بيروت، ناصر ياسين، أن موجات الهجرة "ترتبط أكثر في العادة بالأوضاع الاقتصادية والفوارق بالدخل بين البلد الأم والبلاد المقصودة للهجرة في الخارج، وبينما يمثل الأمن جزءاً من العوامل الضاغطة، لكن قرار الهجرة يقوم على أسباب اقتصادية بالدرجة الأولى وتردي الخدمات العامة وعدم الشعور بالأمان، إضافة إلى وجود الروابط العائلية والمعارف في الخارج، وهو أمر مساعد يتوفر لمعظم اللبنانيين".

ويتفاقم سوء الأزمة الاقتصادية في لبنان، التي تنعكس على كافة جوانب الحياة، ومعها انهيار كبير لقيمة الرواتب بالعملة المحلية الليرة، حيث بات سعر صرف الدولار الواحد يساوي 20 ألف ليرة لبنانية، في حين أن الحد الأدنى للأجور بات يناهز 30 دولارا في الشهر، مقابل ارتفاع كبير في أسعار السلع والمواد الغذائية تجاوز الـ600 في المئة.

وتعيش البلاد آثارا هامشية لهذه الأزمة، تتمثل بأزمة انقطاع للمحروقات والسلع الرئيسية في البلاد، مثل الأدوية وحليب الأطفال والمستلزمات الطبية، ومعها تتوقف معظم القطاعات عن العمل تدريجياً بسبب صعوبة تأمين حاجاتها وغلاء أسعارها لكون معظم حاجات لبنان يتم استيرادها من الخارج بالعملات الصعبة، وهو ما ينعكس انخفاضاً في الاستهلاك وكساداً في الأسواق، وارتفاعاً في نسب البطالة التي تجاوزت عتبة الـ40 في المئة، وفقاً لتقارير الأمم المتحدة، فيما تجاوز معدل الفقر نصف السكان.

ويرى المرصد أن الهجرات الجماعية تشهدها البلدان التي تعيش أزمات اقتصادية عميقة، إذ تُشكل الأزمات عوامل ضاغطة على السكان للرحيل بحثاً عن أمن وأمان وسبل العيش.

ويستشهد المرصد بنموذج فنزويلا، التي صنفت حالياً بين أزمات النزوح العالمية من قبل المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، حيث يُقدر أعداد المهاجرين القسريين من جراء الأزمة الفنزويلية بحوالي 4 ملايين نسمة هاجروا إلى بلدان مجاورة من جراء التدهور الاقتصادي والمعيشي في بلدهم.

وكذلك الحال في زيمبابوي، حيث يُقدر عدد المهاجرين منها إلى جنوب أفريقيا بسبب الأزمة الاقتصادية والمعيشية الضاربة منذ التسعينيات بحوالي 3 ملايين نسمة.

والأمر نفسه شهدته اليونان عبر هجرة كبيرة جراء أزمتها الاقتصادية العميقة، بلغ حجمها 397 ألف نسمة، في سنوات قليلة بين 2010 و2013، فيما تدل المؤشرات على أن لبنان سيشهد نموذجاً مماثلاً.

مؤشرات مقلقة

ويعرض المرصد ثلاثة مؤشرات مقلقة في لبنان، فيما يتعلق بدخوله موجة هجرة جماعية من المتوقع أن تمتد لسنوات: "أولًا: ارتفاع فرص الهجرة عند الشباب اللبناني، حيث أشار 77 في المئة منهم إلى تفكيرهم بالهجرة والسعي إليها، وهذه النسبة هي الأعلى بين كل البلدان العربية، بحسب تقرير "استطلاع رأي الشباب العربي" الصادر العام الماضي.

ويلفت التقرير إلى أن "السعي للهجرة عند الأكثرية الساحقة من الشباب اللبناني نتيجة طبيعية لانحسار فرص العمل الكريم، حيث يُقدر البنك الدولي أن شخصاً من كل خمسة فقد وظيفته منذ خريف 2019، وأن 61 في المئة من الشركات في لبنان قلصت موظفيها الثابتين بمعدل 43 في المئة.

ويمثل هذا المؤشر قلقاً خاصاً بحسب ياسين، "لكون لبنان يخسر رأس مال بشري سوف يكون بحاجة ماسة له في حال انطلق بمسار التعافي في المرحلة المقبلة".

المؤشر الثاني الذي اعتمده المرصد يتمثل في "الهجرة الكثيفة للمتخصصين والمهنيين، خاصة من العاملين والعاملات في القطاع الصحي من أطباء وممرضين، وفي القطاع التعليمي من أساتذة جامعيين ومدرسيين بحثًا عن ظروف عمل ودخل أفضل".

وكانت نقابة الممرضات والممرضين رصدت هجرة 1600 ممرض وممرضة منذ عام 2019، وكذلك أفراد الجسم التعليمي الذي هاجر المئات منهم إلى دول الخليج وأميركا الشمالية، ففي الجامعة الأميركية في بيروت وحدها سُجل خلال عام رحيل ١٩٠ أستاذا يشكلون حوالي 15 في المئة من الجسم التعليمي، وفق ما يؤكده المرصد.

وسينعكس هذا المؤشر على لبنان لأمد طويل، وفق ما يرى ياسين، إذ "سيفقده العنصر الإبداعي والمهني القادر على إدارة القطاعات والنهوض فيها، كما سيحرم هذه القطاعات من ميزاتها وتقدمها الذي يمثل العنصر البشري أساساً فيه".

ويضيف "قد نصل إلى خسارة قطاعات أساسية تمثل الرافعة الاقتصادية للبلاد مثل القطاع الصحي والمصرفي والتعليمي والتكنولوجي، كذلك بالنسبة إلى الخريجين الجدد الذين يرحلون بحثا عن فرص في الخارج بعد انعدامها داخليا، وهؤلاء هم محركو الاقتصاد".

ويرى ياسين في حديثه لموقع "الحرة" أنه "بعد الكفاءات يأتي الميسورون وأصحاب الأعمال الذين يهربون بعائلاتهم ومصالحهم إلى الخارج للحصول على استقرار وأمان، وانتهاء عند فئة الشباب العاطل عن العمل والمضغوط بسبب انخفاض الرواتب، وهؤلاء يمثلون حاجة البلاد لبناء الاقتصاد والمجتمع مستقبلاً، وهو ما سيفقده لبنان وسيكون تأثيره واضحاً".

و"لهذا المؤشر تداعيات وتأثير سياسي أيضاً"، وفق ياسين، "فالطبقة الوسطى وفئة الشباب هم محرك التغيير الديمقراطي الإيجابي في أي مكان من العالم، وهجرة هذه الفئات ستؤثر في القدرة على إحداث التغيير السياسي المنشود في لبنان".

أما ثالث المؤشرات التي اعتمدها التقرير فكان "توقع طول أمد الأزمة اللبنانية"، فالبنك الدولي يُقدر أن لبنان يحتاج، بأحسن الأحوال، إلى 12 عاماً ليعود إلى مستويات الناتج المحلي التي سجلت عام 2017، وبأسوأ الأحوال إلى 19 عاماً.

من لا يرحل.. يستعد

ويضيف التقرير: "مع غياب القرار السياسي بمقاربة جدية للأزمة اللبنانية، مما يوشي بتعمد الانهيار، فمن غير المستبعد أن تتلاشى مؤسسات الدولة أكثر وأكثر وتسقط في دوامة مميتة تمتد لعقدين من الزمن، مما سيشكل عاملًا ضاغطًا على مئات الآلاف للرحيل عن وطنهم سعيًا للاستثمار والعمل والدراسة والتقاعد".

وإذا أضفنا إلى هذه المؤشرات الثلاثة "المحلية" عاملًا آخرا هو الحاجة المتزايدة إلى يد عاملة وأصحاب اختصاص وفئات شابة في عدد كبير من الدول الأكثر تقدماً في العالم، التي تشهد انخفاضًا في معدلات النمو السكاني وزيادة في نسبة المسنين، فيمكننا توقع موجة كبيرة من هجرة اللبنانيين خلال الأعوام المقبلة.

ويمكن اليوم رصد استعدادات اللبنانيين للرحيل من خلال الازدحام الحاصل عند مكاتب الأمن العام اللبناني، التي أظهرت إحصاءاته أن عدد جوازات السفر المصدرة من مطلع عام 2021 ولغاية نهاية أغسطس بلغ نحو 260 ألف جواز سفر، مقارنة بنحو 142 ألف جواز سفر في الفترة نفسها من عام 2020، أي بزيادة نسبتها 82 في المئة. 

وفئات هذه الجوازات المصدرة من الفئات الأطول زمنياً، أي فئة العشر سنوات والخمس سنوات، على حساب تراجع الفئات ذات المدى الزمني الأقل مثل فئة السنة الواحدة، أو فئة الثلاث سنوات.

وهذا ليس بالضرورة رقماً يشير إلى أعداد المهاجرين، وفق ياسين، وإنما يرصد حجم استعداد اللبنانيين حالياً للرحيل، وتعكس نسبة 77 في المئة من الشباب اللبناني في "استطلاع رأي الشباب العربي" الصادر العام الماضي، حجم احتمال الهجرة عند الشباب اللبناني، وهي أكبر نسبة في كل دول العالم العربي، حتى تلك التي تشهد صراعات وعنف مثل العراق وليبيا.

ويختم المرصد تقريره معتبراً "أن تأثيرات موجة الهجرة الثالثة المتوقعة ستكون وخيمة عبر خسارة يصعب تعويضها للرأسمال البشري اللبناني، وهو المدماك الأساس في إعادة بناء الدولة والمجتمع والاقتصاد.. لطالما شكلت نجاحات اللبنانيين في دول الاغتراب مادة في بناء سردية "اللبناني الشاطر" لكنها تُستّر الجانب المظلم من مجاعات وحروب ودمار في بلدهم الأم".

التصعيد في جنوب لبنان دفع بأكثر من 55 ألف شخص للنزوح
التصعيد في جنوب لبنان دفع بأكثر من 55 ألف شخص للنزوح

قتل ثلاثة أشخاص بينهم عنصران في حزب الله، الجمعة، بقصف إسرائيلي في جنوب لبنان، مع تجدد تبادل إطلاق النار عبر الحدود بين الدولة العبرية والحزب الذي تبنى هجمات ضد أهداف عسكرية إسرائيلية.

وأتى تبادل إطلاق النار على الحدود الإسرائيلية اللبنانية بعد ساعات من انتهاء هدنة استمرت سبعة أيام بين إسرائيل وحركة حماس في قطاع غزة.

وأكد حزب الله في بيانين منفصلين مقتل اثنين من مسلحيه في القصف الإسرائيلي.

وبدأ التصعيد بين الطرفين عقب اندلاع حرب غزة في السابع من أكتوبر.

وكانت الوكالة الوطنية للإعلام في لبنان أفادت في وقت سابق  بمقتل "مدنيين اثنين" في بلدة حولا، بعد استهداف منزلهما.

ولاحقا، أفادت الوكالة بمقتل شخص ثالث في قصف إسرائيلي على منزل في بلدة الجبين بجنوب البلاد، دون أن تحدد ما إذا كان مدنيا أو مسلحا.

وأضافت أن "قصفا معاديا" استهدف مناطق عدة في جنوب لبنان.

وأعلن حزب الله، بعد ظهر الجمعة، شنّ هجمات على مواقع إسرائيلية حدودية، في عمليات هي الأولى منذ انتهاء الهدنة بين الدولة العبرية وحركة حماس.

وأكد مسؤول محلي وفرق إسعاف هذه الحصيلة لوكالة فرانس برس.

وقال رئيس بلدية حولا شكيب قطيش لوكالة فرانس برس إن القتيلين "طبعا مدنيان... هما مزارعان. لم يكونوا مسلّحين ولا يضربان راجمات" صواريخ.

وكان حزب الله أعلن في بيان استهداف تجمع للجنود الإسرائيليين في محيط موقع جل العلام، وهو موقع إسرائيلي على الحدود مع منطقة الناقورة في جنوب لبنان.

وفي بيانات منفصلة، تبنى حزب الله أيضا أربع هجمات أخرى، بما في ذلك استهداف جنود وثكنات حدودية.

من جهته، قال الجيش الإسرائيلي إنه قصف "خلية إرهابية" و"اعترض عمليتَي إطلاق" صواريخ من لبنان، مضيفا أن "نيران المدفعية أصابت المواقع" التي نفّذت منها الهجمات.

وتبادلت إسرائيل وحزب الله القصف عبر الحدود بشكل يومي في أعقاب اندلاع الحرب بين إسرائيل وحماس في غزة. 

إلا أن الهدوء خيّم في المنطقة الحدودية في جنوب لبنان، منذ 24 نوفمبر، مع بدء سريان اتفاق الهدنة بين إسرائيل وحماس في غزة.

وفي لبنان، خلّفت عمليات تبادل إطلاق أكثر من 110 قتلى، معظمهم مسلحون من حزب الله وعدد من المدنيين، من بينهم ثلاثة صحفيين، وفق إحصاء لوكالة فرانس برس. وقُتل ستة جنود إسرائيليين وثلاثة مدنيين على الأقل في إسرائيل في هجمات نفذت من لبنان، بحسب السلطات.