اشتباكات بيروت في 14 أكتوبر أعادت إلى الأذهان الحرب الأهلية التي شهدتها البلاد منذ عقود
اشتباكات بيروت في 14 أكتوبر أعادت إلى الأذهان الحرب الأهلية التي شهدتها البلاد منذ عقود

عاشت العاصمة اللبنانية بيروت، الخميس، خمس ساعات من مرحلة سبعينيات القرن الماضي، التي شهدت اندلاع أحداث الحرب الأهلية اللبنانية.

المميز الوحيد الذي ظل يشير إلى الحاضر في مشاهد اليوم، كان تقنيات التصوير الحديثة التي وثقت ما جرى من اشتباكات وانتشار مسلح وسقوط قتلى وجرحى، وما عدا ذلك فإن كل ما حصل اليوم في بيروت جاء نسخة طبق الأصل عن الحرب الأهلية بكل تفاصيلها. 

من مكان حدوثها، منطقة عين الرمانة – الشياح، وتحديداً دوار الطيونة الذي أعاد إلى الأذهان أحد أبرز وأشهر متاريس الحرب الأهلية وخطوط تماسها، إلى انتشار القناصين الذين حفروا عميقاً في الذاكرة اللبنانية وكانوا من أشهر معالم الحرب، وصولا إلى الهوية الطائفية والحزبية للمتقاتلين التي لا تزال هي نفسها حتى اليوم، وليس انتهاء بالضحايا المدنيين الأبرياء من أبناء المنطقة الذين دفعوا اليوم كما بالأمس الثمن الأكبر في الاشتباك. 

6 قتلى وأكثر من 40 جريحاً، بينهم حالات خطرة، هي الحصيلة الأولية لساعات الاشتباك الخمس. تخللها ترويع أصاب جميع اللبنانيين وطال بشكل خاص أهالي المنطقة الذين حوصروا في منازلهم تحت الرصاص والقذائف، واضطر عدد كبير منهم للنزوح عن منازلهم خوفاً من تمدد الاشتباكات واشتدادها، فيما أغلقت مدارس المنطقة أبوابها بعدما حوصر التلامذة في صفوفهم لساعات قبل أن يتمكن الجيش والدفاع المدني من سحبهم. 

روايات متضاربة

حتى الآن ما من رواية رسمية ونهائية لما حصل، المؤكد أن الإشكال بدأ مع توجه متظاهرين مناصرين لحزب الله وحركة أمل من منطقة الطيونة باتجاه قصر العدل في منطقة العدلية، للمشاركة في اعتصام دعا إليه الحزبان الشيعيان في سياق حملتهما المعارضة لأداء المحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار، مطالبين بتنحيته عن الملف. 

يقول جورج .ش، أحد سكان الحي الذي شهد بداية الاشتباكات، في حديثه لموقع "الحرة" إن "أنصار أمل وحزب الله دخلوا إلى الحي وهم يطلقون شعارات طائفية لاستفزاز أبناء المنطقة، مستغلين ضعف التعزيزات الأمنية عند مدخل هذا الحي لكونه طريقا فرعيا، لا يشهد اشتباكات في العادة وليس مواجها لخط تماس كما هو حال طريق صيدا القديمة، وعلى الفور بادروا إلى إطلاق الحجارة باتجاه المارة وتحطيم ممتلكات وسيارات السكان الذين اندفعوا على الفور إلى الشارع للدفاع عن المنطقة وأملاكهم وحصل الاشتباك لوقت قصير قبل أن يبدأ إطلاق النار بكثافة حيث تفرق الجميع." 

"حركة أمل" و"حزب الله" أصدرا بيانا مشتركاً قالا فيه إن أنصارهم "‏‏تعرضوا لإطلاق نار مباشر من قبل قناصين متواجدين على أسطح البنايات المقابلة، ‏‏تبعه إطلاق نار مكثف كان موجهاً إلى الرؤوس"، متهمين "مجموعات من حزب القوات اللبنانية" بممارسة أعمال القنص هذه، داعين إلى "محاسبة المتورطين والمحرضين وإنزال أشد العقوبات بهم." 

في المقابل رفضت "القوات اللبنانية" الاتهام واصفة إياه بـ"الباطل والمرفوض جملة وتفصيلاً"، وفي بيان لها اعتبرت أن "الغاية من اتهامها، حرف الأنظار عن اجتياح "حزب الله" لهذه المنطقة وسائر المناطق في أوقات سابقة"، مضيفة أن ما حصل جاء نتيجة عملية للشحن الذي بدأه حسن نصرالله منذ أربعة أشهر بالتحريض في خطاباته كلها على المحقق العدلي والدعوة الصريحة والعلنية لكف يده".

وأشار البيان إلى أن التقارير الإعلامية والفيديوهات المنتشرة في مواقع التواصل "تؤكد بالملموس الظهور المسلح بالأر بي جي والرشاشات والدخول إلى الأحياء الآمنة".

حتى رواية الجيش اللبناني للحادثة، أثارت ردود فعل وانقسامات لدى الرأي العام اللبناني، بسبب ما وصف على أنه تباين في الرواية، فبينما كان قد نشر تغريدة قال فيها إنه و"خلال توجه محتجين إلى منطقة العدلية تعرضوا لرشقات نارية في منطقة الطيونة- بدارو" عاد وفي بيان لاحق أشار إلى "وقوع إشكال وتبادل لإطلاق النار في منطقة الطيونة- بدارو، ما أدى إلى مقتل عدد من المواطنين، وأوقف الجيش ٩ أشخاص من الطرفين بينهم سوري الجنسية". 

احتقان سابق

عصام. أ، وهو أحد سكان الحي نفسه الذي شهد الاشتباكات، يؤكد أن كلا طرفي الاشتباك يدعيان أن الأحداث كانت مفاجئة فيما يعلمان أنهما يمارسان التحريض منذ الليلة السابقة للأحداث، "مجموعات الواتساب ومواقع التواصل الاجتماعي كانت تضج بالتحريض والتهديد والوعيد بين الطرفين، وكانت تصلنا رسائل التحريض والدعوات للتنبه والتحضر لما قد يجري صباحاً خلال توقيت التظاهرة." 

يضيف عصام في حديثه لموقع "الحرة"، أن "منذ الأمس والقوى الأمنية تتخذ تدابير استثنائية في المنطقة ويجري تداول معلومات عن إمكانية حصول اشتباك، وقد وجهت دعوات لأبناء المنطقة للتنبه، في المقابل كان أنصار أمل وحزب الله يتوعدون ويعبئون قواعدهم على مواقع التواصل ويتحضرون، عندما وصلوا إلى مدخل الحي بدأوا فورا بإطلاق الشتائم والعبارات الطائفية ورمي الحجارة، وكان هناك مجموعة في المقابل من أنصار حزب القوات وأبناء المنطقة المنتشرين على مداخلها منذ مساء الأمس، اشتبكوا معهم كلاميا ومن ثم بالحجارة والتضارب." 

لم يتمكن عصام من تحديد الجهة التي أطلقت النار في البداية، "كان مشهد اجتياح للحي بكل ما للكلمة من معنى، والناس هنا كانت متأهبة، يمكن أن يكون إطلاق النار قد حصل من أحد السكان أو أبناء المنطقة أو المحازبين فيها، ويمكن أن يكون من الطرف الآخر، كما يحكى عن قناصين، قد يكون طابوراً خامساً، لكن المؤكد أن الرد بالنار جاء بالوقت نفسه أيضاً وسرعان ما ظهر السلاح وتحول الجميع إلى مسلحين، وكان إطلاق النار يتم من الاتجاهين."

وكانت الليلة السابقة لهذه الأحداث قد شهدت تعبئة طائفية حادة في كلا الشارعين الشيعي والمسيحي، حيث رافقت دعوات حركة أمل وحزب الله للتظاهر مسيرات سيارة وتجمعات منددة بالقاضي طارق البيطار جابت شوارع الضاحية الجنوبية ورفعت شعارات داعمة ومؤيدة لكل من الوزير علي حسن خليل والنائب والوزير السابق غازي زعيتر المنتميين إلى حركة أمل والمتهمين بالإهمال الوظيفي الذي كان سبباً من أسباب انفجار المرفأ. 


كذلك شهدت مناطق عين الرمانة وفرن الشباك والأشرفية تحركات ليلية واستنفارات كان أبرزها رفع "صلبان مشطوبة"، وهي من رموز الميليشيات المسيحية خلال مرحلة الحرب الأهلية، في منطقة الأشرفية دعما للقاضي بيطار. 


انعكاسات لانفجار المرفأ 

وكان كل من حزب الله وحركة أمل قد أطلقوا حملة إعلامية قضائية وسياسية بوجه القاضي طارق البيطار الذي يتولى التحقيقات في ملف انفجار مرفأ بيروت، تتهمه بـ "الاستنسابية وتسييس التحقيقات"، وصلت إلى حد توجيه تهديدات مباشرة له، وتوعد علني بإزاحته عن التحقيقات اعتراضاً على استدعائه وزراء سابقين وأمنيين محسوبين على حلفاء حزب الله (حركة أمل وتيار المردة) لاستجوابهم بداعي الإهمال الوظيفي الذي أدى إلى انفجار المواد الكيميائية في المرفأ، متهمين البيطار باستهداف فريق سياسي واحد في تحقيقاته.

ويرى الكاتب والمحلل السياسي وجدي العريضي أن "ما حصل اليوم يصب في خانة الاحتقان السياسي السائد في البلد، على خلفية التحقيقات في انفجار مرفأ بيروت وبالتالي فإن تفجير مرفأ بيروت أدى إلى تفجير الساحات السياسية والقضائية واليوم الساحة الأمنية، وهناك مخاوف من أن تتفاقم الأوضاع مع التفلت الأمني الذي نشهده في الشارع المفتوح على كافة الاحتمالات نظرا لدقة الوضع ومخاطره. "

ويضيف العريضي في حديثه لـ"الحرة" أن "محاولات إسقاط أو إبعاد القاضي طارق البيطار عن التحقيق كان السبب الأبرز في الوصول إلى ما وصلنا إليه اليوم، وهناك مجموعة عوامل سياسية أدت إلى هذا الغرق منها الانقسام السياسي الحاد وسعي معظم الأطراف إلى تطيير الاستحقاقات الدستورية والانتخابية والوصول بالشارع إلى حالة الغليان." 

من جهته يرى المحلل والكاتب السياسي جورج شاهين أن "الهدف من كل ما جرى اليوم هو لإيقاف التحقيقات بقضية انفجار مرفأ بيروت، وأبعد من ذلك كان الهدف التشويش على زيارة نائبة وزير الخارجية الأميركية فيكتوريا نولاند إلى لبنان، حتى توقيت التحرك كان مدروساً خلال انتقالها من قصر بعبدا إلى عين التينة، والهدف استعراض الثنائي الشيعي لقوتهم، من أجل اقتلاع القاضي بيطار بثمن أمني." 

في المقابل يؤكد الصحافي والمحلل السياسي غسان جواد، أن "الهدف من التحرك الشعبي هو الاعتراض على أداء القاضي طارق البيطار وكان يمكن أن يمر هذا اليوم بشكل طبيعي، حيث جرى التحضير من أجل تسليم مجموعة من المحامين والقضاة مذكرة احتجاج قضائية، بطريقة حضارية وقانونية، لكن الكمين الذي استهدف المحتجين دفع إلى هذا التوتر الذي نتج عنه ردود فعل جاءت على شكل إحضار سلاح والرد بالنار على إطلاق النار الذي تعرضوا له." 

ويتابع جواد في اتصال مع موقع "الحرة" أن كل الأحزاب في لبنان تملك سلاحاً "وليس مستغرباً ظهور السلاح في بيئة المقاومة المعروف امتلاكها للسلاح علناً، لكن المستغرب كان ظهور القناصين واستخدام السلاح من قبل الطرف الآخر الذي يحاضر يومياً بمعارضته للسلاح ورفضه له فيما أظهر اليوم العكس." 

يجزم جواد أنه لا يمكن اليوم الحديث عن أي أمر مقبل في البلاد، "قبل أن تقوم الدولة بأجهزتها الأمنية والقضائية بتوقيف ومحاسبة المعتدين ومطلقي النار على المتظاهرين، وإلا فلا حكومة ولا تسيير لشؤون البلاد قبل حل هذا الملف، وإن لم تعالجه الدولة وتضرب بيد من حديد، ستتجه البلاد إلى مزيد من الفوضى التي قد تترجم بالشكل الذي رأيناه اليوم كأحداث أمنية متنقلة ومتقطعة." 

ما سر قلق حزب الله؟

يرى شاهين أن ما جرى اليوم كان توزيع أدوار مكشوف "الاعتصام النخبوي كان أمام قصر العدل إلا أن استعراض القوة جرى عند مستديرة الطيونة. " ويضيف "القاضي بيطار طال باستدعاءاته نواباً ووزراء تابعين لحركة أمل ولم يطل أيا من نواب أو ممثلي حزب الله، وبالتالي السؤال هنا ما علاقة حزب الله وما سر قلقه وقلق أمينه العام من التحقيقات وما سبب تكثيف الإطلالات الإعلامية التي تستهدف القاضي بيطار بعدما كانت استهدافاته تطال زعماء من الصف الأول عالميا؟ لماذا يتوجس حزب الله مما وصل إليه المحقق العدلي من معطيات؟ وهل وصل القاضي بيطار لدور ما لعبه حزب الله في قضية نيترات المرفأ حتى يتخذ هذا الموقف الحاد من القاضي إلى حد التهديد بالأمن والشارع؟"

ويتابع شاهين "الثنائي الشيعي يتدرج في المواقف، من تهديدات وفيق صفا  للقاضي بيطار في قصر العدل وهو ما لم ينفيه حزب الله بل عمل على أساسه وأكده لاحقاً خلال إطلالات الأمين العام للحزب حسن نصرالله التي هاجم خلالها البيطار بوضوح ودعا لوقف عمله."

"ثم تدرج الموقف إلى دخول المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى على الخط بمواقف متطرفة لم تكن معهودة خاصة بعد تصريحات المفتي أحمد قبلان وما قاله من كلام لا يجرؤ اليوم سياسي على قوله، ثم فضيحة مجلس الوزراء التي حاول فيها الثنائي الشيعي دفع الحكومة لمخالفة القانون والدستور والتدخل في عمل السلطة القضائية وصولا إلى ما ترجم اليوم على شكل أحداث أمنية قادها مناصرو الثنائي. أجواء التحدي التي شهدناها وفائض القوة التي يتعامل بها حزب الله مع ملف انفجار المرفأ أدت إلى أحداث اليوم." على حد قول شاهين. 

ويضيف "حتى الآن ليس هناك ما يوحي بأن ما جرى اليوم أكثر من حادث وردود فعل، ولا أعتقد أن الأمور ستتجه إلى فلتان أكبر إلا إذا كان الهدف إبعاد البيطار مهما كلف الثمن، وهو ما قد لا يتحقق بسهولة."

في المقابل يؤكد جواد أنه "ليس لحزب الله أي مصلحة في خلق توتير زمني في البلاد، فهو يرى أن أي ضرب لأمن واستقرار لبنان هو ضد أهدافه الاستراتيجية وتعرقل تحركاته، وبالتالي ينظر إلى ضرب الاستقرار في لبنان استهدافا مباشرا له لن يسمح به، وتجربة المقاومة الفلسطينية ماثلة أمامه ويستفيد منها، إلا أنه لا يمكن تمرير ما حصل اليوم ورفع التوتر دون محاسبة المرتكبين."

تصعيد سياسي 

يتوقع العريضي "أن تحمل المرحلة المقبلة تصعيدا سياسيا سيحدد شكل المواجهة القادمة، لا سيما مع ارتفاع عدد القتلى، اليوم يمكننا القول أن لبنان دخل مرحلة تغييرية على مستوى بنيته السياسية والأمنية دون أن نغفل ردود الفعل الدولية التي رافقت الأحداث إن على الصعيد الأوروبي أو الأميركي والجامعة العربية."

ويختم حديثه مؤكداً أن "لبنان يعيش مرحلة مفصلية، كل الأطراف اللبنانية لديها سلاح وبالتالي الشحن السياسي من جميع الأطراف يدفع الأنصار والمحازبين لحمل السلاح وبعد كل ما جرى اليوم، قد نحتاج إلى تسوية كبيرة ومؤتمر وطني لتجاوز هذه الأحداث."

صورة تعبيرية لأحد المباني المدمرة في لبنان جرّاء الغارات الإسرائيلية - فرانس برس
صورة تعبيرية لأحد المباني المدمرة في لبنان جرّاء الغارات الإسرائيلية - فرانس برس

قالت وزارة الصحة اللبنانية، الاثنين، إن 10 رجال إطفاء قُتلوا في غارة إسرائيلية استهدفت مبنى اتحاد بلديات بنت جبيل في بلدة برعشيت جنوب لبنان.

وأضاف مركز عمليات طوارئ الصحة العامة التابع للوزارة، أن رجال الإطفاء كانوا داخل المبنى التابع للدفاع المدني، يستعدون للانطلاق نحو مهامهم الإنقاذية.

وتابع البيان "لا يزال رفع الأنقاض مستمرا من المبنى الذي تعرض لدمار كبير".

وقال رئيس اتحاد بلديات بنت جبيل رضا عاشور لوكالة فرانس برس، إن "غارة إسرائيلية استهدفت ليلاً مركزا لفوج إطفاء تابعاً للاتحاد في بلدة برعشيت، تواجد عشرة عناصر فيه"، وجرى "انتشال جثث ثمانية منهم حتى الآن".

بذلك يتخطى عدد المسعفين وعمّال الإنقاذ الذين قتلوا منذ بدء التصعيد بين حزب الله وإسرائيل 115 عنصراً، استنادا إلى بيانات رسمية نقلتها فرانس برس.