اشتباكات بيروت في 14 أكتوبر أعادت إلى الأذهان الحرب الأهلية التي شهدتها البلاد منذ عقود
اشتباكات بيروت في 14 أكتوبر أعادت إلى الأذهان الحرب الأهلية التي شهدتها البلاد منذ عقود

عاشت العاصمة اللبنانية بيروت، الخميس، خمس ساعات من مرحلة سبعينيات القرن الماضي، التي شهدت اندلاع أحداث الحرب الأهلية اللبنانية.

المميز الوحيد الذي ظل يشير إلى الحاضر في مشاهد اليوم، كان تقنيات التصوير الحديثة التي وثقت ما جرى من اشتباكات وانتشار مسلح وسقوط قتلى وجرحى، وما عدا ذلك فإن كل ما حصل اليوم في بيروت جاء نسخة طبق الأصل عن الحرب الأهلية بكل تفاصيلها. 

من مكان حدوثها، منطقة عين الرمانة – الشياح، وتحديداً دوار الطيونة الذي أعاد إلى الأذهان أحد أبرز وأشهر متاريس الحرب الأهلية وخطوط تماسها، إلى انتشار القناصين الذين حفروا عميقاً في الذاكرة اللبنانية وكانوا من أشهر معالم الحرب، وصولا إلى الهوية الطائفية والحزبية للمتقاتلين التي لا تزال هي نفسها حتى اليوم، وليس انتهاء بالضحايا المدنيين الأبرياء من أبناء المنطقة الذين دفعوا اليوم كما بالأمس الثمن الأكبر في الاشتباك. 

6 قتلى وأكثر من 40 جريحاً، بينهم حالات خطرة، هي الحصيلة الأولية لساعات الاشتباك الخمس. تخللها ترويع أصاب جميع اللبنانيين وطال بشكل خاص أهالي المنطقة الذين حوصروا في منازلهم تحت الرصاص والقذائف، واضطر عدد كبير منهم للنزوح عن منازلهم خوفاً من تمدد الاشتباكات واشتدادها، فيما أغلقت مدارس المنطقة أبوابها بعدما حوصر التلامذة في صفوفهم لساعات قبل أن يتمكن الجيش والدفاع المدني من سحبهم. 

روايات متضاربة

حتى الآن ما من رواية رسمية ونهائية لما حصل، المؤكد أن الإشكال بدأ مع توجه متظاهرين مناصرين لحزب الله وحركة أمل من منطقة الطيونة باتجاه قصر العدل في منطقة العدلية، للمشاركة في اعتصام دعا إليه الحزبان الشيعيان في سياق حملتهما المعارضة لأداء المحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار، مطالبين بتنحيته عن الملف. 

يقول جورج .ش، أحد سكان الحي الذي شهد بداية الاشتباكات، في حديثه لموقع "الحرة" إن "أنصار أمل وحزب الله دخلوا إلى الحي وهم يطلقون شعارات طائفية لاستفزاز أبناء المنطقة، مستغلين ضعف التعزيزات الأمنية عند مدخل هذا الحي لكونه طريقا فرعيا، لا يشهد اشتباكات في العادة وليس مواجها لخط تماس كما هو حال طريق صيدا القديمة، وعلى الفور بادروا إلى إطلاق الحجارة باتجاه المارة وتحطيم ممتلكات وسيارات السكان الذين اندفعوا على الفور إلى الشارع للدفاع عن المنطقة وأملاكهم وحصل الاشتباك لوقت قصير قبل أن يبدأ إطلاق النار بكثافة حيث تفرق الجميع." 

"حركة أمل" و"حزب الله" أصدرا بيانا مشتركاً قالا فيه إن أنصارهم "‏‏تعرضوا لإطلاق نار مباشر من قبل قناصين متواجدين على أسطح البنايات المقابلة، ‏‏تبعه إطلاق نار مكثف كان موجهاً إلى الرؤوس"، متهمين "مجموعات من حزب القوات اللبنانية" بممارسة أعمال القنص هذه، داعين إلى "محاسبة المتورطين والمحرضين وإنزال أشد العقوبات بهم." 

في المقابل رفضت "القوات اللبنانية" الاتهام واصفة إياه بـ"الباطل والمرفوض جملة وتفصيلاً"، وفي بيان لها اعتبرت أن "الغاية من اتهامها، حرف الأنظار عن اجتياح "حزب الله" لهذه المنطقة وسائر المناطق في أوقات سابقة"، مضيفة أن ما حصل جاء نتيجة عملية للشحن الذي بدأه حسن نصرالله منذ أربعة أشهر بالتحريض في خطاباته كلها على المحقق العدلي والدعوة الصريحة والعلنية لكف يده".

وأشار البيان إلى أن التقارير الإعلامية والفيديوهات المنتشرة في مواقع التواصل "تؤكد بالملموس الظهور المسلح بالأر بي جي والرشاشات والدخول إلى الأحياء الآمنة".

حتى رواية الجيش اللبناني للحادثة، أثارت ردود فعل وانقسامات لدى الرأي العام اللبناني، بسبب ما وصف على أنه تباين في الرواية، فبينما كان قد نشر تغريدة قال فيها إنه و"خلال توجه محتجين إلى منطقة العدلية تعرضوا لرشقات نارية في منطقة الطيونة- بدارو" عاد وفي بيان لاحق أشار إلى "وقوع إشكال وتبادل لإطلاق النار في منطقة الطيونة- بدارو، ما أدى إلى مقتل عدد من المواطنين، وأوقف الجيش ٩ أشخاص من الطرفين بينهم سوري الجنسية". 

احتقان سابق

عصام. أ، وهو أحد سكان الحي نفسه الذي شهد الاشتباكات، يؤكد أن كلا طرفي الاشتباك يدعيان أن الأحداث كانت مفاجئة فيما يعلمان أنهما يمارسان التحريض منذ الليلة السابقة للأحداث، "مجموعات الواتساب ومواقع التواصل الاجتماعي كانت تضج بالتحريض والتهديد والوعيد بين الطرفين، وكانت تصلنا رسائل التحريض والدعوات للتنبه والتحضر لما قد يجري صباحاً خلال توقيت التظاهرة." 

يضيف عصام في حديثه لموقع "الحرة"، أن "منذ الأمس والقوى الأمنية تتخذ تدابير استثنائية في المنطقة ويجري تداول معلومات عن إمكانية حصول اشتباك، وقد وجهت دعوات لأبناء المنطقة للتنبه، في المقابل كان أنصار أمل وحزب الله يتوعدون ويعبئون قواعدهم على مواقع التواصل ويتحضرون، عندما وصلوا إلى مدخل الحي بدأوا فورا بإطلاق الشتائم والعبارات الطائفية ورمي الحجارة، وكان هناك مجموعة في المقابل من أنصار حزب القوات وأبناء المنطقة المنتشرين على مداخلها منذ مساء الأمس، اشتبكوا معهم كلاميا ومن ثم بالحجارة والتضارب." 

لم يتمكن عصام من تحديد الجهة التي أطلقت النار في البداية، "كان مشهد اجتياح للحي بكل ما للكلمة من معنى، والناس هنا كانت متأهبة، يمكن أن يكون إطلاق النار قد حصل من أحد السكان أو أبناء المنطقة أو المحازبين فيها، ويمكن أن يكون من الطرف الآخر، كما يحكى عن قناصين، قد يكون طابوراً خامساً، لكن المؤكد أن الرد بالنار جاء بالوقت نفسه أيضاً وسرعان ما ظهر السلاح وتحول الجميع إلى مسلحين، وكان إطلاق النار يتم من الاتجاهين."

وكانت الليلة السابقة لهذه الأحداث قد شهدت تعبئة طائفية حادة في كلا الشارعين الشيعي والمسيحي، حيث رافقت دعوات حركة أمل وحزب الله للتظاهر مسيرات سيارة وتجمعات منددة بالقاضي طارق البيطار جابت شوارع الضاحية الجنوبية ورفعت شعارات داعمة ومؤيدة لكل من الوزير علي حسن خليل والنائب والوزير السابق غازي زعيتر المنتميين إلى حركة أمل والمتهمين بالإهمال الوظيفي الذي كان سبباً من أسباب انفجار المرفأ. 


كذلك شهدت مناطق عين الرمانة وفرن الشباك والأشرفية تحركات ليلية واستنفارات كان أبرزها رفع "صلبان مشطوبة"، وهي من رموز الميليشيات المسيحية خلال مرحلة الحرب الأهلية، في منطقة الأشرفية دعما للقاضي بيطار. 


انعكاسات لانفجار المرفأ 

وكان كل من حزب الله وحركة أمل قد أطلقوا حملة إعلامية قضائية وسياسية بوجه القاضي طارق البيطار الذي يتولى التحقيقات في ملف انفجار مرفأ بيروت، تتهمه بـ "الاستنسابية وتسييس التحقيقات"، وصلت إلى حد توجيه تهديدات مباشرة له، وتوعد علني بإزاحته عن التحقيقات اعتراضاً على استدعائه وزراء سابقين وأمنيين محسوبين على حلفاء حزب الله (حركة أمل وتيار المردة) لاستجوابهم بداعي الإهمال الوظيفي الذي أدى إلى انفجار المواد الكيميائية في المرفأ، متهمين البيطار باستهداف فريق سياسي واحد في تحقيقاته.

ويرى الكاتب والمحلل السياسي وجدي العريضي أن "ما حصل اليوم يصب في خانة الاحتقان السياسي السائد في البلد، على خلفية التحقيقات في انفجار مرفأ بيروت وبالتالي فإن تفجير مرفأ بيروت أدى إلى تفجير الساحات السياسية والقضائية واليوم الساحة الأمنية، وهناك مخاوف من أن تتفاقم الأوضاع مع التفلت الأمني الذي نشهده في الشارع المفتوح على كافة الاحتمالات نظرا لدقة الوضع ومخاطره. "

ويضيف العريضي في حديثه لـ"الحرة" أن "محاولات إسقاط أو إبعاد القاضي طارق البيطار عن التحقيق كان السبب الأبرز في الوصول إلى ما وصلنا إليه اليوم، وهناك مجموعة عوامل سياسية أدت إلى هذا الغرق منها الانقسام السياسي الحاد وسعي معظم الأطراف إلى تطيير الاستحقاقات الدستورية والانتخابية والوصول بالشارع إلى حالة الغليان." 

من جهته يرى المحلل والكاتب السياسي جورج شاهين أن "الهدف من كل ما جرى اليوم هو لإيقاف التحقيقات بقضية انفجار مرفأ بيروت، وأبعد من ذلك كان الهدف التشويش على زيارة نائبة وزير الخارجية الأميركية فيكتوريا نولاند إلى لبنان، حتى توقيت التحرك كان مدروساً خلال انتقالها من قصر بعبدا إلى عين التينة، والهدف استعراض الثنائي الشيعي لقوتهم، من أجل اقتلاع القاضي بيطار بثمن أمني." 

في المقابل يؤكد الصحافي والمحلل السياسي غسان جواد، أن "الهدف من التحرك الشعبي هو الاعتراض على أداء القاضي طارق البيطار وكان يمكن أن يمر هذا اليوم بشكل طبيعي، حيث جرى التحضير من أجل تسليم مجموعة من المحامين والقضاة مذكرة احتجاج قضائية، بطريقة حضارية وقانونية، لكن الكمين الذي استهدف المحتجين دفع إلى هذا التوتر الذي نتج عنه ردود فعل جاءت على شكل إحضار سلاح والرد بالنار على إطلاق النار الذي تعرضوا له." 

ويتابع جواد في اتصال مع موقع "الحرة" أن كل الأحزاب في لبنان تملك سلاحاً "وليس مستغرباً ظهور السلاح في بيئة المقاومة المعروف امتلاكها للسلاح علناً، لكن المستغرب كان ظهور القناصين واستخدام السلاح من قبل الطرف الآخر الذي يحاضر يومياً بمعارضته للسلاح ورفضه له فيما أظهر اليوم العكس." 

يجزم جواد أنه لا يمكن اليوم الحديث عن أي أمر مقبل في البلاد، "قبل أن تقوم الدولة بأجهزتها الأمنية والقضائية بتوقيف ومحاسبة المعتدين ومطلقي النار على المتظاهرين، وإلا فلا حكومة ولا تسيير لشؤون البلاد قبل حل هذا الملف، وإن لم تعالجه الدولة وتضرب بيد من حديد، ستتجه البلاد إلى مزيد من الفوضى التي قد تترجم بالشكل الذي رأيناه اليوم كأحداث أمنية متنقلة ومتقطعة." 

ما سر قلق حزب الله؟

يرى شاهين أن ما جرى اليوم كان توزيع أدوار مكشوف "الاعتصام النخبوي كان أمام قصر العدل إلا أن استعراض القوة جرى عند مستديرة الطيونة. " ويضيف "القاضي بيطار طال باستدعاءاته نواباً ووزراء تابعين لحركة أمل ولم يطل أيا من نواب أو ممثلي حزب الله، وبالتالي السؤال هنا ما علاقة حزب الله وما سر قلقه وقلق أمينه العام من التحقيقات وما سبب تكثيف الإطلالات الإعلامية التي تستهدف القاضي بيطار بعدما كانت استهدافاته تطال زعماء من الصف الأول عالميا؟ لماذا يتوجس حزب الله مما وصل إليه المحقق العدلي من معطيات؟ وهل وصل القاضي بيطار لدور ما لعبه حزب الله في قضية نيترات المرفأ حتى يتخذ هذا الموقف الحاد من القاضي إلى حد التهديد بالأمن والشارع؟"

ويتابع شاهين "الثنائي الشيعي يتدرج في المواقف، من تهديدات وفيق صفا  للقاضي بيطار في قصر العدل وهو ما لم ينفيه حزب الله بل عمل على أساسه وأكده لاحقاً خلال إطلالات الأمين العام للحزب حسن نصرالله التي هاجم خلالها البيطار بوضوح ودعا لوقف عمله."

"ثم تدرج الموقف إلى دخول المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى على الخط بمواقف متطرفة لم تكن معهودة خاصة بعد تصريحات المفتي أحمد قبلان وما قاله من كلام لا يجرؤ اليوم سياسي على قوله، ثم فضيحة مجلس الوزراء التي حاول فيها الثنائي الشيعي دفع الحكومة لمخالفة القانون والدستور والتدخل في عمل السلطة القضائية وصولا إلى ما ترجم اليوم على شكل أحداث أمنية قادها مناصرو الثنائي. أجواء التحدي التي شهدناها وفائض القوة التي يتعامل بها حزب الله مع ملف انفجار المرفأ أدت إلى أحداث اليوم." على حد قول شاهين. 

ويضيف "حتى الآن ليس هناك ما يوحي بأن ما جرى اليوم أكثر من حادث وردود فعل، ولا أعتقد أن الأمور ستتجه إلى فلتان أكبر إلا إذا كان الهدف إبعاد البيطار مهما كلف الثمن، وهو ما قد لا يتحقق بسهولة."

في المقابل يؤكد جواد أنه "ليس لحزب الله أي مصلحة في خلق توتير زمني في البلاد، فهو يرى أن أي ضرب لأمن واستقرار لبنان هو ضد أهدافه الاستراتيجية وتعرقل تحركاته، وبالتالي ينظر إلى ضرب الاستقرار في لبنان استهدافا مباشرا له لن يسمح به، وتجربة المقاومة الفلسطينية ماثلة أمامه ويستفيد منها، إلا أنه لا يمكن تمرير ما حصل اليوم ورفع التوتر دون محاسبة المرتكبين."

تصعيد سياسي 

يتوقع العريضي "أن تحمل المرحلة المقبلة تصعيدا سياسيا سيحدد شكل المواجهة القادمة، لا سيما مع ارتفاع عدد القتلى، اليوم يمكننا القول أن لبنان دخل مرحلة تغييرية على مستوى بنيته السياسية والأمنية دون أن نغفل ردود الفعل الدولية التي رافقت الأحداث إن على الصعيد الأوروبي أو الأميركي والجامعة العربية."

ويختم حديثه مؤكداً أن "لبنان يعيش مرحلة مفصلية، كل الأطراف اللبنانية لديها سلاح وبالتالي الشحن السياسي من جميع الأطراف يدفع الأنصار والمحازبين لحمل السلاح وبعد كل ما جرى اليوم، قد نحتاج إلى تسوية كبيرة ومؤتمر وطني لتجاوز هذه الأحداث."

القصير

في 23 من شهر يناير اجتمع مسؤولون عسكريون من سوريا ولبنان للمرة الأولى بعد سقوط نظام بشار الأسد. وناقشوا حينها مسألة "ضبط الحدود السورية-اللبنانية" والإجراءات الأمنية المتعلقة بهذه الخطوة.

وبعد أسبوعين فقط من هذا اللقاء، اشتعلت الحدود السورية بعد حملة أمنية شنتها قوات الإدارة الجديدة في دمشق، بهدف ملاحقة "عصابات تهريب السلاح والمخدرات".

لم يتم تسليط الأضواء على هذا الاجتماع الذي حضره رئيس هيئة الأركان في سوريا، اللواء علي النعسان، ومدير مكتب التعاون والتنسيق في الجيش اللبناني، العميد ميشيل بطرس. ونشرت عنه وكالة "سانا" الرسمية.

ورغم أن تفاصيله ومخرجاته بقيت طي الكتمان، يثير التوقيت وما شهدته الحدود السورية-اللبنانية بعد ذلك عدة تساؤلات، تتعلق بما إذا كان ما جرى على الأرض جاء بقرار فردي أم "بموجب تنسيق".

الجيش اللبناني يرد على مصادر إطلاق النار

وتثار تساؤلات أخرى حول مدى قدرة القوات السورية الجديدة على ضبط وتأمين الحدود من جانبها، وكذلك الأمر بالنسبة للجيش اللبناني، الذي تبدو مهمته هناك مليئة بالحفر والمطبات.

وفي هذا الإطار، أكد مدير التوجيه في الجيش اللبناني، العميد حسين غدار، أن التنسيق بين الجيش اللبناني وهيئة الأركان السورية قائم لضبط الحدود "من خلال مكتب التعاون والتنسيق بين البلدين".

وقال غدار، لموقع الحرة، إن "الجيش اللبناني يضبط الحدود ضمن الإمكانات المتوفرة لديه، وقد اتخذ الإجراءات اللازمة لتحقيق ذلك".

وأضاف أن "الجيش اللبناني قام خلال الأيام الماضية بالرد على مصادر إطلاق النار التي استهدفت الأراضي اللبنانية، في إطار الحفاظ على الأمن والسيادة الوطنية".

وتمكنت قوات الإدارة السورية الجديدة في دمشق، على مدى الأيام الأربعة الماضية، من تثبيت السيطرة الأمنية والعسكرية على معظم القرى والبلدات الحدودية مع لبنان.

وبعدما طردت عصابات التهريب المرتبطة بـ"حزب الله" اللبناني، يوم الاثنين، قالت الإدارة السورية، على لسان قائد المنطقة الغربية في "إدارة أمن الحدود"، المقدم مؤيد سلامة، إنها وضعت "خطة متكاملة لضبط الحدود بشكل كامل".

وأضاف سلامة لـ"سانا"، الثلاثاء، أن هذه الخطة "تراعى فيها التحديات الموجودة، وتسهم في حماية أهلنا من جميع الأخطار التي تستهدفهم"، على حد تعبيره.

ولم يتردد الكثير من المواقف من جانب الجيش اللبناني بعدما تمكنت القوات السورية الجديدة من تثبيت سيطرتها على المناطق الحدودية، وخاصة المحاذية لمنطقة القصير.

لكن الجيش وفي المقابل نشر بيانا لافتا، الثلاثاء، قال فيه إن وحداته "داهمت منازل مطلوبين في بلدَتي القصر- الهرمل والعصفورية - عكار، وضبطت كمية كبيرة من القذائف الصاروخية والرمانات اليدوية والأسلحة الحربية والذخائر".

هل التحرك فردي أم "بتنسيق"؟

ويعتقد الباحث السوري في مركز "جسور للدراسات"، وائل علوان، أن الحملة الأمنية لضبط الحدود السورية اللبنانية "لا تتم بتنسيق معلن مع الجيش اللبناني".

لكنه لا يستبعد في المقابل، وخلال حديثه لموقع "الحرة"، "وجود تنسيق غير معلن لكنه في الحدود الدنيا".

وأخبر الصحفي السوري المقيم في القصير، محمد رعد، موقع "الحرة"، أنه التقى بقادة عسكريين يديرون الحملة الأمنية على طول الحدود، وأشاروا له، الاثنين، إلى وجود "تنسيق عالي المستوى" مع الجيش اللبناني في الطرف المقابل.

وأوضح العسكريون أيضا للصحفي السوري أنهم بصدد إقامة نقاط مراقبة على طول الحدود، من أجل تثبيت عملية تأمينها من العصابات المرتبطة بـ"حزب الله" اللبناني.

ورغم أن سقوط نظام الأسد غيّر المشهد الأمني والعسكري لسوريا على نحو جذري، احتفظت بقايا مجموعات تتبع لـ"حزب الله" ونظام الأسد ببعض القرى والبلدات الواقعة على حدود سوريا ولبنان، وفق علوان.

وفي حين يرى الباحث السوري أن "القضاء عليها سيكون هدفا مشتركا للجيش اللبناني والجيش السوري الجديد"، يرجح أن تنتقل الحملة الأمنية القائمة حاليا والعمليات المرافقة لها إلى نقطة "نرى فيها تنسيقا كاملا" وقد يتخلله تشكيل لجان مشتركة.

"الوضع الأمني على الحدود الشرقية بين لبنان وسوريا شهد تحسنا نسبيا"، كما يقول الخبير الاستراتيجي اللبناني، ناجي ملاعب، "إذ نجح الجيش اللبناني بالتنسيق مع الجانب السوري في تنظيف بعض المناطق، مثل معربون، وحصر الأنشطة غير الشرعية بين معبر جوسيه ومنطقة قنافذ قرب الهرمل".

وقال ملاعب، لموقع "الحرة"، إن "هذه المنطقة أصبحت بؤرة تهريب نتيجة تعاون سابق بين حزب الله والنظام السوري مع غياب السلطة اللبنانية على تلك الحدود".

"خطوة ضرورية"

ويبلغ طول الحدود بين سوريا ولبنان نحو 300 كيلومتر. وتشمل مناطق متعددة تتميز بتضاريسها الصعبة والمعقدة، مما يجعل من الصعب تحديد الحدود بشكل دقيق ومنظم دون تعاون حكومي مشترك بين البلدين لإنهاء الملفات الحدودية العالقة.

وأضاف ملاعب أن "التهريب ليس ظاهرة جديدة، لكنه تفاقم بعد فرض قانون قيصر على سوريا، حيث أصبح التهريب وسيلة لتوفير السلع الأساسية عبر معابر غير شرعية يديرها المهربون بحماية مسلحين".

وأكد أن "الجيش اللبناني يعمل على إغلاق هذه المعابر، إلا أن المهربين غالبا ما يعيدون فتحها بدعم من قوى مسلحة".

الخبير العسكري يضيف أيضا أن "العشائر اللبنانية، التي تسكن قرى داخل الأراضي السورية تضم حوالي 10,000 لبناني، أعلنت دعمها للجيش اللبناني، ما ساهم في تعزيز الأمن على الحدود"، لكنه يشير إلى أن المهربين لايزالون يمثلون تهديدا، وأن المواجهة معهم قد تستمر لفترة أطول حتى يتم القضاء على نشاطاتهم بالكامل.

ولذلك يشدد على أهمية ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا كخطوة أساسية لحل المشاكل الحدودية، مشيرا إلى أن "هذه القضية تعود إلى فترة الانتداب الفرنسي، حيث وضعت 13 قرية لبنانية تحت الإدارة السورية لأسباب استراتيجية. ولفت إلى أن المحاولات السابقة لترسيم الحدود، خصوصا خلال عهد الرئيس ميشال سليمان، لم تنجح بسبب رفض النظام السوري لعملية الترسيم".

وكذلك شدد العميد الركن المتقاعد، جورج نادر، على ضرورة ترسيم الحدود بين البلدين، خاصة أن هناك مناطق متداخلة، ويقول "ترسيم الحدود من شأنه أن يحدد بوضوح السيادة لكل طرف، خصوصا في المناطق الشرقية المتنازع عليها".

كما شدد أن ضبط الحدود الشرقية "يتطلب جهودا لوجستية كبيرة"، مشيرا إلى صعوبة الوصول إلى تلك المناطق بسبب طبيعتها الوعرة والظروف المناخية القاسية في فصل الشتاء.

ومع ذلك، قال لعميد الركن المتقاعد إن "الجيش اللبناني قادر على ضبط الوضع من جانبه".

وأشار، في حديثه لموقع "الحرة"، إلى أن الجيش اللبناني يواجه تحديات عدة تتمثل في ضبط حدوده الجنوبية والشرقية والشمالية، إضافة إلى منع الفلتان الأمني في الداخل، "ومع ذلك فإنه قادر على مواجهة كل هذه التحديات".

هل سوريا قادرة على الضبط؟

وتشي المعطيات القائمة على الحدود بعد مرور 4 أيام من الحملة الأمنية بأن قوات الإدارة السورية الجديدة بصدد إقامة نقاط مراقبة لتثبيت ما حققته على الأرض، خلال الأيام الماضية.

وستتركز هذه النقاط على نحو محدد في التلال الواقعة على الشريط الحدودي، من جهة القصير، كما يوضح الصحفي رعد نقلا عن مسؤولين عسكريين.

ورأى الخبير العسكري السوري، إسماعيل أيوب، أن "ضبط الحدود السورية-اللبنانية ليس بالأمر الصعب من طرف قوات الإدارة السورية الجديدة".

لكنه يقول في المقابل إن هذه العملية تبقى رهن "توفر قطاعات الجيش والعدد الكافي من المقاتلين"، مع وجود إجراءات مماثلة من قبل العسكر اللبناني.

وحتى لو كانت الحدود طويلة جدا بين سوريا ولبنان "تستطيع قوات الإدارة في دمشق أن تخصص لها لوائين فقط"، بحسب حديث أيوب لموقع "الحرة".

وأوضح أن "كل لواء يكون تعداد مقاتليه ما بين 3 آلاف و3 آلاف و500 مقاتل".

وتقدم الإدارة السورية الجديدة نفسها أنها قادرة على تولي ملف ضبط الحدود، ولكن يبقى الأجدى أن يكون هناك "تنسيق عالي المستوى بينها وبين الجيش اللبناني"، كما يعتقد الباحث السوري علوان.

ويعتبر أن "التصريحات الصادرة عن الجيش اللبناني وحتى الآن تشير إلى أن التنسيق إما منخفض ودون الحد المطلوب أو أنه كامل وغير معلن".

ماذا عن لبنان؟

وأكد الخبير الاستراتيجي، العميد المتقاعد ملاعب، أن "الجيش اللبناني يمتلك القدرة والإمكانات لضبط الحدود مع سوريا، رغم الأوضاع الاقتصادية الصعبة وتراجع الرواتب ومستوى المعيشة، اذ يشكل عماد للوطن".

وأوضح أن "المساعدات التي يتلقاها الجيش، وخاصة من الولايات المتحدة الأميركية، تلبي احتياجاته الأساسية، مما يُمكّنه من القيام بمهامه".

كما أشار الخبير الاستراتيجي إلى أن "انتشار أربعة أفواج برية على الحدود اللبنانية-السورية يُعد كافيا لتنفيذ مهمة ضبط الحدود"، لافتا إلى أن الحدود" كانت سابقا مفتوحة لحزب الله بين منطقة القلمون السورية والبقاع اللبناني، ما حال دون انتشار الجيش اللبناني بشكل مكثف كما ينبغي.

كما أن "غياب التعاون من قبل الفرقة الرابعة التابعة للنظام السوري السابقة، والتي كانت تعمل بتنسيق مع حزب الله، زاد من تعقيد مهمة الجيش اللبناني في تلك المرحلة"، بحسب ذات المتحدث.

ومن جهته، أشار العميد الركن المتقاعد نادر إلى أن الجيش اللبناني تمكن من ضبط الوضع داخل الأراضي اللبنانية، لكن المشكلة تكمن في الجانب السوري حيث "لا توجد مرجعية أمنية واضحة أي جيش رسمي.

فالجيش السوري تم حله، وأصبحت السلطة الأمنية بيد مجموعات متعددة من الميليشيات"، ومع ذلك أكد نادر أن "التنسيق بين الجانبين لا يزال موجودا عبر جهاز التنسيق الخاص. الضابط اللبناني يتواصل مع الجانب السوري، لكن المشكلة تكمن في غياب سلطة تنفيذية سورية واضحة".

"فرصة"

وكانت الحدود السورية اللبنانية في عهد نظام الأسد، قد تحولت إلى أرض "مشاع" استخدمها "حزب الله" لتهريب الأسلحة والذخائر وحبوب "الكبتاغون".

ولم يكن أن يتم ذلك خلال السنوات الماضية، إلا بموجب سياسة "هادئة" يعتبر خبراء ومراقبون أنها لا تزال مستمرة حتى الآن.

وقال الخبير العسكري السوري أيوب إن "ضبط الحدود يجب أن يكون من الطرفين"، مضيفا: "المنطقة صعبة وحزب الله أسس فيها منذ سنوات. كما استغل العشائر هناك للعمل لصالحه".

وأعرب عن اعتقاده أن المعارك التي شهدتها الحدود الشرقية بين لبنان وسوريا لها أسباب متعددة، مشيرا إلى أن "السبب المباشر يتمثل في وجود قرى داخل الأراضي السورية يقطنها لبنانيون من الطائفة الشيعية، تعرضوا إلى انتقام من المجموعات المسلحة السورية بهدف تهجيرهم بسبب تأييدهم لحزب الله".

أما السبب غير المباشر، فيتعلق بأن "الاشتباكات التي حدثت في تلك المناطق قد تحمل طابعا ظاهريا يوحي بأنها نزاعات بين العشائر والسوريين، إلا أن حزب الله هو الذي يواجه، مستغلا اسم العشائر لإرسال رسائل متعددة، من بينها تأكيد وجوده الفاعل، وقدرته على التحرك وحماية الحدود بسلاحه"، وفق العميد المتقاعد.

الخبير ملاعب، أشار إلى أن "السلطة السورية الجديدة تعهدت أمام القوى العربية والدولية بإغلاق ملف تهريب المخدرات كخطوة أولى نحو استعادة الدعم الدولي".

وقال إن "هذا الملف قد يكون بوابة لدعم الإدارة السورية الجديدة، في حال الالتزام بتنفيذ الوعود، وقد يفتح الباب أمام ترسيم الحدود مستقبلاً".

وعلى الصعيد اللبناني، اعتبر ملاعب أن "انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة لبنانية جديدة يمثلان فرصة لإعادة القرار السياسي إلى مساره الطبيعي"، ويصف هذا التطور بأنه "إنجاز مهم للبنان"، الذي عانى طويلا من تهريب السلع والمخدرات عبر حدوده مع سوريا.

وأوضح أيضا أن "لبنان كان إحدى الوجهات الأساسية لعمليات التهريب من سوريا"، وأن "ضعف نفوذ حزب الله وتشكيل حكومة تمثل جميع الأطياف اللبنانية يحدّ من قدرة الحزب على الاستفادة من هذه الأنشطة غير المشروعة".

كما شدد ملاعب على أهمية "صياغة استراتيجية دفاعية وطنية مبنية على مفهوم الأمن القومي، يتم اعتمادها عبر الحكومة ويوافق عليها المجلس النيابي"، وزاد أن "هذا النهج يمكن أن يساهم في تحسين الوضع العربي والدولي للبنان وسوريا على حد سواء، ويعيد الانتظام الإداري في المؤسسات اللبنانية، من الجمارك إلى الأمن والجيش، ما يعزز استقرار البلاد".