مشكلة تهدد أطفال السوريين في لبنان
مشكلة تهدد أطفال السوريين في لبنان

يعيش جيل من اللاجئين السوريين في لبنان الحرمان من أبسط حقوقه، مكبلا بكل خطوة يخطوها، فمئات الأطفال والمراهقين غير معترف بهم قانوناً، كونهم لا يملكون أوراقاً ثبوتية، فهم مجرد أسماء في هذه الحياة.

عدم تسجيل الأطفال مشكلة ظهرت مع بدء اللجوء السوري إلى لبنان، لتزيد بسبب جائحة كورونا والأزمة الاقتصادية التي عصفت بالبلد، بحسب ما قالته المديرة التنفيذية لجمعية "بيوند" ماريا عاصي لموقع "الحرة".

وشرحت "أدت جائحة كورونا إلى انحسار العمل الميداني للمنظمات التي تساعد في مجال التوعية ومتابعة إجراءات تسجيل الولادات، أما الأزمة الاقتصادية فحالت دون تمكن عدد كبير من اللاجئين غير المسجلين في مفوضية اللاجئين من قصد المستشفيات لإجراء عملية الولادة بسبب ارتفاع الفاتورة الاستشفائية، فاقتصرت النساء الأمر على قابلة غير مرخصة، لا يمكنها تقديم إشعار ولادة، ما يعني اضافة تعقيدات في حال اتخذ الوالدين قرار تسجيل الطفل رسمياً".

كذلك تطرقت المتحدثة الإعلامية باسم المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، دلال حرب، إلى أبرز العوائق التي يواجهها اللاجئون في تسجيل مواليدهم، ألا وهي "افتقارهم إلى وثائق الهوية، وإلى الإقامة القانونية (لا تزال مطلوبة لأحد الزوجين)، وعدم القدرة على دفع الرسوم وقلة الوعي بأهمية هذه الخطوة ومتطلبات عملية التسجيل".

وأضافت: "بعض اللاجئين الذين تزوجوا في سوريا يفتقرون أيضاً إلى إثبات الزواج إما لأنهم لم يسجلوا زواجهم في سوريا أو لعدم حيازتهم الوثيقة التي تثبت هذا الزواج ولا يمكن الحصول عليها إلا من سوريا أو من السفارة السورية. لن تتمكن هذه الحالات دون إثبات الزواج من تسجيل ولادة أطفالهم المولودين في لبنان".

خشية من التعقيدات

لا إحصائية دقيقة بعدد اللاجئين مكتومي القيد، الولادات داخل الخيم جعلت الأرقام، كما قالت عاصي "مبهمة بشكل أكبر، لكن ما هو مؤكد أن هؤلاء الأطفال محرومون من التعليم والطبابة والتملك والإرث والانتخاب، وجزء كبير معرض لأسوأ أشكال العمالة، وأكثر من ذلك ينقل مكتوم القيد في كبره معاناته إلى عائلته لتكر السبحة لأجيال قادمة".

 منذ عام 2011 ولغاية أكتوبر 2021، ولد 193,422 طفلاً لأهالٍ سوريين لاجئين مسجلين لدى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في لبنان، في وقت يوجد 844,056 لاجئا سوريا مسجل لدى المفوضية، أما الحكومة اللبنانية فتقدر وجود ما يقارب 1.5 مليون لاجىء سوري على الأراضي اللبنانية" بحسب حرب.

"جارت الحياة على الطفل عبد الله (سنتان ونصف السنة) وشقيقته ايلاف (4 سنوات ونصف)، فبعد أن حرمتهما من والدتهما مريم (16 سنة) التي قتلت على يد والدهما الموقوف في السجن، لم يتم الاستحصال على أوراق ثبوتية لهما" بحسب ما قاله جدهما محمد، مؤكداً عدم متابعته لموضوع تسجيلهما، "تركتهما في عهدة جدهما لوالدهما ليتكفل بتربيتهما، رفضت أن أقوم بذلك على مدى سنوات ليقوم بعدها باستعادتهما مني".

والأمر لا يقتصر على حفيدي محمد كما قال، بل هو الآخر لديه طفلان هما عبد الرحمن (8 سنوات) وعمر (3 سنوات) لم يبادر كذلك إلى تسجيلهما، بل لا يعلم فيما إن حصلا على شهادة ولادة من عدمه، يسأل زوجته، لتجيبه "نعم، حصلت عليها من مستشفى الرحمة حين وضعتهما"، ويقاطعها قائلاً "عدد من المنظمات حضر وعرض القيام بتسجيلهما، مجرد كلام من دون أن أفعال جدية على أرض الواقع".

يأمل محمد أن يأتي اليوم الذي يتمكن فيه من  تسجيل طفليه، لكن كما قال "الأمر معقد جداً ومكلف هنا، ونحن بالكاد نؤمن قوت يومنا، فمن أين لنا القدرة على المصاريف الإضافية"، وفيما إن كان يخشى على مستقبل ابنيه وحفيديه أجاب "ليس في يدي حيلة، بقية أولادي الثمانية سبق أن سجلتهم ووضعهم قانوني".

الاعتراف بحق كل طفل في التسجيل عند الولادة أولوية لدى المفوضية، ترجمتها بحسب حرب "جهود الحكومة اللبنانية بعد أن باشرت في عام 2017 بسلسلة من التطورات السياسية لتسهيل تسجيل المواليد والزواج للأطفال والآباء اللاجئين".

 وأضافت "بفضل الدعم من الجهات الفاعلة الوطنية والدولية من حيث بناء القدرات في المؤسسات المحلية والوطنية، وتقديم المشورة والمساعدة والتوعية، تم إحراز تقدم كبير في عملية تسجيل الولادات وارتفعت نسبة الولادات المسجلة على مستوى النفوس من 36% في عام 2017 إلى 51% في 2021 ومن 17% على مستوى سجلّ الأجانب إلى 31%".

هذا التقدم كان معكوساً في إحصاءات عام 2020 "بسبب عمليات الإغلاق المرتبطة بكوفيد 19 وتأثيرها على أنشطة التوعية والإرشاد القانوني، والإغلاق المؤقت للمؤسسات  وبسبب تزايد عدم قدرة اللاجئين على تغطية التكاليف المرتبطة بإجراءات التسجيل".

وتابعت المتحدثة الاعلامية "بحلول نهاية سبتمبر 2021 وبالتعاون الوثيق مع وزارة الشؤون الاجتماعية ووزاتي الداخلية والخارجية، ساعدت المفوضية والشركاء المنفذون في تسجيل ولادة أكثر من 3 آلاف طفل وقدمت استشارات مخصصة إلى 13 ألف عائلة إضافية حول عملية التسجيل ومتطلباتها. في البقاع وحده، تم تسجيل 1500 طفل وتم تقديم المشورة لحوالي 4 آلاف عائلة".

دور وزارة الشؤون الاجتماعية في لبنان، كما قال مديرها العام القاضي عبد الله أحمد لموقع "الحرة"، يقتصر على جانب التوعية: "نوضح مدى أهمية تسجيل الولادات وآلية ذلك والإجراءات من خلال مراكزنا أو من خلال جمعيات شريكة معنا، وفي العادة إذا علم أحد المراكز بعدم تسجيل طفل  يتم تحويل القضية إلى جمعية أو مؤسسة أومكتب محاماة لمتابعة حالته".

في مهب الإهمال

كذلك قست الحياة على اللاجئة السورية سعاد، التي ارتبطت برجل لديه ثلاثة أطفال، عملت على تربيتهم والعناية بهم، لترزق هي الأخرى بثلاثة أطفال، من دون أن يقدم زوجها على محاولة تسجيلهم، وكما قالت لموقع "الحرة" "لا إثبات أنهم على وجه الأرض، طلبت منه كثيراً أن لا يحرمهم من هذا الحق إلا أنه غير مبال بالأمر، يتحجج أن لا مال لديه، وأنه بالكاد يستطيع تأمين الخبز، وأنا أخشى عليهم من مستقبل قاتم، اذ كيف سيدخلون المدارس ويستحصلون على شهادات، وعلى أي أساس سأدخلهم إلى المستشفى إن احتاجوا إلى ذلك"؟!

المؤسف، كما قالت سعاد (25 سنة)، أنه لا يمكنها الإصرار على زوجها لمنح أطفاله أهم حقوقهم، "يضربني كلما انزعج مني، وأنا يتيمة الوالدين، لا أهل لي في لبنان، حتى إن قررت السفر وأطفالي إلى سوريا لن أتمكن من ذلك كون لا أوراق ثبوتية لهم، من هنا لا أجد أمامي سوى القبول بالأمر الواقع على الرغم من خشيتي الدائمة من الحاضر والمستقبل القاتم".

قانوناً، كل مولود يبصر النور على الأراضي اللبنانية يجب قيده أصولا من خلال اتباع خطوات محددة، تبدأ كما قالت المحامية زينة المصري "بالحصول على شهادة ولادة من المستشفى التي تمت فيها الولادة يوقعها الطبيب أو القابلة القانونية التي حصلت على يدها الولادة، ومن ثم توقيع وثيقة الولادة من أحد مخاتير المنطقة التابع لها المستشفى أو محل إقامة الوالدين، ليتم تسجيلها في "دائرة وقوعات الأجانب" في وزارة الداخلية، ثم يتم تصديقها من وزارة الخارجية، وأخيراً في السفارة السورية في لبنان على أن ينجز القيد في بلده سوريا للإستحصال على ما يسمى بدفتر العائلة قبل أن يتم الطفل السنة من عمره وإلا سيحتاج بعد ذلك إلى دعوى مدنية".

وأضافت المحامية المصري "لإتمام الخطوات السابقة يجب أن يمتلك الوالدان مستندات قانونية تثبت زواجهما كعقد زواج أو حكم إثبات زواج صادر عن المحكمة الختصة، وهي تتطلب اللجوء إلى المحاكم ودوائر النفوس وبالتالي حيازة إقامات صالحة، وهذه عقبة اضافية كون عدد من اللاجئين يقتصرون الأمر على عقد قران لدى الشيخ".

وشددت "من ليس لديه هوية لا كيان له، ولا يعتبر موجوداً على الأراضي اللبنانية، يواجه مشاكل كثيرة منها عدم قدرة أهله على إثبات أنه ولدهم مما يعرضهم إلى الاتهام بخطفه لغرض بيعه أو بيع أعضائه، وقد يتعرض فعلاً الولد مكتوم القيد لذلك على يد عصابات كون لا إمكانية أمام والديه لاثبات أنه موجود بالفعل على الأرض".

أما حرب فلفتت إلى أن "تسجيل الولادات وانعدام الجنسية مفهومان مختلفان. فإذا لم يتم تسجيل ولادة الطفل، فهذا لا يعني بأن الطفل عديم الجنسية، فالتعريف القانوني الدولي لشخص عديم الجنسية هو الشخص الذي لا تعتبره أي دولة مواطناً بموجب قانونها".

ولهذا "يجب التمييز بين انعدام الجنسية وحالة عدم التوثيق. اذ لا يعني عدم وجود وثائق بالضرورة بأن الشخص عديم الجنسية؛ غير أن عدم وجود الوثائق قد يؤدي إلى انعدام الجنسية في بعض الظروف".

كي لا يبقوا ضحية

مبادارات توعوية عدة أطقلت في سبيل الحد من ظاهرة عدم تسجيل الأطفال اللاجئين، منها مبادرة "ضامنون"، التي أطلقها مسؤول الاستقطاب في المشروع القانوني في منظمة سوا للتنمية والاغاثة، وليد المغربي، مع زميلته نور حمشو، وهي لا تقتصر على توعية اللاجئين على ضرورة تسجيل ولاداتهم وتوثيقها، بل كذلك على ضرورة تثبيت الزواج، والطلاق، والوفاة.

ولكي لا تقف جائحة كورونا حائلاً دون تمكين "ضامنون" من استكمال هدفها، تم اللجوء، كما قال المغربي، إلى تطبيق إلكتروني مجاني، يقدم معلومات عن خطوات التسجيل وفيديوهات مبسطة وجهات تواصل، مشدداً "ساعد في وصولنا إلى عدد أكبر من اللاجئين، من دون أن يعني ذلك عدم قيامنا بزيارات ميدانية للمخيمات لمتابعة قضايا الناس مباشرة"، وأضاف "نحرص على تحديث القوانين والقرارات الصادرة عن الدوائر الرسمية اللبنانية والسورية ليبقى اللاجئون في أجواء التطورات".

لم تتوقف المبادرة على تقديم الاستشارات، بل غطت كذلك تكاليف عدد كبير من المعاملات وقال المغربي "هدفنا حصول الأطفال على أهم حقوقهم كي لا يبقوا ضحية" لافتاً إلى أن "عدم اقدام عدد من اللاجئين على تسجيل ابنائهم سببه عدم درايتهم بالخطوات التي عليهم اتباعها اضافة إلى استغلال بعضهم من قبل معقبي معاملات يطلبون مبالغ كبيرة لا علاقة لها بالواقع".

وعن أهمية الوثائق في حياة اللاجئين، شرحت حرب "عديدة منها منحتهم الجنسية والهوية القانونية، فشهادة الميلاد هي وثيقة رسمية تثبت وجود الطفل بموجب القانون وتساعد على منع انعدام الجنسية، وكونها تحدد تاريخ ميلاد الطفل وتثبت عمره تعتبر أمر أساسي لحمايته من عمالة الأطفال، ومن القبض عليه ومعاملته كبالغ في نظام العدالة، ومن التجنيد الإجباري في الجماعات المسلحة، ومن زواج الأطفال كما ومن أشكال أخرى من الاستغلال، ومن الضروري أيضًا السماح للطفل بالحصول على إخراج قيد فردي وبطاقة هوية وطنية وجواز سفر".

واعترافاً بالتحديات التي يواجهها اللاجئون السوريون في تسجيل ولادة أطفالهم، تبنت الحكومة اللبنانية سياسات وتدابير رئيسية لمعالجة هذه الصعوبات، وهي بحسب حرب:

- في سبتمبر 2017، ألغت المديرية العامة للأحوال الشخصية (DGPS) شرط حصول والدي اللاجئين السوريين والفلسطينيين من سوريا على إقامة قانونية لتسجيل ولادة أطفالهم، وطلبت من زوج واحد فقط (بدلاً من اثنين) ضرورة حصوله على إقامة قانونية لتسجيل الزواج.

- في مارس 2018 ، ألغت المديرية العامة للأحوال الشخصية القرار المرتبط بالتسجيل المتأخر للولادات لدى اللاجئين السوريين والفلسطينيين المولودين في لبنان بين 1 كانون الثاني 2011 و 8 شباط 2018. وتم تمديد هذا القرار في آب 2019 ليشمل جميع الأطفال المولودين حتى 8 شباط 2019.

- في مارس 2019، أصدرت المديرية العامة للأحوال الشخصية مذكرة جديدة تسمح للآباء السوريين المتزوجين في لبنان بتسجيل ولادة أطفالهم من خلال إبراز عقد زواج محرّر في لبنان ومسجّل في السفارة السورية، بدلاً من دفتر العائلة (إخراج القيد العائلي) من سوريا الذي كان مطلوباً سابقاً.

- في يوليو 2019، باشر مكتب السجل المدني في البقاع بإجراء ثلاث زيارات أسبوعياً إلى عرسال حيث لا مكتب لمديرية الأمن العام لتسجيل الوقوعات المدنية للاجئين السوريين المقيمين هناك.

- في سبتمبر 2020، أصدرت المديرية العامة للأمن العام تعميمًا أبلغت فيه جميع مكاتبها بتعليق المهلة المحدّدة لسنة واحدة لتسجيل الولادات بين الفترة 18/10/2019 و 31/12/2020 تطبيقاً للقوانين 160 و 185. وتم تمديد تعليق الموعد النهائي حتى 31 مارس 2021.

 

 الحق في الهوية هو رأس هرم حقوق الطفل، لذلك شددت عاصي على "ضرورة زيادة الوعي حول الزواج الآمن ومحاربة الزواج المبكر "فعندما تكون الأم طفلة لن تدرك أهمية تسجيل أولادها والاصرار على ذلك" أما المصري فدعت إلى "ضرورة تعاطي جمعيات المجتمع المدني والمؤسسات التي ترعى شؤون اللاجئين مع الملف على قدر عال من المسؤولية كي لا يبقى طفل أو ولد مكتوم القيد خارج بلده".

مصارف لبنان

في تحول تاريخي لعمل القطاع المصرفي اللبناني، أقرّ مجلس النواب الخميس تعديلات على قانون السرية المصرفية تسهّل للهيئات الناظمة الحصول على كامل المعلومات المتعلّقة بالحسابات.

جاءت الخطوة تلبية لمطلب رئيسي من مطالب صندوق النقد الدولي.

واعتبر رئيس الوزراء اللبناني، نواف سلام، القرار "خطوة ضرورية نحو الإصلاح المالي المنشود وركيزة أساسية لأي خطة تعافٍ، ولكشف الحقائق" بشأن الأزمة المالية التي بدأت عام 2019.

والجمعة، نُشر في الجريدة الرسمية اللبنانية قانون تعديل بعض المواد المتعلقة بسرية المصارف في لبنان، بما في ذلك تعديل المادة 7 (هـ) و (و) من القانون المتعلق بسرية المصارف الذي أقرّ عام 1956، وكذلك تعديل المادة 150 من قانون النقد والتسليف الصادر في عام 1963، بموجب القانون رقم 306 الصادر في 28 تشرين الأول 2022.

وينص التعديل الجديد على تعديل المادة 7 (هـ) من القانون المتعلق بسرية المصارف بما يسمح بمشاركة معلومات مصرفية بين مصرف لبنان، ولجنة الرقابة على المصارف، والمؤسسة الوطنية لضمان الودائع، في إطار تعزيز مراقبة القطاع المصرفي وحماية النظام المالي. 

ويشمل التعديل أيضا صلاحيات تعديل وإنشاء مؤسسة مختلطة لضمان الودائع المصرفية.

أما المادة 7 (و) فتتيح للجهات المعنية، مثل مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف، طلب معلومات مصرفية محمية بالسرية دون تحديد حساب أو عميل معين. ويتيح التعديل إصدار طلبات عامة للحصول على معلومات عن جميع الحسابات والعملاء، إلا أن هذه الطلبات يمكن أن تكون قابلة للاعتراض أمام قاضي الأمور المستعجلة، ويخضع الاعتراض للأصول القانونية المتعلقة بالاعتراض على العرائض.

وفي ما يتعلق بالمادة 150 من قانون النقد والتسليف، تضمن التعديل رفع السرية المصرفية بشكل كامل وغير مقيد أمام مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف، بالإضافة إلى المدققين والمقيمين المعينين من قبل مصرف لبنان أو اللجنة.

وتشمل التعديلات الحسابات الدائنة والمدينة، سواء كانت ضمن أو خارج الميزانية، كما تتيح رفع السرية المصرفية عن سجلات ومستندات ومعلومات تعود إلى أشخاص معنويين أو حقيقيين يتعاملون مع المصارف أو المؤسسات المالية الخاضعة للرقابة. ويشمل تطبيق هذا التعديل بأثر رجعي لمدة عشر سنوات من تاريخ صدور القانون.

وقد شهد لبنان خلال الأسابيع الماضية نقاشات حادة، رأى فيها معارضون للخطوة أن هذا القانون ورفع السرية المصرفية طي لصفحة من تاريخ لبنان المالي العريق من خلال "إلغاء ميزة تفاضلية،" وبأن كشف الفساد ليس معطلاً بسبب السرية المصرفية.

ويرى المتحمسون للقانون أن من شأن التعديلات الجديدة تعزيز الشفافية في القطاع المصرفي في لبنان وتحسين مراقبة ومراجعة العمليات المصرفية، في وقت يشهد فيه القطاع المصرفي تحديات كبيرة في ظل الأزمة المالية المستمرة.

وأوضحت "المفكرة القانونية" وهي منظمة حقوقية غير حكومية، في بيان أصدرته أن التعديل يخوّل "الهيئات الرقابيّة والهيئات النّاظمة للمصارف، وتحديدًا مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف والمؤسسة الوطنية لضمان الودائع، طلب الحصول على جميع المعلومات المصرفية، من دون أن يربط طلب المعلومات بأيّ هدف معيّن، وإمكانية التدقيق في الحسابات بالأسماء، تصحيحا لقانون 2022" والذي تضمن بعض التعديلات.

يعتمد لبنان السرية المصرفية منذ عام 1956، وكان لذلك أثر كبير في جذب رؤوس الأموال والودائع وتوفير مناخ الاستقرار الاقتصادي. وبموجب هذا القانون تلتزم المصارف الخاضعة لأحكامه السرية المطلقة، إذ لا يجوز كشف السر المصرفي سواء في مواجهة الجهات الخاصة أو السلطات العامة، وسواء كانت قضائية أو إدارية أو مالية، إلا في حالات معينة في القانون وردت على سبيل الحصر، وهي:

1- إذن العميل او ورثته خطيًا.
2- صدور حكم بإشهار افلاس العميل.
3- وجود نزاع قضائي بينه وبين البنك بمناسبة الروابط المصرفية. 
4- وجود دعاوى تتعلق بجريمة الكسب غير المشروع. 
5- توقف المصرف عن الدفع، إذ ترفع في هذه الحالة السرية المصرفية عن حسابات أعضاء مجلس الإدارة والمفوضين بالتوقيع ومراقبي الحسابات. 
6- الاشتباه في استخدام الأموال لغاية تبييضها، وعندها ترفع السرية المصرفية بقرار من هيئة التحقيق الخاصة لمصلحة المراجع القضائية المختصة والهيئة المصرفية العليا، وذلك عن الحسابات المفتوحة لدى المصارف أو المؤسسات المالية.

وبالفعل ومنذ إقرار هذا القانون ازدهر القطاع المصرفي اللبناني واستطاع جذب رؤوس أموال، لكن كل ذلك تغير مع اندلاع الحرب الأهلية في منتصف السبعينيات، وبدأت الليرة اللبنانية رحلة الانهيار. خمسة عشر عاما من الاقتتال، انتهت بتسويات سياسية، تبعها نظام اقتصادي جديد، قاده منذ عام 1993 الراحل رفيق الحريري رئيسا للحكومة، ورياض سلامة حاكما لمصرف لبنان المركزي، سعيا وراء الاستقرار. 

وبعد أربع سنوات من استلام منصبه، نجح سلامة في تثبيت سعر العملة اللبنانية، عند 1500 مقابل الدولار الأميركي.

استمرت تلك المعادلة أكثر من عقدين، لكنها كانت تحتاج إمدادات لا تنقطع من العملة الصعبة للمحافظة على استمرارها. وفي محاولة لسد العجز، سعت المصارف اللبنانية لجذب حصيلة كبيرة من العملة الخضراء عبر تقديم فوائد مرتفعة على الودائع الدولارية، فوائد تراوحت بين 15 و 16 في المئة.

نتيجة للفوائد البنكية المرتفعة، شهدت ودائع القطاع المصرفي اللبناني نمواً سنوياً وصل ذروته بقرابة 12 مليار دولار خلال عام 2009.

أغرت الفوائد العالية المقيمين والمغتربين، ليصل إجمالي الودائع في المصارف اللبنانية إلى أكثر من 177 مليار دولار في نهاية نوفمبر عام 2018. 

منذ عام 2017، تراجع الاحتياطي في خزينة مصرف لبنان، رغم محاولات جذب الدولار. وفي صيف عام 2019، لاحت بوادر صعوبة في توافر الدولار في الأسواق اللبنانية، فارتفع سعر صرفه مقابل الليرة للمرة الأولى منذ أكثر من 20 عاما، ما دفع الحكومة لاتخاذ إجراءات استثنائية. لكن البعض يرى أن تلك القرارات جاءت متأخرة.

في أكتوبر 2019، انفجر الشارع اللبناني مطالبا بإسقاط السلطة السياسية، وأغلقت المصارف أبوابها، لكن تقارير صحفية تحدثت عن عمليات تحويل لأرصدة ضخمة الى خارج البلاد.

في تقرير لصحيفة فاينانشال تايمز البريطانية، نُشر في صيف 2020، فإنه، وفقا لكبير موظفي الخدمة المدنية المالية السابق في لبنان ومدير عام وزارة المالية السابق ألان بيفاني، قام مصرفيون بتهريب ما يصل إلى 6 مليارات دولار من لبنان منذ  أكتوبر 2019، في تحايل على الضوابط التي تم إدخالها لوقف هروب رأس المال، مع غرق البلاد في أسوأ أزمة مالية منذ ثلاثين 30 عاما، بينما بات مصير مليارات الدولارات مجهولًا. 

بدأت الأزمة المالية بالظهور تدريجيا، لكنها انفجرت حرفيا منذ اندلاع الاحتجاجات في شهر أكتوبر عام 2019. وتشير تقارير رسمية إلى أن أموالا طائلة تصل إلى مليارات الدولارات تم تحويلها إلى الخارج، بينما تم حجز ودائع صغار زبائن البنوك، من دون ضمانات لحماية ودائع المواطنين، ولا سيولة نقدية.

وتقدر تقارير دولية والمصرف المركزي اللبناني أن ودائع صغار زبائن البنوك بحوالي 121 مليار دولار منها ودائع لغير المقيمين تُقدّر بـ20 مليار دولار، وأصحابها لبنانيون وعراقيون ويمنيون وليبيون ومصريون ومن دول الخليج، إضافة لودائع للسوريين، يقدر المصرفيون بأنها أكثر من 3 مليارات دولار.

وفيما تجري التحقيقات حول آلية تهريب الأموال، لم يصل المحققون المحليون ولا حتى الدوليون إلى جواب شاف، لكن كانت دائما "المصالح المتشابكة داخل النظام اللبناني" جزءا من الجواب.

وتعتبر البنوك اللبنانية مرآة للنظام من حيث التقسيم الطائفي، فغالبيتها تابعة لجهات سياسية ومقربين منها، الأمر الذيث كان واضحا في انعدام الرقابة على عمليات إدخال أموال حزب الله المهربة أو غير الشرعية إلى هذه البنوك، مما يعني عمليات تبييض وشرعنة لهذه الأموال.

منذ منذ عام 2001، وضعت الولايات المتحدة حزب الله على قائمة المنظمات الإرهابية، وفرضت عليه عقوبات ضمن خطة لمكافحة تمويل الإرهاب. وفي هذا الإطار صدر قانون مكافحة تبييض الأموال رقم 44، عام 2015، والذي لم يتم تعطبيقه، واكتفى مصرف لبنان بتعاميم، لم تغير واقع الحال.

بدأ لبنان في يناير 2022 مفاوضات رسمية مع صندوق النقد الذي طالما شدد على أنه لن يقدم أي دعم طالما لم تقرّ الحكومة إصلاحات على رأسها تصحيح الموازنة وإعادة هيكلة القطاع المصرفي وإصلاح المؤسسات العامة والتصدي للفساد المستشري.

وأعلن الصندوق في أبريل من العام ذاته اتفاقا مبدئيا على خطة مساعدة بقيمة ثلاثة مليارات دولار على أربع سنوات، لكنّ تطبيقها كان مشروطا بإصلاحات لم يتم تنفيذ معظمها.

في سبتمبر عام 2024، أوقف الحاكم السابق لمصرف لبنان، رياض سلامة، وهو حتى اليوم قيد التحقيق في اتهامات بغسيل الأموال وشراء وبيع سندات خزينة الحكومة اللبنانية. ومنذ انهيار حزب الله اللبناني، في حربه مع إسرائيل، وصعود ما سمي بالعهد الجديد، أقرت حكومة نواف سلام مشروع قانون لإعادة هيكلة المصارف، استجابةً لمطالب صندوق النقد الدولي، الذي اشترط تنفيذ إصلاحات جذرية، بينها رفع السرية المصرفية، كشرط أساسي لأي دعم مالي للبنان، كما تأتي في ظل إدراج مجموعة العمل المالي (FATF) لبنان على اللائحة الرمادية بسبب ثغرات خطيرة في مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.

من المتوقع أن تسهم هذه التعديلات في تعزيز الشفافية المالية، ومكافحة الفساد وتبييض الأموال والتهرب الضريبي، كما يُتوقع أن تفتح الباب أمام إعادة هيكلة النظام المالي اللبناني بالكامل، واستعادة ثقة المجتمع الدولي، وتأمين الدعم المالي اللازم من الجهات المانحة.

إلا أن نجاح هذه الخطوة لا يقاس فقط بالكشف عن الحسابات، بل العبرة في التنفيذ في ظل نظام قضائي شبه مهترئ وتورط بعض من أصحاب النفوذ السياسي والمالي أنفسهم.

لبنان اليوم أمام مفترق طرق، فإما أن يسلك طريق العهد الجديد الذي وعد به اللبنانيون، أو يظل الفساد العنوان الأبرز في سياسات لبنان المالية المقبلة.