جثمان ميتسو على الأعناق
جثمان ميتسو على الأعناق

في مدينة طرابلس، التي ينحدر منها أغنى السياسيين بلبنان، ينعي السكان الأشد فقرا موتاهم مرة أخرى.

ومن بين هؤلاء الموتى مصطفى ميستو، الذي كان سائق سيارة أجرة في المدينة، وأطفاله الثلاثة الذين تم العثور على جثثهم قبالة الساحل السوري، الخميس، بعدما غادروا لبنان على متن قارب مهاجرين يُقل أكثر من مئة شخص.

وقال وزير النقل اللبناني علي حمية لرويترز إن 95 شخصا لقوا حتفهم في الحادث، بينهم 24 طفلا و31 امرأة.

وهذا هو أكبر عدد من القتلى حتى الآن في مثل هذه الرحلات البحرية التي تنطلق من لبنان، حيث يضغط اليأس المتصاعد على مزيد من الناس لمحاولة خوض الرحلة المحفوفة بالمخاطر على متن قوارب متهالكة ومكتظة للبحث عن حياة أفضل في أوروبا.

وقبل الانطلاق في الرحلة المشؤومة، تراكمت الديون على ميستو بشكل كبير، وباع سيارته وذهب أُمه لتوفير الطعام لأسرته إلا أنه ظل غير قادر على توفير أشياء بسيطة مثل الجبن لشطائر أطفاله، حسب أقاربه وجيرانه.

وقالت روان المانع (24 عاما) وهي من أقاربه، "كل العالم (الناس) يا اللي بتروح بالبحر عارفين حالهم رايحين يموتوا، ولكن بيقولوا بركي وصلنا لنتيجة (قد نصل إلى نتيجة) بركي فيه أمل، عم يتأملوا، يعني هم رايحين على أمل، ما رايحين انتحاري، هم رايحين يريدون تجديد حياتهم، انظروا الآن هم صاروا في حياة جديدة وإن شاء الله حياتهم هناك (يعني في مماتهم) تكون أحلى من حياتهم هذه".

وسلطت المأساة الضوء على الفقر المتزايد في شمال لبنان، لا سيما في طرابلس، وهو ما يدفع المزيد من السكان للإقدام على خطوات يائسة مع استمرار الانهيار المالي المدمر لثلاث سنوات.

كما سلطت الضوء على التفاوتات الصارخة والحادة بشكل خاص في الشمال، فطرابلس مسقط رأس عدد من السياسيين من فاحشي الثراء، ومع ذلك لم تحظ المدينة إلا بالقليل من التنمية أو الاستثمار.

ورغم أن كثيرين من زعماء الطوائف في لبنان ينفقون الأموال في مجتمعاتهم لحشد الدعم السياسي، يقول سكان طرابلس إن منطقتهم تعاني من الإهمال رغم ثراء سياسييها.

وخلال تجمع للمعزين في منطقة باب الرمل الفقيرة بطرابلس، عبر كثيرون عن غضبهم إزاء السياسيين المنحدرين من المدينة ومن بينهم رئيس الوزراء اللبناني الملياردير نجيب ميقاتي.

وتضيف روان المانع "نحن ببلد ما فيه قيمة للإنسان، نحن عايشين ببلد بس الزعماء بيطلعوا بيشفطوا مصاري وبيحكوا، ويللا عمره الإنسان ما يرجع".

وكانت طرابلس، وهي ثاني أكبر مدينة في لبنان بعدد سكان يبلغ نحو نصف مليون نسمة، من أفقر مدن البلاد قبل أن يهوي لبنان في أزمة مالية نتيجة عقود من الفساد وسوء إدارة النُخب الحاكمة.

وقال مهند الحاج علي، الباحث في مركز كارنيجي للشرق الأوسط، إن طرابلس لم تشهد أي جهود إنمائية كبيرة منذ الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين عامي 1975 و1990 على الرغم من الصعود السياسي لرجال أعمال أثرياء من المدينة.

مليارديرات وفقر

وجمع ميقاتي الجزء الأكبر من ثروته من أنشطة الاتصالات وصنفته مجلة فوربس رابع أغنى رجل في العالم العربي في عام 2022.

وقال مكتب ميقاتي في بيان لرويترز، الخميس، إنه كان الداعم الأكبر للتنمية الاجتماعية والاقتصادية في طرابلس لأكثر من 40 عاما، من خلال مؤسساته الخيرية.

وأضاف أنه يتفهم المعاناة التي يمر بها أبناء لبنان عامة وطرابلس خاصة بسبب الأزمة.

وكان بيت ميقاتي المطل على البحر على مشارف المدينة، والمعروف محليا باسم "قصر ميقاتي"، نقطة تجمع في السنوات الأخيرة للاحتجاجات الرافضة لفساد الحكومة والمعبرة عن اليأس الاقتصادي.

واتهم الادعاء اللبناني ميقاتي في أكتوبر عام 2019 بالإثراء غير المشروع لاستفادته من أموال مخصصة لبرنامج قروض سكنية مدعومة للأسر الفقيرة، وهي اتهامات ينفيها.

وقال مكتبه إن الاتهامات لها دوافع سياسية وتهدف لتشويه سمعته، ولفت إلى أن قاضيا آخر أسقط القضية في وقت سابق هذا العام.

 منطقة مضطربة

وفي انعكاس لفقدان التواصل بين الناس والسياسيين في طرابلس والاعتقاد بأن شيئا لن يتغير، صوت ثلاثة فقط بين كل عشرة من سكان المدينة في الانتخابات البرلمانية التي أُجريت في مايو.

وشمال البلاد أحد أكثر مناطق لبنان اضطرابا منذ نهاية الحرب الأهلية، إذ أن طرابلس والمناطق المحيطة بها بيئة خصبة لتجنيد المتشددين من الشباب السُنة.

وصارت طرابلس في الآونة الأخيرة مثالا للوضع الأمني المتدهور المرتبط بالانهيار المالي.

وأعلن وزير الداخلية بسام مولوي خطة أمنية جديدة بعد تصاعد الجرائم والعنف.

وبحسب سكان من مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين فإن العشرات ممكن كانوا على متن القارب المنكوب هم من سكان المخيم المترامي الأطراف. كما كان هناك كثير من السوريين، الذين يعيش نحو مليون منهم في لبنان بصفة لاجئين.

وأدت الأزمة الاقتصادية إلى ارتفاع هائل في معدلات الفقر. ووفقا لبيانات الأمم المتحدة فإن 80 بالمئة من سكان لبنان البالغ عددهم زهاء 6.5 مليون نسمة فقراء. ولم تفعل الحكومة شيئا يُذكر لمعالجة الأزمة التي وصفها البنك الدولي بأنها ركود متعمد "دبرته" النخبة من خلال إحكام قبضتها الاستغلالية على الموارد.

وحاولت قوارب أخرى الإبحار من لبنان الأسبوع الماضي، وأنقذت قبرص 477 شخصا كانوا على متن سفينتين غادرتا لبنان.

وتقول مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين إن 3460 شخصا غادروا لبنان، أو حاولوا مغادرته عن طريق البحر منذ بداية هذا العام، أي ما يعادل أكثر من مثلي العدد عام 2021 كاملا.

ومن بين ضحايا القارب الذي كان يحمل ميستو، امرأة وأطفالها الأربعة من منطقة عكار بشمال لبنان. وأوضح رئيس بلدية القرقف، التي ينحدرون منها، يحيى الرفاعي أن الوالد كان واحدا من بين عدد قليل من الناجين. ووصف الأزمة بأنها أسوأ من الحرب الأهلية.

من سجن رومية.. أرشيفية
من سجن رومية.. أرشيفية

أطلق "معتقلو الرأي السوريون" في سجن رومية، شرق بيروت، معركة الأمعاء الخاوية، حيث بدأوا، الاثنين، إضراباً عن الطعام احتجاجاً على "فقدان 10 معتقلين سوريين نتيجة الوضع الصعب وانعدام الرعاية الصحية"، وفقاً لما ذكره المرصد السوري لحقوق الإنسان، نقلاً عن مصادر حقوقية.

ولن يقبل "المعتقلون" الطعام والخبز المقدّم من إدارة السجن، حيث "سيستمرون في الإضراب إلى حين تحقيق مطالبهم الإنسانية في ملفي الصحة والغذاء، كونهم يعانون من اهمال حالتهم الصحية ومن سوء التغذية" بحسب ما أورد المرصد.

كما يعاني "معتقلو الرأي السوريون" في غياهب السجون اللبنانية بحسب المرصد، من "تلفيق التهم ومحاسبتهم على ذنب لم يُقترف وحرمانهم من المحاكمة العادلة ومن حق رؤية ذويهم، وكذلك من التعذيب النفسي والجسدي، في ظل تنصل ولامبالاة السلطة اللبنانية في معالجة ملفهم وغياب دور المنظمات الحقوقية والإنسانية في متابعة هذا الملف".

ويقبع في السجون اللبنانية ما يقرب من 6685 سجينا، بحسب إحصائيات مديرية السجون في وزارة العدل، "حوالي 2500 منهم من الجنسية السورية" وفقاً لما يقوله المدافع عن حقوق الإنسان، المحامي صبلوح لموقع "الحرة"، "من بينهم نحو 400 من معتقلي الرأي".

"اتهامات ملفقة"

ويرى مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان، رامي عبد الرحمن، أن "السجون في المنطقة أصبحت متشابهة، سواء كان سجن صيدنايا سيء الصيت، أو سجن حوار كلس في ريف حلب الشمالي، أو سجن رومية"، ويوضح أن "جميع هذه السجون تحتجز معتقلي الرأي الذين لا علاقة لهم بقضايا جنائية، ويتم اتهامهم بالإرهاب دون أدلة، بل بناءً على توصيفات من جهات رسمية".

ويشدد عبد الرحمن، في حديث لموقع "الحرة"، على أن "من لم يثبت تورطه في القتل أو المشاركة في عمليات إرهابية يعد معتقل رأي وليس مجرماً جنائياً أو أمنياً".

و"يواجه غالبية معتقلي الرأي السوريين في السجون اللبنانية اتهامات متنوعة"، تشمل كما يوضح صبلوح "المشاركة في أحداث عرسال عام 2014، والانضمام إلى تنظيمات مصنفة إرهابية، أو معارضة نظام بشار الأسد ومشاركتهم في الحرب السورية، ويقبع بعض هؤلاء خلف القضبان منذ عام 2013 دون محاكمات عادلة أو تقدم ملحوظ في قضاياهم".

ويكشف صبلوح عن "سياسة ممنهجة تتبعتها السلطات الأمنية اللبنانية، تستهدف معارضي نظام الأسد، حيث يتم تلفيق أدلة ضدهم وتقديمهم لمحاكمات صورية. وبالإضافة إلى ذلك، يتعرض هؤلاء المعتقلون للتعذيب خلال استجوابهم، وهو ما تجسد بوضوح في قضية بشار السعود، الذي لقي حتفه عام 2022 نتيجة التعذيب الذي تعرض له".

لكن الحكومة والقضاء اللبناني لا يعترفان، كما تؤكد الناشطة الحقوقية المحامية ديالا شحادة لموقع "الحرة"، بـ "معتقلي رأي" في السجون اللبنانية.

غير أن "ملاحقة وسجن ومحاكمة وادانة الآلاف من السوريين على مر السنوات العشر الأخيرة لمجرد ممارستهم حق تقرير المصير في سوريا من دون انتهاك أي قوانين دولية من التي ترعى النزعات المسلحة"، لا يمكن تصنيفه وفق ما تقوله شحادة سوى على أنه "اضطهاد لمن عارض نظام بشار الأسد وقاوم طغيانه وبطشه، وكل ملاحقة قضائية ذات خلفية سياسية تندرج ضمن سياسات قمع الحقوق الأساسية اللصيقة بالإنسان ومنها الحق في تقرير المصير وحرية الرأي والتعبير".

ظروف "مميتة"

اضراب أي سجناء في السجون اللبنانية نتيجة حتمية، كما تشدد شحادة "لاكتظاظ السجون بثلاثة أضعاف قدرتها الاستيعابية ولتراجع الخدمات الأساسية ومنها الغذائية والطبية".

وما يزيد من نقمة عدد من السجناء، وفق شحادة "هو امتناع المحاكم المختصة عن تقصير فترات التوقيف الاحتياطي رغم تردي ظروف السجون وطول أمد بعض المحاكمات".

و"يواجه معتقلو الرأي السوريون في سجن رومية، مثل باقي السجناء، ظروف كارثية"، كما يقول صبلوح، مشيراً إلى أنهم يعانون من "أوضاع معيشية صعبة للغاية نتيجة نقص التمويل الذي أدى إلى حرمانهم من أبسط حقوقهم الأساسية، كما يعانون من ظروف قاسية وغير إنسانية، حيث يواجهون درجات حرارة مرتفعة في الصيف وبرداً شديداً في الشتاء، إضافة إلى التلوث البيئي والحرمان من طعام ذي جودة وكميات كافية".

ووصل تدهور الأوضاع في سجن رومية إلى حد وفاة عدد من السجناء، بحسب ما يقول صبلوح، وذلك "نتيجة توقف الأطباء عن زيارة السجون، وعدم قدرة السجناء على إجراء الفحوص الطبية والعمليات الجراحية التي يحتاجون إليها، فكل ما له علاقة بالأوضاع الصحية للسجناء تقع على كاهل أهلهم بينما تنتمي غالبيتهم إلى الطبقة الفقيرة".

مطالبة بالحزم

منذ سنوات، يرفع "السجناء السوريون المعارضون لنظام بشار الأسد في سجن رومية" الصوت مطالبين بوضع حد لمأساتهم، ولكن بدلاً ذلك كلّفت الحكومة اللبنانية، المدير العام للأمن العام بالإنابة، اللواء إلياس البيسري، في أبريل الماضي، بإعادة التواصل مع السلطات السورية لحل قضية السجناء والمحكومين السوريين في السجون اللبنانية، أي تسليمهم للنظام السوري.

وقبل ذلك، "سلّمت السلطات اللبنانية معتقلين سوريين إلى النظام السوري" وفقاً لما يقوله صبلوح، وهو ما دفع أربعة سجناء سوريين في سجن رومية إلى محاولة الانتحار في مارس الماضي، باستخدام الأغطية كأدوات للشنق، قبل إنقاذهم في اللحظات الأخيرة.

ويؤكد صبلوح أن "معتقلي الرأي السوريين مشمولون باتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب لعام 1984، التي تمنع تسليم أي شخص يمكن أن يتعرض للتعذيب في بلده"، موضحاً أن "تحركات السجناء السوريين نجحت في تجميد خطوة الحكومة اللبنانية، مما يشكل انتصاراً مؤقتاً في معركتهم ضد التسليم القسري، على أمل أن يتخذ قرار إنسانياً بحلّ ملّفهم عما قريب".

"يهدد معتقلو الرأي السوريون بالتصعيد سلمياً في حالة عدم الاستجابة لمطالبهم"، كما أشار المرصد، موضحاً أن "التنكيل الذي يتعرضون له يخالف كل القرارات والقوانين الدولية، ورغم الدعوات المتكررة لإطلاق سراحهم فإن ملفهم ما زال عالقاً منذ عشر سنوات".

ويؤكد عبد الرحمن أن "الحكومة اللبنانية تتحمل مسؤولية سجونها"، داعياً المجتمع الدولي إلى "تسليط الضوء على هذه القضية"، بينما أوضح المرصد أن "إنقاذ هؤلاء المعتقلين يتطلب موقفاً حازماً من المجتمع الدولي"، الذي يجب أن يدافع عن حقوق "سجناء الرأي والكلمة الحرة، الذين فروا من ويلات الحرب والموت في سوريا ليجدوا أنفسهم محاصرين في المعتقلات اللبنانية، ومتّهمين بالتطرف لمجرد معارضتهم للنظام السوري".