نجا اللبنانيون جسديا من ارتدادات الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا، لكن نفسيا، الأضرار كانت جسمية، فمنذ لحظة وقوع الكارثة وهم يعيشون في حالة رعب، دفعت ببعضهم إلى عدم المبيت في منازلهم وقضاء لياليهم في العراء رغم الظروف المناخية القاسية.
ساهمت الإشاعات حول احتمال حصول زلزال في لبنان، في رفع منسوب الخوف لدى اللبنانيين، لا سيما بعد أن ضربت هزة أرضية مساء الأربعاء وطنهم المترنح على حافة الانهيار الاقتصادي والاجتماعي والمعيشي، إضافة إلى تحذير بعض الخبراء الجيولوجيين مما ينتظر البلاد في الساعات القادمة.
أمس الخميس، دعت مديرة المركز الوطني للجيوفيزياء مارلين البراكس، المواطنين للبقاء في حالة تأهّب لمدة 48 ساعة وتجهيز حقائبهم، معلنة في حديث صحفي " عن تسجيل 11 هزة ارضية في لبنان خلال الساعات الماضية، وأكبر هزة حصلت منذ الإثنين كانت يوم الأربعاء، وقد وقعت على حدود الهرمل، وهي ليست ارتدادية انما على فالق اليمونة".
ولفتت إلى أن "الهلع لا يُفيد، فأنا شخصياً جهزت حقيبة وضعت فيها مبلغا مالياً والأغراض الثمينة والأدوية وجواز السفر، وسأغادر المنزل في حال وقوع أي هزة قوية، وعلى اللبنانيين القيام بالمثل".
لكن لجنة تنسيق عمليات مواجهة الكوارث والأزمات الوطنية أشارت إلى أن "أخبارا مغلوطة جرى تداولها تحذر المواطنين من خطر حصول هزة أرضية مدمرة وتدعوهم للخروج إلى الأماكن المفتوحة، بعد الهزة الأرضية التي شعر بها اللبنانيون"، حيث نفت اللجنة "هذه الإشاعات المتداولة، مؤكدة أنها "عارية من الصحة".
حتى موضوع الزلازل لم يوحد الخبراء على رأي، فالمعلومات متناقضة ومتضاربة، وبين من يحذّر ويهوّل ومن يطمئن ويهدئ، يعيش اللبنانيون في حالة ارباك من مسلسل الرعب الجديد.
صعوبة التخطي
منذ اللحظة الذي استيقظت فيها رانيا على اهتزاز سريرها وغرفتها وهي تعيش في خوف دائم من تكرار المشاهد التي لا تفارق مخيلتها، وتقول "هو أصعب يوم عشته في حياتي، لم أستطع حتى الآن تخطي ما حدث ولن أقوى على ذلك خلال مدة قصيرة، فالرعب الذي شعرت به لا يوصف، حينها كان كل شيء يهتز من اسفلي وفوقي وجميع الاتجاهات، وسط صرخات أفراد عائلتي، شعرت أن الموت يحاصرنا جميعاً والنجاة منه ضرب من الخيال، فرغم اننا ندرك انه الحقيقة الثابتة على هذه الأرض لكن حين يقترب منا لا يمكننا تقبله".
ما اهتز بالفعل خلال لحظات الكارثة ليس المبنى والجدران والأثاث، كما تشدد إبنة طرابلس "بل قلبي وروحي، ففي أقل من دقيقة استعدت كل شريط حياتي، هربت وعائلتي من المنزل بملابس النوم، من دون أن نفكر لا بالأموال التي جمعناها ولا بالذهب الذي كنا نخشى عليه ولا بالأوراق الرسمية التي تثبت هويتنا، حالنا كحال بقية الجيران وأبناء الحي، فالجميع كان يريد النجاة بنفسه".
وتضيف "خلال تلك اللحظات المشؤومة، بدأ إطلاق النار بكثافة من قبل بعض شبان المدينة لإيقاظ من كان نومه أعمق من قوة الزلزال، لتغص بعدها الطرق بالمواطنين المذهولين الذين لا يعلمون كيف المفر من الموت، ساعات امضيناها في الشارع لم نتجرأ على الصعود إلى المنزل الذي كنا نعتبره في السابق بأنه الملجأ والأمان، لكن ثبت أننا كنا مخطئين، اكتشفنا أن المباني الشاهقة أوهن من بيت العنكبوت وبأنها آيلة للسقوط في ثوان، وللأسف تكرر مشهد هروبنا بعد الهزة الارضية الثانية، حيث اجبرنا على تمضية ليلة أخرى في العراء".
كذلك تعيش وداد ذات حالة رانيا، خوف وترقب، وتشرح "48 ثانية لا يوازيها أي رعب عشته على مدى سنوات عمري، لا حرب ولا جولات قتال ولا تفجيرات تقارن أمامه، حينها سارعت ووالدي إلى الشارع مستعينة بضوء الهاتف لكسر الظالم الحالك، كان صراخ الجيران يزيد من توتري ودقات قلبي"، وتضيف "لوهلة اعتقدت انه يوم القيامة، اشخاص يركضون في الشارع من دون معرفة الوجهة، بكاء وصريخ لا يزال يتردد صداه في اذنيّ".
زادت المشاهد المتداولة من تركيا وسوريا لضحايا الزلزال والدمار الهائل الذي أحدثه من حالة الرعب التي تعيشها وداد، وتقول "أي عقل يمكنه استيعاب أن أقل من دقيقة كانت كفيلة بحصد هذا الكمّ الهائل من الأرواح ونسف مناطق كاملة عن وجه الأرض، كيف لي بعد ذلك ألا أفكر بأن الموت يتربص بي، الآن كل ما اتمناه ألا ألفظ أنفاسي تحت الأنقاض، فمن المؤكد أن المنزل الذي أسكنه لا يستطيع الصمود أمام هزة بسيطة فكيف إن كانت مدمرة".
محاولة الهروب خلال الزلزال لمن لديه أطفال أمر ليس سهلا كما يقول رامي، ويشرح " بداية لم أكن اتوقع أن اواجه هكذا حدث كارثي، من هنا استغرقت وقتا كي أستوعب ما يحصل ليل الاثنين الماضي، حينها استيقظت من النوم على صوت صراخ زوجتي وولديّ، اعتقدت بداية أنه يخيّل لي أن الأرض تهتز، وحين أدركت الحقيقة ارتبكت، لم أعلم ما يجب فعله، لكن بعد أن شعرت أن السقف سينهار علينا، تقاسمت وزوجتي حمل أولادنا الثلاثة، وسارعنا إلى الشارع من دون أن أتذكر حتى جلب قارورة الحليب لطفلتي".
بعد الذي حصل أصيب رامي بالأرق، اذ بات يخشى على أطفاله من تكرار السيناريو المرعب خلال نومه، كما أن ولديّه كما يقول "مصابان بالذعر، يخافان من التنقل داخل المنزل بمفردهما خلال الليل" لافتاً إلى أنه "اكتشفت أن كل الأزمات التي يمر بها لبنان أسهل بكثير من الكوارث الطبيعية التي لا يعلم أحد متى تحصل ومدى أضرارها".
أرضية خصبة للمخاوف
أوعز رئيس بلدية طرابلس أحمد قمر الدين، ليل الأربعاء الماضي، إلى المسؤولين عن الحدائق العامة بفتحها أمام أهالي المدينة بعد خروج عدد من السكان من منازلهم خوفا من الهزة التي حدثت مساء ذلك اليوم، وفي حديث لموقع "الحرة" رد قمر الدين خوف ابناء طرابلس الى الاشاعات التي تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، قائلاً "خشية الأهالي على ابنائهم وأنفسهم تدفعهم إلى البقاء في خارج منازلهم"، وعن دور الأبنية المتصدعة في رفع منسوب الخوف أجاب "90% منها كانت على هذا الوضع قبل الهزة التي ضربت البلاد الاثنين ".
يشير قمر الدين الى أن "المدينة معروفة بأبنيتها التراثية والقديمة التي تحتاج إلى صيانة، وهذا الامر يقع على مسؤولية مالك العقار، لكن أبناء طرابلس القديمة غادروها، والمستأجرون ليس بمقدورهم تحمل تكاليف الترميم، خاصة في ظل الوضع الاقتصادي الصعب".
كذلك تشير رانيا الى أن أسباباً عدة ترفع منسوب الهلع لدى أهالي طرابلس، "على رأسها ان مساكن معظمهم متصدعة لا تحتمل أي هزة، كما أنهم لا يحتملون مزيدا من المعاناة، فكما هو معروف بأن هذه المدنية من أفقر مدن لبنان التي لا وجود لها على خارطة اهتمامات المسؤولين، وبالتالي فإن أي كارثة جديدة سيدفعون ثمنها أضعافا مضاعفة".
بعد ان دعت مديرة المركز الوطني للجيوفيزياء مارلين البراكس، المواطنين للبقاء في حالة تأهّب وتجهيز حقائبهم، أمضت رانيا وعائلتها الليل في العراء، وتقول "رغم أني اسكن في مبنى غير متصدع، لكن في مواجهة الزلزال لا يمكن لأي أساسات أو جدران الصمود، كما أنه بمجرد رؤية الجيران يهربون يصبح البقاء في المنزل ضرب من الجنون".
كان المشهد يوحي بأن الكارثة حلّت، تكبيرات في المساجد، أشخاص تركض في الشارع، زحمة سير خانقة، باصات أخذت على عاتقها نقل المواطنين، شعرت أننا نازحون فكل شيء يوحي بذلك، من الفرش إلى البطانيات التي جلبها بعض السكان معهم إلى الحطب الذي اشعلوه للتدفئة" وتؤكد "هل من يصدق أني بت أتمنى أن يضرب الزلزال وننتهي من هذا الوضع، فالخوف من امر ما وترقبه أصعب من حدوثه".
وتشدد "على وزير الإعلام ضبط الإشاعات، فليطل على المواطنين ويطلعهم بحقيقة الوضع، فإما أن يطمئنهم أو أن يحذرهم، لا أن تترك المنابر للخبراء غير المتفقين أصلا فيما بينهم، فمنهم من يدب الزعر في النفوس وآخرون يتحدثون عن أن لا شيء خارج عن المألوف، آراء وتوقعات متضاربة ومشاهد مرعبة نتابعها بحزن وأسى لضحايا الزلزال في تركيا وسوريا، لذلك ليس من المستغرب الحالة النفسية التي نمر بها".
تأهب وتطمينات
تعيش وداد على أهبة الاستعداد للهرب، وتقول جهزّت "حقيبة صغيرة وضعت فيها اوراقي الثبوتية ومبلغ مالي وأدوية والدي، وذلك من باب الاحتياط في حال كتب لنا النجاة ان يكون بحوزتنا ما جنيناه على مدى السنوات" وتضيف "لهذه اللحظة لم أتخط الأمر، طوال الوقت أراقب الثريات في السقف لكشف أولى ثواني الهزة لمغادرة البيت"، مشددة "على السلطة اللبنانية محاكمة كل شخص ينشر خبراً كاذباً يثير الرعب، فصدقاً لم يعد باستطاعتنا تحمل المزيد، ألا يكفينا الوضع الاقتصادي والمعيشي الكارثي الذي نعيشه، لتضاف كارثة جديدة لم تكن بالحسبان".
رغم مخاوف اللبنانيين من الأسوأ، إلا أنه على أرض الواقع "لم يرفع الزلزال الذي ضرب تركيا منسوب خطر وقوع زلزال في لبنان القائم على فالق مختلف عن الفالق التركي ألا وهو فالق البحر الميت" بحسب ما يؤكد الباحث في الجيولوجيا في الجامعة الأميركية، الدكتور طوني نمر، لافتاً إلى أن "غالبية الحركة الزلزالية هي على الفالق التركي، وتأثيراتها لا تصل إلى فالق البحر الميت".
نمر يشدد في حديث لموقع "الحرة" على أنه "لا أحد يمكنه توقع مكان وزمان حدوث الزلزال، أما ارتفاع عدد الهزات التي نشهدها في لبنان فيعود إلى تحرّك الأرض وارتجاج الصخور والفوالق قليلاً، وخلال اسبوع يعود الوضع إلى ما كان عليه"، نافياً أن تكون الهزة التي ضربت لبنان مساء الأربعاء الماضي قد وقعت على فالق اليمونة وهو أكبر الفوالق في لبنان "بل على بعد 15 كلم منه".
كذلك أفادت مصلحة الأبحاث العلمية أن الهزة التي حدثت مساء الأربعاء هي هزة "اعتيادية تحدث مرات عديدة في لبنان وهي ليست مؤشر الى ما يقال إنه زلزال بقوة 7.3 سيدمر لبنان" متسائلة "كيف علموا انه سيكون هناك زلزال وكيف علموا بدرجة قوته، فالزلزال لا تُحدد الا عندما تحدث".
وتوجه رئيس مجلس إدارة-مدير عام، مصلحة الابحاث العلمية الزراعية ميشال افرام إلى "كل من يبخ السم عبر وسائل التواصل الاجتماعي بالقول "ألم تكتفي بما فعلته بأعصاب الشعب اللبناني، واجباره على المبيت ليلاً على الطرقات بهذا البرد القارس" مطالباً بمحاسبة كل مطلقي الاخبار الكاذبة من قبل القضاء وأجهزة الامن كافة، "لأن اللعب بأعصاب الناس خطير جداً".
وشرح "علمياً، فالق البقاع واليمونة لا يتسبب بزلازل كبيرة إنما بهزات متوسطة، أمام زلزال تركيا، فخلافاً للخارطة المتداولة لا يتحرك جنوباً، فهو حدث بمكانه ولا يتحرك مركزه من مكان الى آخر".
آثار متعددة
تعد الزلازل من أخطر الكوارث الطبيعية نتيجة حدوثها بشكل مفاجئ وقدرتها على حصد عدد كبير من الضحايا وإحداث دمار شامل، من هنا كما تقول اخصائية علم النفس هيفاء السيد "تأثيرها النفسي والجسدي على الأشخاص كبير وإن بنسب متفاوتة، حيث يتوقف ذلك على مناعة كل فرد النفسية ودرجة وعيه. فالكوارث الطبيعية "تزلزل" الغلاف النفسي للإنسان، توقظ مخاوفه المكبوتة وشعوره بعدم الأمان، فيفتقد الانتماء للواقع ويعاني من القلق والخوف والأرق وعدم القدرة على التركيز".
تستمر أعراض اضطراب ما بعد الزلزال النفسية بحسب هيفاء "ما بين أيام وبضعة أشهر، وتتضمن الهلع والرعب والتوتر واسترجاع الذكريات المؤلمة إضافة إلى الشعور بالعزلة والذنب وعدم التركيز والارق ورؤية كوابيس في المنام، وعلى المدى الطويل قد يصاب الإنسان بالاكتئاب، وتتراجع آثار هذه الأعراض تدريجيا مع مرور الوقت والتأقلم مع الحدث المسبب لها، من دون أن يمحي ذلك الذكريات المؤلمة خاصة إذا تعرض الشخص لمحفز يذّكره بالصدمة".
وتضيف "يمكن معالجة هذه الآثار النفسية من خلال التعبير عن المشاعر بالرسم والتمثيل والرياضة، وعند ملاحظة صعوبة التأقلم مع هذا الحدث والميل إلى الانعزال والخوف الدائم يجب استشارة اخصائي نفسي".
كما قد يترك الزلزال آثارا جسدية على الناجين، منها كما تشير الاخصائية النفسية "على الاذن الداخلية، حيث يظهر ذلك من خلال التأرجح الوهمي للجسد الذي قد يستمر لوقت طويل، وهو ما يعرف بالدوران أو عدم التوازن، كما قد تظهر بعض الاضطرابات الحسيّة والمشاكل الصحية لاسيما في المسالك البولية، عدا عن المعاناة من الرؤية غير الواضحة والغثيان والتقيؤ والاجهاد اللاإرادي".
ونصحت هيفاء المواطنين بعدم إيلاء الشائعات أي أهمية، خاصة التحذيرات من هزات قادمة، كون هذه التنبؤات غير صحيحة من الناحية العلمية، وفي حال وقعت الكارثة "عليهم الاحتفاظ بهدوئهم وعدم الانجرار وراء ردات الفعل، ومغادرة المباني لاسيما المتصدعة منها" مشيرة إلى أنه "على وسائل الإعلام نشر الوعي، من خلال بث برامج توعوية متخصصة بموضوع الزلازل، لاطلاع المواطنين على كيفية التعامل قبل وخلال وقوع زلزال وكيفية الوقاية من أضراره".