طفح كيل اللبناني "أبو علي" حمادة، فخرج على الملأ عبر فيديو انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، طارحاً من خلاله معاناته من تعاطي ابنه للمخدرات وعدم تجاوب القوى الأمنية مع اتصالاته لتوقيفه كما أشار، ملمّحاً إلى إمكانية اقدامه على ارتكاب جريمة بحق من فرح يوماً بولادته حالماً بأن يكون عوناً وسنداً له في كبره وإذ بكل أحلامه تتحطم على عتبة عالم الإدمان.
وجع "أبو علي" يشبه وجع عدد كبير من العائلات في لبنان وخارجه، ممن غرق أحد أفرادها أو أكثر في مستنقع المخدرات، لكن قصصها لا تزال طي الكتمان خلف جدران منازل فضّل ساكنوها سجنها لأن البوح بها قد يجلب لهم العار. ومنهم عائلة تسكن في العاصمة بيروت، ابتلي الوالد وأبناؤه الثلاثة بهذه الآفة، لتعيش الأم مأساة يصعب تصورها.
الحديث عن عالم الإدمان الذي دخله هادي (اسم مستعار) وشقيقاه أمر طبيعي جداً بالنسبة لهم وحتى أمام والدتهم، يروي الشاب الثلاثيني كيف طرق هذا الباب والخبايا خلفه وما واجهه نفسياً وجسدياً، وكيف انقاد إلى ارتكاب الجرائم من أجل الحصول على المال لتأمين ثمن الممنوعات التي باتت كل هدفه في الحياة.
دُفع هادي إلى هذا العالم، كما يقول لموقع "الحرة"، حيث كان عدم الاستقرار العائلي من أهم الأسباب "من سيجارة حشيشة حصل عليها من صديقه إلى كل أنواع الحبوب المخدرة فالكوكايين والباز". ويشرح "كنت أبلغ من العمر 15 سنة، استمريت بتدخين الحشيشة إلى أن تعرفت على شاب من جنسية عربية في منطقة الروشة في العاصمة بيروت، فبدأ بوضع حبوب البنزكسول لي في المشروبات الغازية من دون علمي، إلى أن ادمنتها".
في تلك الفترة كان هادي يمضي أيامه في الشوارع بعدما طرده والده من المنزل، وذلك حين علم كما تقول والدته سميرة (اسم مستعار) لموقع "الحرة". إنه "مثليّ الجنس"، مضيفة، "لم يبال زوجي بتحذيري له من الإقدام على هذه الخطوة، بعدما أطلعني الأطباء بوضع بكري، ومما علمته منهم أنه تعرض للاغتصاب وهو في عمر التسع سنوات من ابن صاحب المنزل الذي كنا نسكنه، وبأن هرموناته الأنثوية تفوق الذكورية، لكن للأسف لم يتقبل زوجي الأمر، رفض بقاءه في البيت بدلاً من احتوائه واحاطته بالرعاية والاهتمام".
وفق تقرير المخدرات العالمي لعام 2022 الصادر عن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، تعاطى حوالي 284 مليون شخص تتراوح أعمارهم بين 15 و64 عاماً المخدرات في جميع أنحاء العالم في عام 2020، بزيادة قدرها 26 في المئة عن العقد السابق.
"وحول" الادمان
من حبة بنزكسول إلى ثمانية، ومن الحبوب المخدرة إلى "الباز" انتقل هادي، ويشدد "تؤدي حبوب البنزكسول إلى الهلوسة، حيث كنت أرى النافذة تتحرك والسقف يرتفع وبأن شيئاً ما يسير على جسدي، كذلك الحال فيما يتعلق بالباز".
إضافة إلى تعاطي ابنها للباز، عانت سميرة من إدمان زوجها لهذه المادة، وتقول "كلما حرق من هذه المادة يحتاج إلى مزيد، والنتيجة يصبح عصبيا إلى حدود لا يمكن وصفها، لا يمكن الحديث معه، فأي كلمة أنطقها يعتبرها إهانة، يبدأ بالشتم والضرب وتحطيم كل ما يجده أمامه، وفوق ذلك يهلوس، يغلق الأبواب وقارورة الغاز لا أعلم لماذا، يشك بكل ما يدور حوله، وأحيانا يعتذر ويعبّر عن ندمه بعدما أُطلعه على ما فعله، يعدني بالتوقف عن التعاطي من دون أن يفي بالوعد، الأمر الذي دفعني إلى التفكير مرات عدة بإبلاغ القوى الأمنية".
كذلك عانت غنى (اسم مستعار) من انجرار شقيقها سعيد (اسم مستعار) إلى وحول الإدمان، حيث عاشت واياه أصعب مرحلة في حياتهما، وكما تقول "لا يمكن لفتاة تحمّل رؤية أقرب إنسان إلى قلبها يُدمر أمامها من دون أن يكون بإمكانها مساعدته، فحين لم يكن يستطيع تأمين جرعة الهيرويين كان جسده ينتفض، تؤلمه عظامه ويشعر أن رأسه يكاد ينفجر إلى درجة أنه يضربه بالحائط، يدخن بطريقة هيستيرية، وغيرها كثير من العوارض التي كانت تظهر عليه".
كانت البداية من خلال سيجارة حشيشة حصل عليها سعيد من صديقه وابن بلدته بعلبك، ليتنقل بعدها مباشرة إلى الكوكايين الذي قدّمه له تاجر مخدرات كان يتردد إلى منزله، وتقول غنى لموقع "الحرة"، "الهدف من هذه الضيافة السامة هو دفعه إلى هذا العالم المظلم لكسب زبون جديد ومن ثم تجنيده كمروج للمواد المخدرة، وللأسف وقع شقيقي في مصيدته".
سريعاً انتهت "ضيافة" سعيد للكوكايين، وأصبح كأي زبون عليه دفع ثمنه، وبعد رفضه عدة مرات الانجرار الى عالم الترويج مقابل الحصول على الكمية التي يحتاجها يومياً، بدأ التاجر تقديم مادة الهيرويين له، في هذه المرحلة تقول غنى "لاحظت تغيراً كبيراً في سلوكه، أصبح عصبياً انطوائياً يغلق ستائر غرفته ويقف خلفها خائفاً يهلوس بأن القوى الأمنية حضرت لإيقافه، ولم يعد يتفاعل مع المحيط حيث سيطر عليه الرعب".
بدأ سعيد ترويج المخدرات، حيث كان ينقلها من بعلبك إلى العاصمة بيروت، إلا أنه تعرض للتوقيف والسجن، وتشير غنى "اعتقدت أن السجن كفيل بشفائه من هذه الآفة، لأصدم بأن المخدرات متوفرة داخله وبكثرة، وبأن شقيقي كان يقايض علب السجائر بها"، وتلفت إلى أنه "بعد خروجه من السجن انتقلنا للعيش في بيروت لإبعاده عن هذا العالم، لكن ظهر أن المخدرات في العاصمة وضواحيها منتشرة بشكل أكبر من بعلبك، وفوق ذلك بدأ شقيقي يسرق من المنزل وينفذ عمليات تشلّيح على الطرق".
تجارة "الموت"
من قتل والده على يد أقاربه، إلى قرار الثأر له، فتعاطي المخدرات ومن ثم تجارتها، رحلة قطعها حسن قبل أن ينتهي به المطاف بخسارة ساقه ويده والحكم عليه بثماني سنوات سجن.
كان حسن من أشهر تجار المخدرات في مخيم برج البراجنة، والجميع، كما يقول، كانوا يخشونه. "لم يكن أحد يتجرأ على مداهمتي، إن كان من الأحزاب أو القوى أمنية، لاسيما أني ابن عشيرة وبرقبتي دم، لكن بعد الحادث الأليم الذي تعرضت له انقلبت الأمور رأساً على عقب، فلم يعد أحد من رجال الأمن يقيم لي حسابا"، يقول حسن.
أمام منزله كان التاجر السابق يعرض بضاعته من الباز والحشيش والكوكايين، ويقول لموقع "الحرة" "لم أكن أنا التاجر الوحيد في الحي الذي كان يقصده يومياً نحو 1200 شخص، فكل عشرة أمتار هناك تاجر من دون أن يتعرض أي منا للآخر، فلكل منا رجاله المحيطين به، أما يوميتي فكانت تصل إلى 5 ملايين ليرة أي ما يعادل 3500 دولار حينها" ويضيف "لا فرق بين تجار المخدرات وبقية التجار سوى نوع السلعة التي يبيعونها، ومن جهتي كنت أحصل على المخدرات من بعلبك، أطلب الكمية التي احتاجها عبر الهاتف، لترسل بحسب سكة كل تاجر التي قد تكون باصاً أو سيارة أو سيدة".
يشدد حسن على أنه كان يرفض بيع الحبوب المخدرة والهيرويين، ويقول "المواد التي كنت أتاجر بها تكيفية يمكن لمتعاطيها التوقف عن شرائها فهي لا تودي للإدمان، كما كنت أرفض بيعها للقاصرين والسارقين من أجل تأمين ثمنها، وذلك من باب خشيتي من الله ورفضي أذية الآخرين، عدا عن أن هناك خطا أحمر وضعته أحزاب المنطقة يحظر بيع هذه المواد كونها تدفع إلى السرقة والقتل".
يعود ابن بعلبك بالذاكرة إلى المرحلة التي دخل فيها إلى هذا العالم، شارحا "انتهى خلاف بين أقاربي بمقتل والدي، هنا شعرت وأشقائي بفقداننا السند رغم أننا كنا متزوجين وآباء، قررت الثأر له، أطلقت لحيتي حزناً لكن قوانين شركة المشروبات الغازية العالمية التي أعمل بها تمنع ذلك، فسُرُّحت من العمل، وبدأت أمضي معظم وقتي مع شقيقي الذي اختار طريق تجارة المخدرات بعد وفاة والدي، وحين جرى توقيفه ضاقت بي الدنيا وحللت مكانه في هذا العمل".
انتهى مشوار حسن في تجارة المخدرات بعدما انفجرت قنبلة يدوية كان يحملها، ويقول "لم أكن حينها في وعيّ، بل تحت تأثير الكوكايين، وإذ بي افتح القنبلة وقبل ان أتمكن من رميها بعيدا حلّت المأساة، سارعت القوى الأمنية إلى المستشفى ووضعت حراسة لتسوقني بعدما استيقظت من الغيبوبة إلى المخفر فالسجن، حينها كان في حقي 90 دعوى قضائية، حكم عليّ بثماني سنوات سجن، أما شقيقي فحكم عليه بـ13 سنة، مع العلم أن قاتل والدي حكم بـ12 سنة".
يرفض تاجر المخدرات السابق الذي أنهى محكوميته قبل عامين تعاطي ابنه أو ابنته لهذه المواد، رغم أنه كان لا يبالي ببيعها للشبان والشابات، مبرراً ذلك بالقول "رفضي يعود لعدة أسباب، منها أني تعاطيتها ولم استفد منها شيئاً، كما انها تحتاج إلى أموال ونحن فقراء، اذ كل ما جنيته من تجارتي فيها صرفته خلال تواجدي في السجن".
ويضيف "لم أكن أجبر أحداً على شراء المخدرات التي توهم من لديه مشاكل نفسية أو اقتصادية أو عائلية بأنه سيرتاح وينسى بعد تعاطيها، ليكتشف أن ذلك غير صحيح على الإطلاق".
تأثر الأسعار بالأزمات
أثرت الأزمة الاقتصادية على تجار المخدرات نتيجة ارتفاع الأسعار، وبحسب حسن "الحشيشة زراعة لبنانية، فقد سعرها قيمته نتيجة ارتفاع سعر صرف الدولار، أما الكوكايين والباز فيستوردان من الخارج، بالتالي تسعيرتهما بالدولار، والنتيجة أنه بعد أن كان المتعاطي يحتاج إلى ألف دولار لليلة كاملة من التعاطي، أصبح الآن يحتاج إلى ما يزيد عن الـ 20 ألف دولار، بالتالي سيتوقف عن شرائها".
تنتشر المخدرات في كل مخيمات لبنان، بحسب هادي الذي يقصد بشكل أساسي (...) لشرائها، ويقول "داخل غرفة يجري بيع جميع أنواع المواد المخدرة، لا بل تحتوي كذلك على قوارير مخصصة يمكن للزبائن استخدامها لحرق المخدرات وتعاطيها"، وعن الأسعار يشرح "قبل الأزمة الاقتصادية وارتفاع سعر صرف الدولار كان ظرف الكاريزول ما بين 20 و30 ألف ليرة، أما اليوم فوصل سعره إلى 700 ألف ليرة، طبّة أو شمّة الكوكايين ارتفع سعرها من 30 ألف ليرة إلى 500 ألف ليرة، غرام الباز يعادل 12 شحطة، الشحطة بمئة ألف ليرة".
ويضيف "كيس السيلفيا وصل سعره إلى 50 ألف ليرة بعدما كان 5000 ليرة، في حين يصل ثمن غرام الكريستال ميث إلى مليون ليرة، هذا النوع من المخدرات كفيل بتحويل الإنسان إلى هيكل عظمي، فمتعاطيه يتوقف عن تناول الطعام يبقى مستيقظاً لعدة أيام متتالية من دون أن يغمض له جفن، أما الهيرويين فمن الصعب العثور عليه في بيروت إذ إن سوقه ليس كبيراً".
يذكر هادي كيف كان يصفن في النافذة لحوالي ست ساعات بعد تعاطي الكريستال ميث "كنت أتخايل أشخاصا ممن هم فوق الأرض وتحتها، أدخن بشكل غير طبيعي، ومرات عدة أصبت بنوبات عصبية"، ويشير إلى أنه "كنا أربع أصدقاء نتعاطى المخدرات، فقدنا واحداً منا بسبب جرعة زائدة من هذه المادة فتوقفت عن شرائها".
يضع مدمنو المخدرات أنواعا عدة منها على طاولة التعاطي بحسب سميرة "كالكاريزول والفراولة والسيلفيا والسيمو، والكناكيمو والكبتاغون والريفو"، مشددة على أن "المدمن يبيع كل ما يملك من أجل الحصول على المال لشراء المخدرات، من أغراض المنزل وصولاً إلى السرقة وحتى لا يمانع من بيع نفسه"، لافتة إلى أن هادي دخل السجن عدة مرات آخرها بسبب سرقة دراجة هوائية، حيث أطلق سراحه قبل شهر".
في هذا العالم تعرّف هادي، بحسب ما يقول، "على أشخاص من مختلف الطبقات، منهم الكبير والصغير، الأمّيّ والمتعلم، منهم من يتعاطى لكي ينسى وآخر لمجرد التسلية" ويشدد "أحياناً كنت أزيد الكمية مقنعاً نفسي بأني حزين ويجب أن أنسى، لكن في الحقيقة لم يكن ذلك سوى حجة لأبرر لنفسي ما أفعله".
كل الأموال التي حصل عليها الشاب الثلاثيني ذهبت هباء في هذا العالم، ويقول "لا أريد أن أذكر المبالغ التي دفعتها، فالتفكير بذلك كفيل بإصابتي بألم في الرأس"، لافتاً إلى أنه "منذ خروجي من السجن وأنا أدخن سجائر الحشيشة فقط وكذلك أحد شقيقيّ، في حين يتلقى الآخر العلاج للإقلاع عن الإدمان".
ساحة لنشر السموم
أدت الحرب السورية، بحسب رئيس الهيئة العربية لمكافحة المخدرات، المدرب الدولي الدكتور محمد عثمان "إلى لجوء عدد من تجار المخدرات السوريين إلى لبنان ليضافوا الى إلتجار اللبنانيين الذين جعلوا من لبنان ساحة لتصنيع الكبتاغون ومنصة لتصديرها".
زادت الأزمة الاقتصادية الطين بلة، كما يشدد عثمان في حديث لموقع "الحرة"، إذ "ارتفعت نسبة المدمنين، وبالتالي ارتكاب الجرائم لتأمين ثمنها، واللافت أن الأمر لا يتوقف على السرقة أو التشليح، بل يترافق مع ضرب وطعن وإطلاق النار على الضحايا، حيث يستنهز الخارجون عن القانون حالة الانهيار التي تمر بها البلاد، ونقص عديد القوى الأمنية لا سيما مكتب مكافحة المخدرات، وعدم لعب القضاء لدوره، فبحجة أن المدمن مريض والسجون مكتظة بالمجرمين لا يتم توقيف المدمنين".
تشير المعلومات الواردة من الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا، كما لفت مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة إلى أن "حالات الصراع يمكن أن تجذب صناعة المخدرات الاصطناعية، والتي يمكن إنتاجها في أي مكان، وهذا التأثير قد يكون أكبر عندما تكون منطقة الصراع قريبة من الأسواق الاستهلاكية الكبيرة".
مصانع الكبتاغون منتشرة في لبنان، كما يقول حسن، "أكثر من سوريا، مع العلم أن مصنعاً واحداً يمكنه إنتاج كمية هائلة من هذه الحبوب في الثانية، هذه المادة غير مطلوبة في لبنان فلا يتعاطاها سوى المقاتلون كونها تحتوي على مواد منشطة تسمح لهم بالاستيقاظ لأيام متتالية، وبالتالي الهدف من إنتاجها هو التصدير"، مضيفاً "بعد الذي حصل في الفترة الأخيرة من مداهمات من قبل الجيش اللبناني لتجّار بلدة الشراونة في بعلبك، لاسيما ما حصل مع التاجر أبو سلة، غادروا إلى الحدود، حيث اشتروا جروداً تابعة للدولة السورية وبنوا عليها بيوتهم ومصانعهم".
وفي ما يتعلق بصناعة الكوكايين فقد سجلت بحسب الأمم المتحدة "رقماً قياسياً في عام 2020، حيث نمت بنسبة 11 في المئة من عام 2019 إلى 1982 طناً. ووصلت مضبوطات الكوكايين، على الرغم من جائحة كوفيد -19، إلى مستوى قياسي بلغ 1424 طناً في عام 2020. وتشير بيانات المضبوطات إلى أن الاتجار بالكوكايين آخذ في التوسع ليشمل مناطق أخرى خارج الأسواق الرئيسية لأميركا الشمالية وأوروبا، مع زيادة مستويات الاتجار إلى أفريقيا وآسيا".
أما إنتاج الأفيون فقد شهد، كما ذكرت المنظمة الأممية، "نموا في جميع أنحاء العالم بنسبة سبعة في المئة بين عامي 2020 و2021 إلى 7930 طناً، ويرجع ذلك في الغالب إلى زيادة الإنتاج في أفغانستان، غير أن المساحة العالمية المزروعة بخشخاش الأفيون انخفضت بنسبة 16 في المئة في نفس الفترة".
"لا إصلاح ولا تأهيل"
يروي هادي كيف أن توقيفه على أيدي القوى الأمنية في إحدى المرات كان كفيلاً بإنقاذ حياته، "يومها حصلت على مبلغ كبير من المال اشتريت به مخدرات، تعاطيت جزءا منها داخل مخيم (...)، وبعد خروجي تم إيقافي وأنا في طريقي إلى فندق لتعاطي الكمية المتبقية مع صديقي، ولو أكملت مخططي ربما كنت لفظت آخر أنفاسي كون الكمية التي كانت بحوزتي أكبر من قدرتي على تحمّلها".
"تسعون في المئة من الموقوفين في سجون لبنان هم من مدمني المواد المخدرة التي تؤثر مباشرة على الجهاز العصبي المركزي، وتؤدي إلى إتلاف مئة ألف خلية في الدماغ عند كل جلسة تعاطي، هذه الخلايا التي لها علاقة بالذاكرة لا تتجدد، عدا عن تأثير كل نوع على جزء محدد من جسم الإنسان"، بحسب عثمان.
مكافحة المخدرات أولوية بالنسبة لقوى الأمن الداخلي، كما تؤكد لموقع "الحرة"، لافتة إلى أن "هذه المواد هي السبب الرئيسي لمختلف أنواع الجرائم، إذ إن معظم العصابات التي نلاحقها نكتشف عند توقيف أفرادها بأنهم مدمنون".
على عكس ما يعلن، فإن السجن في لبنان كما يشير حسن "ليس للإصلاح والتأهيل، فتاجر المخدرات الصغير يخرج تاجراً كبيراً، وسارق رغيف الخبز يخرج متخصصاً بسرقة الدراجات النارية، ومزور الشيكات يصبح مزور عملة"، وفي ما يتعلق بانتشار المخدرات داخل السجون اللبنانية، علّقت القوى الأمنية على ذلك بالقول "لا شك أن هناك محاولات لإدخال الممنوعات إلى السجون، حيث نتمكن من إحباط النسبة الكبيرة منها".
أخبار يومية تنشرها القوى الأمنية عن توقيف مروجي وتجار المخدرات، لكن ماذا عن المتعاطين؟ عن ذلك تجيب "نعم تعاطي المخدرات جنحة، لكن في حال تم إيقاف مدمن وطلب إعطائه فرصة للعلاج حينها تتوقف الملاحقة بحقه، مع العلم أن دور القوى الأمنية يقتصر على توقيف المدمنين والمروجين والتجار، على أن يعود للقضاء تقرير مصيرهم".
عالم مظلم
انجرار سعيد إلى هذا العالم لم يأت من فراغ، كما تشدد شقيقته، بل من "تربية قاسية كان يمارسها والدي وصلت إلى طرده من المنزل عدة مرات، ومن مشاكل عائلية مختلفة، وبيئة تحتضن تجار السموم أو بالأصح الإرهابيين الذين يجب أن يكون مصيرهم الإعدام، كل ذلك شكّل أرضية خصبة لكي يصبح مدمناً، واليوم بعد رحلة طويلة أمضاها في قطار الإدمان أطلعنا أنه ترجل في المحطة الأخيرة لإكمال حياته بشكل طبيعي وهذا ما نتمناه".
عوامل عدة تدفع الشخص إلى الإدمان، منها نفسية واجتماعية وبيولوجية، بحسب ما تشير إخصائية علم النفس هيفاء السيد، وفي ما يتعلق بالعامل الأول تشرح "يشمل تعرض الفرد لصدمات وضغوطات شديدة، كالإيذاء الجنسي والجسدي والإصابة بالاكتئاب والعزلة والارق، كما يشمل وفرة الأموال وغياب الأدوار الأسرية خاصة السلطة الأبوية المفتقرة للحنان والتوجيه".
اما العامل الثاني فيتضمن كما تقول لموقع "الحرة"، "تدهور الأحوال المادية وصحبة رفاق السوء أو أن يكون أحد الوالدين مدمنا، كذلك المشاركة في نواد تشجع تناول المنشطات، أما عامل الوراثة فينطوي على تسلسل جيني مرتبط بالدماغ"، لافتة إلى أن "المخدرات مادة مصنعة أو طبيعية، إذا استخدمت في غير أهدافها الطبية المعدة من أجلها فإنها تذهب العقل بشكل كلي أو جزئي، وتؤثر على طاقة الإنسان وأعصابه، والتعوّد عليها يوصل إلى إدمانها".
أضرار المخدرات على المدمن والمجتمع متعددة، فمنها كما تقول هيفاء "ما يترك آثاره النفسية على المبتلى بها على صورة هلوسات بصرية وسمعية وفكرية، أو اضطرابات سلوكية تظهر ذلك من خلال عدم الاهتمام بمظهره الخارجي وشحوب بشرته والاسوداد حول عينيه، إضافة إلى قلة تركيزه وضعف بصره وعدم تقديره للمسافات والزمن، واختلال مزاجه حيث يستثار لأتفه الأمور، كما أنه يميل للعزلة بسبب صعوبات النطق والتواصل، يسيطر القلق عليه وقد يصاب بالاكتئاب والشعور بالدونية واحتقار النفس، يصرف كل ما يملكه لشرائها ويستدين وحتى يسرق وينحرف ويصبح عدائياً ناقماً على المجتمع".
وتؤثر المخدرات كذلك "على الجهاز العصبي المركزي وعلى الجهازين التنفسي والدموي، فتصيب المدمن بأمراض مزمنة كتلف خلايا الدماغ وارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب والتهابات الجلد خاصة في المنطقة المحيطة بالأنف، أما أضرارها الاجتماعية فتظهر بالتفكك الأسري من الانفصال إلى الطلاق وانعدام الشعور بالذنب عند الإساءة للآخرين، والانحرافات السلوكية والجنوح نحو القتل والسرقة والاغتصاب وتكوين العصابات ورفض القيم والمبادئ الأسرية".
رحلة العلاج
تؤدي الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة، بحسب رئيس جمعية "عدل ورحمة" الأب الدكتور نجيب بعقليني إلى إصابة المواطنين بالكآبة والقلق، "منهم من يحاول الهروب من الواقع الأليم باتجاه المواد المخدرة، معتقدين أنهم من خلالها يمكنهم نسيان الواقع إلا أنهم يكتشفون أن المخدرات سيطرت عليهم وباتوا مرتهنين لها، وهذا ما يفسّر ازدياد أعداد مدمني المخدرات ومستخدميها (غير المرتهنين لها) في بلدنا".
على الرغم من الجهود التي تبذلها القوى الأمنية لمتابعة ومكافحة مروجي وتجار هذه السموم، وتحقيقها نجاحات في إيقاف بعضهم، لكن لا يزال هناك كما يقول الأب بعقليني لموقع "الحرة"، "أسماء معروفة في هذا العالم خارج القضبان، ربما بسبب اكتظاظ السجون أو نتيجة غض النظر عن أسماء محددة لأسباب مجهولة".
حاولت غنى إقناع شقيقها بتلقي العلاج في مركز مختص للتغلب على هذه الآفة لكنه رفض، وتشرح "مرات عدة سجن نفسه لأسبوعين في غرفته محاولاً الإقلاع عن تعاطي الهيرويين، كان يصاب بنوبات عصبية وأوجاع وغيرها من العوارض، لكن كل ذلك كان يذهب هباء بمجرد خروجه وجلوسه مع أصدقاء يتعاطون ذات المادة".
لكن كما يصف عثمان فإن "معظم مراكز العلاج تجارية، أي لا تتمتع بأدنى المعايير والمواصفات التي يجب أن تتوفّر بأي مركز يتّخذ على عاتقه هذه المهمة، فحتى مستشفى ضهر الباشق التابعة لوزارة الصحة اللبنانية تفرض على كل مدمن يتلقى العلاج دفع 12 مليون ليرة".
وتساءل "كيف ستستطيع عائلة فقيرة تأمين هذا المبلغ إذا كان لدى ابنها الرغبة في الشفاء الذي يفترض توافر أربعة عناصر هي، المادة والمدة والقناعة والإرادة والتي تشكل مجتمعة نصف العلاج، من هنا فتحت المملكة الأردنية الهاشمية وبالتحديد مركز العلاج من الإدمان التابع لأمنها العام، أبوابه لمعالجة المدمنين اللبنانيين مجانا، وهي مبادرة مشكورة تساهم بالتأكيد في إنقاذ كل مدمن اتخذ قرار محاربة هذا الداء".
رحلة العلاج من الإدمان تبدأ بحسب عثمان "بالديتوكس وهي مرحلة نزع السموم والمواد المخدرة من الجسم، حيث تستغرق بين أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع، ثم مرحلة إعادة التأهيل لدمج الشخص في المجتمع من جديد، في هذه المرحلة يجري العمل على تغيير النمط السلوكي بحسب الحالة التي يمر بها متلقي العلاج، وهي تفرض التنسيق مع الأهل لإبعاده عن كل مكان يذكّره بالتعاطي"، لافتا إلى أن الهرويين من أصعب أنواع المخدرات بالتالي فإن الوصول إلى محطة التعافي منه تستغرق وقتا طويلا".
أصعب ما يمكن أن يواجهه المريض بعد الشفاء هو "الانتكاسة"، أي معاودته تعاطي المخدرات، "فرفاق السوء لن يتركوه في حاله، وسيحاولون جره مجددا إلى مستنقع الإدمان".
صرخة تحذيرية
ما زالت النساء يمثلن أقلية في صفوف متعاطي المخدرات على مستوى العالم، بحسب تقرير مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، "ومع ذلك يمِلن إلى زيادة معدل استهلاكهن للمخدرات والانحراف نحو الاضطرابات المرتبطة بتعاطي المخدرات بسرعة أكبر من الرجال. وتمثل النساء الآن ما يقدر بـ 45-49 في المئة من مستخدمي الأمفيتامينات والمستخدمين للمنشطات الصيدلانية والمواد الأفيونية الصيدلانية والمهدئات والمسكنات غير الموصوفة".
ولا تزال فجوة العلاج كبيرة بالنسبة للنساء على مستوى العالم، بحسب التقرير. "فعلى الرغم من أن النساء يمثلن ما يقرب من نصف متعاطي الأمفيتامينات، يشكلن واحدا فقط من كل خمسة أشخاص يتعالجون من اضطرابات تعاطيها"، وسلط التقرير الضوء على مجموعة واسعة من الأدوار التي تؤديها النساء في اقتصاد الكوكايين العالمي، بما في ذلك زراعة الكوكا، ونقل كميات صغيرة من المخدرات، وبيعها للمستهلكين، والتهريب إلى السجون.
أغلب مدمني المخدرات ومستخدميها هم من الطبقة الفقيرة، كما يقول الأب بعقليني، "ومن يريد الشفاء من هذه الآفة يمكنه قصد مراكز العلاج ومن بينها مركزنا الذي يستقبل شهريا 280 شخصاً" لافتا إلى أن البدل المادي الذي يدفع للمركز هو مجرد مساهمة مادية لتغطية تكاليف الفحوص الطبية والفريق الذي يتابع حالات المرضى من طبيب ومعالج نفسي وممرض ومرشد اجتماعي، لا سيما مع تراجع الدعم الخارجي لهذه المراكز لأسباب عدة من بينها الحرب الأوكرانية والوضع الاقتصادي العالمي".
وحذّر الأب بعقليني من إمكانية توقف مراكز علاج الإدمان عن تقديم خدماتها التي يستفيد منها ما يزيد عن الألف الشخص، "وذلك نتيجة عدم توفر دواء البوبرينورفين، الذي يعمل على توقيف عمل الأفيونات ومنعها من التأثير على الجسم، وهو عبارة عن أقراص توضع تحت اللسان".
تحصل مراكز العلاج على هذا الدواء، بحسب رئيس جمعية "عدل ورحمة"، "من مستشفى رفيق الحريري الحكومي ومستشفى ضهر الباشق، "إلا أنه غير متوافر بشكل دائم، لذلك نضطر إلى تخفيض الكمية التي يحتاجها متلقو العلاج من حبة في اليوم إلى نصف حبة، مع العلم أن الهبة الفرنسية من هذه المادة والتي دعمتنا للصمود لفترة محددة نفذت، فلا بد من مد يد العون لهذه المراكز من قبل وزارة الصحة والمعنيين".
يضيف "نقدم لمدمني المخدرات العلاج بالبدائل الأفيونية، والعلاج الجسدي والنفسي والاجتماعي، آملين ألا ترفع وزارة الصحة الدعم كلياً عن الدواء الذي لا يزال مدعوما بنسبة 65%، وسعره قابل للارتفاع والانخفاض بحسب مؤشر وزارة الصحة المرتبط بسعر صرف الدولار في السوق السوداء"، مشدداً على أن "لهذا الدواء دور كبير في مساعدة الأشخاص الذين تلقوا العلاج على متابعة مسيرتهم اليومية وعدم الارتهان من جديد للمخدرات".
ويختم "علينا أن نؤمن بقدرة العلاج وفاعليته، وبقدرة المدمن على الشفاء وحمايته من الانتكاس ودمجه في المجتمع، باختصار علينا أن نؤمن بالحياة".
أما الوقاية من الإدمان فتتطلب، بحسب هيفاء، "نشر التوعية بمخاطر المخدرات وأضرارها وبأن قطارها قد يوصل إلى السجن أو الإصابة بأمراض خطيرة كالسيدا وحتى الموت، كما تفرض على الأسرة لعب دورها الداعم في تنشئة أبنائها على أسس سليمة معنوياً وعاطفياً وتوجيهياً، وفي حال الوقوع في شرك الإدمان يجب التوجه إلى مركز علاج يشرف عليه أطباء مختصين للحصول على الدعم الطبي اللازم والكفيل بإظهار نقاط قوة الشخص وقدرته على المقاومة حتى النهوض من وحول الإدمان والسير بخطى ثابته نحو مستقبل مشرق بعيداً عن كل أنواع السموم".