في بيروت.. محاولات للعيش وسط الأزمات
في بيروت.. محاولات للعيش وسط الأزمات

"كيف يستطيع اللبنانيون تدبير أمورهم"؟.. أكثر سؤال يطرحه اللبنانيون أنفسهم، إذ رغم ارتفاع كلفة المعيشة إلى حدود خيالية والحاجة إلى ملايين الليرات شهرياً، استمروا قادرين على الصمود والاستمرار، بغض النظر عن العقبات التي تظهر في طريقهم.

أستاذة علم الاجتماع البروفيسورة مها كيّال، واحدة من اللبنانيين الذين يطرحون ذات السؤال، وتبدي تعجبها من تحّمل المواطنين الارتفاع الجنوني للأسعار، وان كان يمكن تفسير ذلك، كما تقول في حديث لموقع "الحرة"، "من خلال إعادتهم النظر في خياراتهم وأولوياتهم، إذ أصبحوا يقتصرون مصروفهم على الطعام المعدّ في المنزل، مع الاستغناء عن المأكولات غير الأساسية مثل المكسرات وغيرها، أما باقي الحاجيات فمؤجلة إلى حين النهوض من الكبوة الاقتصادية".

في بداية الأزمة الاقتصادية سنة 2019، وانهيار الليرة اللبنانية مقابل الدولار، والغلاء الذي طال كل الأسعار كان الأمر بالنسبة لهدى "صادماً"، لم تعرف وعائلتها كيفية مواجهة المرحلة الصعبة، وتقول "فجأة وجدنا أنفسنا في نفق مظلم، توقفنا للتفكير عن مخارج حقيقية، لأن الاستمرار في الصدمة وعدم محاولة امتصاصها لن يوصلنا إلى إيجاد حل للمشكلة".

قررت هدى، وشقيقتاها، البحث عن مدخول بالدولار لتأمين معيشة لائقة لهن ولوالديّهن، وتشدد في حديث لموقع "الحرة" "كنا نعلم أنه لا يمكننا تغيير واقع بلدنا، لكن بالحد الأدنى يمكننا تغيير واقعنا، وهذه هي القاعدة السحرية التي دفعتنا إلى مضاعفة مجهودنا وتكاتفنا ومساندة بعضنا البعض، حتى تمكنت وشقيقتي الصغرى من الحصول على راتب بالعملة الأجنبية، في حين أن شقيقتي الكبرى معلمة بالتالي لم تجد أمامها سوى إعطاء دروس خصوصية للطلاب بالدولار".

وتضيف: " بالتأكيد ليس كل اللبنانيين قادرين على العثور على وظيفة بالعملة الأجنبية، إلا أنه لا شك أن لديهم حلولاً أخرى لتأمين حاجاتهم الأساسية بالحد الأدنى، ولولا ذلك لكنا سمعنا عن أشخاص فارقوا الحياة جوعاً، كون لا يمكن لراتب بالعملة المحلية أن يكفي شخصاً وليس عائلة"، مشددة "هي مرحلة وستمضي، فلا شيء يستمر إلى الأبد، ويبقى الأمل أن ينتهي هذا الكابوس في أسرع وقت".

"أسلحة" المواجهة

في أكتوبر الماضي، أجرت "الدولية للمعلومات" دراسة عن الكلفة الأدنى لمعيشة أسرة لبنانية مؤلفة من 4 أفراد، مع الأخذ بعين الاعتبار الاختلافات بين السكن في القرية أو المدينة، وبين التملّك والاستئجار. وخلصت الدراسة إلى أن كلفة المعيشة تتراوح بين 20 و26 مليون ليرة شهريّاً بالحد الأدنى، وبمتوسط 23 مليون ليرة شهرياً.

أما اليوم، فإن الحد الأدنى المطلوب، بحسب ما يقوله الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين هو "29 مليون ليرة، ويشمل السكن والكهرباء والمواصلات والاتصالات والسلة الغذائية والاستهلاكية التعليم والصحة والكساء"، ويضيف في حديث إلى موقع "الحرة"، "70 بالمئة من المواطنين دخلهم أقل من هذا الرقم، وبالتالي يواجهون مشكلة في تدبير أمورهم".

أستاذة التربية الفنية الدكتورة مها خالد، واحدة من اللبنانيين الذين لا يصل مدخولهم، كما تؤكد، إلى الرقم الذي أشار اليه شمس الدين أي 29 مليون ليرة، إذ أن راتبها اليوم خمسة ملايين ونصف المليون ليرة لبنانية، وبعد أن كان يعادل قبل الأزمة حوالي 3600 دولار، أصبح اليوم يعادل نتيجة انهيار قيمة الليرة اللبنانية حوالي 120 دولاراً على سعر دولار صيرفة في شهر فبراير، ومع ذلك كما تشدد "أستطيع تدبير أموري بهذا المبلغ الزهيد ومن بيع لوحاتي بسعر الكلفة، وما أجنيه من ساعات التعليم الإضافية القليلة، التي انخفض بدلها من 30 دولارا إلى 5 دولارات للساعة الواحدة".

"أسلحة" عدة تلجأ إليها خالد لمواجهة المرحلة غير الطبيعية التي يمر بها لبنان، متبعة كما تقول حديث النبي محمد "ما أخاف على‏ أمتي الفقر، ولكن أخاف عليهم سوء التدبير"، من هنا اتبعت قاعدة التقشف إلى أقصى الحدود، حيث توقفت عن شراء الكماليات، وأصبحت اعتمد على الخضار كمصدر أساسي للوجبات، اشتريها والفاكهة مساء، كونه في الصباح تكون أسعارها مرتفعة".

تعدّ خالد "الطبخة" ليومين بدلاً من يوم واحد لتوفير الغاز، كذلك الحلويات تعدّها في المنزل، أما الأجبان فسعرها الباهظ يدفعها بحسب ما تقوله لموقع "الحرة" إلى "غض النظر عنها واقتصار الأمر على الألبان لصنع اللبنة منها، ورغم اضطراري، مثل كثير من اللبنانيين إلى تغيير عاداتنا الغذائية إلا أن ذلك لا يعني أننا لسنا سعداء، فكل ما يتم إعداده بمحبة يؤكل بسعادة أياً تكن مكوناته".

ومن الوسائل التي يمكن اتباعها كذلك للتوفير في المصروف، بحسب خالد "تركيب نظام طاقة شمسية، وهو ما قمت به بعدما ادخرت لأشهر طويلة ثمنه، حيث يزودني بستة امبير، وتخفيف استهلاك أدوات التنظيف إلى أكثر من النصف، والتوقف عن الاستعانة بعاملة منزلية، إذ اكتشفت أنه بإمكاني القيام بهذه المهمة وحدي، وفيما يتعلق بالتنقلات، لم أعد اعتمد على سيارات الأجرة إن كان بإمكاني قطع المسافة سيراً على الأقدام، مع العلم أن انتقالي من مدينتي طرابلس إلى بيروت للتعليم يتطلب تخصيص جزء مهم من راتبي يصل إلى 600 ألف يومياً عدا التعب والارهاق".

كل الحاجيات يمكن للإنسان التحكم بها، لكن ما هو خارج عن السيطرة والقدرة، بحسب الأستاذة الجامعية "المرض والفاتورة الاستشفائية، ففي هذه الحالة حتى من كانوا أغنياء أصبحوا الآن عاجزين عن الطبابة والاستشفاء".

دعم وتكافل

يستند بعض اللبنانيين المقيمين في بلدهم لتأمين حاجياتهم الأساسية، بحسب ما تقوله الخبيرة الاقتصادية الدكتورة ليال منصور، على الأموال التي تصلهم من الخارج، و"كما هو معروف فإن لبنان من بين دول العالم التي يفوق عدد مواطنيه في الغربة العدد المقيم داخل وطنهم، وفي السنوات الثلاث الأخيرة ارتفعت نسبة المهاجرين حوالي 150%، مقارنة بعام 2018 كما ذكرت الدولية للمعلومات، إذ بات لكل عائلة، فرداً أو أكثر، مقيما في دولة أجنبية يساعدها مادياً من خلال ارسال الأموال لها".

كما أن عدداً من اللبنانيين يحصلون على العملة الأجنبية، كما تشير منصور في حديث لموقع "الحرة" "من خلال عملهم في الجمعيات غير الحكومية والشركات الخاصة التي تدفع رواتب موظفيها أو جزء منها بالدولار، كما يصل إلى لبنان العديد من المساعدات الأجنبية، لكنها ليست كافية لكي يعيش اللبناني بشكل جيّد، مع العلم أن هناك عائلات لم تجد باباً للحصول على دولارات، أو أي من المساعدات المادية أو العينية، هؤلاء يعانون بكل ما للكلمة من معنى، سواء لتأمين بدلات الإيجار أو فاتورة الكهرباء أو المازوت للتدفئة، أو الطعام كي لا ينام أطفالهم ببطون خاوية".

كلام منصور تؤكده كيّال بالقول "بعض المواطنين لا يمكنهم تأمين الطعام لولا الأموال التي تصلهم من الخارج، أو المدخرات التي بحوزتهم، ومن العائلات من يتساند أفرادها في دفع مصروف البيت الذي بات يقتصر على الأساسيات".

وكان البنك الدولي قدّر حجم تحويلات المغتربين الوافدة إلى لبنان بـ6.8 مليار دولار في العام 2022، ليحل في المركز الثالث إقليميّاً مسبوقاً فقط من مصر والمغرب، إضافة إلى ذلك تبوّأ لبنان، بحسب تقديرات البنك الدولي، المركز الأول في المنطقة والمرتبة الثانية عالمياً، من حيث مساهمة تحويلات المغتربين في الناتج المحلي الإجمالي، التي بلغت 37.8% في العام 2022.

أدت الأزمة التي يمر بها لبنان إلى تبّدل الطبقات الاجتماعية، واتساع رقعة الفقر، بحسب كيّال "فأصحاب الدخل المحدود وكبار السن الذين فقدوا مدخراتهم، والمودعون الذين حجزت المصارف جنى عمرهم، ومن تآكلت قيمة رواتبهم التقاعدية أو تعويضات نهاية خدمتهم، ومن فقدوا وظائفهم، كل هؤلاء فرض عليهم الانضمام إلى الطبقة الفقيرة وفقدان الأمان الاجتماعي والحماية الصحية، في حين برزت فئة استفادت مما يدور في لبنان ككبار التجار والمحتكرين والعاملين في السوق السوداء للدولار، إضافة إلى أن بعض اللبنانيين لم يتأثروا بالأزمة سواء لأن رواتبهم بالعملة الأجنبية أو لأنهم رجال أعمال، وهو ما يفسّر مشهد المقاهي والمطاعم التي تغصّ بالزوار".

المشهد في المطاعم وفي المنتجعات السياحية لا يوحي بأن لبنان يمر بأزمة، لكن الحقيقة كما تشرح منصور أن "رواد هذه الأماكن هم السواح واللبنانيون المغتربون، أو المقيمون الذين يقبضون بالدولار أو رجال وأرباب الأعمال والمصالح، ورغم الحركة الاقتصادية التي يساهمون بها، إلا أن ذلك لا يغير شيئاً من الواقع بأن لبنان يعيش انهياراً اقتصادياً، كذلك الحال فيما يتعلق بأموال المغتربين التي لا تدخل ضمن إطار التوظيف والاستثمارات، اذ جلّ هدفها تأمين متطلبات الحياة اليومية للمستفيدين منها لا أكثر".

وتضيف "تحليل الحالة الاقتصادية لبلد ما، يستند على قدرة المواطنين من الطبقتين المتوسطة والفقيرة في تأمين حاجياتهم الأساسية من طعام وشراب وكساء وكهرباء وأقساط مدرسية وفاتورة استشفائية، وعند القيام بذلك نكتشف الحقيقة المرّة".

الخير مستمر

رغم مخاف بعض اللبنانيين من الموت جوعاً، أو على أبواب المستشفيات، إلا أنه في كل مرة يتأكدون، كما يقول رئيس جمعية عكار الزاهر الخيرية، رئيس اتحاد روابط مخاتير عكار ومختار بلدة ببنين، زاهر الكسار، أن الخير لم ينته، والدليل أنه "بعد أربع سنوات على الأزمة الاقتصادية لا يزالون يستطيعون تأمين طعامهم والدواء والاستشفاء بفضل من الله، ومن ثم المغتربين الذين لم يتركوا أهلهم في محنتهم لا بل منهم من يقف إلى جانب بلدته وليس فقط أهله، وإذا كان بعضهم يخجل في السابق من إرسال 100 دولار كونها كانت تعادل 150 ألف ليرة، فإنه اليوم لا يجد نفسه محرجا، لا سيما وأنها باتت تعادل نحو 8 ملايين ليرة".

ويلفت الكسار إلى الدور الأساسي الذي تلعبه وزارة الشؤون الاجتماعية "من خلال برنامجي الأسر الأكثر فقراً وأمان، اللذين يغطيان عدداً كبيراً من اللبنانيين، إذ يحصل حامل بطاقة أي من البرنامجين على مبلغ شهري قدره 20 دولار لكل فرد من أفراد الأسرة، على أن يكون الحد الأقصى للأفراد المستفيدين ستة، بالإضافة إلى مبلغ ثابت بقيمة 25 دولار للأسرة الواحدة، وقبل يومين تم صرف ثلاثة أشهر، وحصلت بعض العائلات على 450 دولار"، ويشدد "انعكس قرار وزير الشؤون الاجتماعية، هكتور حجار، بتمديد الدفع لحاملي هذه البطاقة ستة أشهر إضافية، ارتياحاً كبيراً لدى المستفيدين منها".

كما تلعب بعض الجمعيات والمنظمات الدولية ،كما يقول مختار ببنين "دوراً في صمود بعض اللبنانيين في ظل الوضع الصعب الذي يمرون به، وذلك من خلال التقديمات العينية والمساعدات الاستشفائية وغيرها، وكمختار أقوم بدور صلة الوصل بين المواطنين ومختلف الوزارات والمنظمات الدولية والجهات المانحة، حيث أنسق معها لتأمين المساعدات لأكبر قدر ممكن من العائلات، أما الأشخاص الذين لم يجدوا طريقاً إلى أي من أبواب الدعم هذه، فإن هناك الكثيرين من الخيّرين الذين لا يتوانون عن مد يد المساعدة لكل محتاج".

ومطلع الشهر الجاري، أشار بيان صادر عن المكتب الإعلامي للوزير حجار إلى أنه "بعدما وصل عدد الأسر اللبنانية المستفيدة من برنامج أمان خلال العام 2022 إلى 76,000 أسرة تستفيد من مساعدة مالية نقدية بالدولار شهرياً لمدة سنة كاملة، ونظراً إلى الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد، ونتيجة للعمل الذي قمنا به بالتنسيق مع وزير المالية، مجموعة البنك الدولي، برنامج الأغذية العالمي والوحدة المركزية لإدارة "برنامج أمان" في رئاسة مجلس الوزراء، وبعد موافقة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، سيتم تمديد الاستفادة لهذه الأسر لمدة 6 أشهر إضافية"، وإضافة إلى التجديد للمستفيدين القدامى، "سيستهدف البرنامج 74,000 أسرة جديدة".

سنوات عجاف.. ستمر

كيفية تأمين اللبناني لحاجياته لغز، كما يصف الناشط طارق أمون، لافتاً إلى أنه "كلما سألت أحداً من أبناء بلدتي إيزال في الضنية شمال لبنان، عن المبلغ الذي يحتاجه شهرياً لتأمين قوت يوم عائلته، يجيب مالا يقل عن 30 مليون ليرة، وحين أحاول الاستفسار عن كيفية تأمين هذا المبلغ يكون الجواب، لا أعلم الله يرزق، لا بل ويطرح البركة كذلك".

حلّ هذا "اللغز"، كما يصفه أمون هو "البطاقة التي توفرها وزارة الشؤون والحصة الغذائية التي توزعها احدى الجمعيات شهرياً منذ سنتين ونصف السنة، وهي تكفي لعدة عائلات وليس لعائلة واحدة، بالتالي هناك من يقومون ببيع حصصهم بمئة دولار، ما يعني أن سعرها الأساسي يفوق ذلك بكثير، من دون أن ننسى دور المغتربين، فلا يوجد عائلة في إيزال ليس لديها مغترب، وأنا على سبيل المثال لدي أربعة أشقاء خارج البلاد".

ولا يجب أن ننسى، بحسب ما يقول الناشط الاجتماعي زيادة رواتب موظفي الإدارات العامة، بعد تطبيق قانون الموازنة العامة للعام 2022،  الذي ينص في مادته 111 على "إعطاء زيادة للعاملين في القطاع العام وللمتقاعدين، ضعفي أساس الراتب الشهري أو أساس الأجر، سواء كان يومياً أو بالساعة أو أساس المعاش التقاعدي من دون أية زيادة مهما كان نوعها أو تسميتها، على ألا يقلّ إجمالي ما يتقاضاه المستفيد، بما فيه راتبه الاساسي، عن خمسة ملايين ليرة، وعلى ألا تزيد قيمة هذه الزيادة مهما بلغ أساس الراتب عن 12 مليون ليرة لبنانية، وهي لا تدخل ضمن المبالغ الخاضعة لاحتساب تعويض نهاية الخدمة".

ومن الحلول التي لجأ إليها البعض لتسيير وضعه، بحسب أمون "بيع قطعة أرض أو حتى لوحة سيارته العمومية وإكمال عمله على سيارة الأجرة من دونها، كما ان عدداً كبيراً من أبناء البلدة وجدوا في الحرج مصدراً للمال من خلال قطع الأشجار وبيعها حطباً"، ويضيف "بلدتنا مشهورة بزراعة التبغ الذي يباع بالدولار، وبالتالي لا يتأثر المزارعون بارتفاع وانخفاض سعر الصرف في السوق السوداء، كذلك الحال فيما يتعلق بالرعاة الذين يبيعون الماعز والغنم والأبقار بالعملة الأجنبية".

أما فيما يتعلق بالفاتورة الاستشفائية التي تشكل هاجساً كبيراً للبنانيين، فإن للمغتربين دور كبير، بحسب أمون "في مساعدة المرضى، لا سيما بعد عرض الحالات على وسائل التواصل الاجتماعي".

هي سنوات عجاف بحسب ما تصف خالد، لكن "بالتأكيد ستتبعها سنوات بحبوحة ورخاء. المطلوب منا الصبر قدر المستطاع، وهي ميزة اللبناني المعروف بالتأقلم مع مختلف الظروف، وقدرته على إيجاد البدائل وتكافله في أيام الشدائد".

من سجن رومية.. أرشيفية
من سجن رومية.. أرشيفية

أطلق "معتقلو الرأي السوريون" في سجن رومية، شرق بيروت، معركة الأمعاء الخاوية، حيث بدأوا، الاثنين، إضراباً عن الطعام احتجاجاً على "فقدان 10 معتقلين سوريين نتيجة الوضع الصعب وانعدام الرعاية الصحية"، وفقاً لما ذكره المرصد السوري لحقوق الإنسان، نقلاً عن مصادر حقوقية.

ولن يقبل "المعتقلون" الطعام والخبز المقدّم من إدارة السجن، حيث "سيستمرون في الإضراب إلى حين تحقيق مطالبهم الإنسانية في ملفي الصحة والغذاء، كونهم يعانون من اهمال حالتهم الصحية ومن سوء التغذية" بحسب ما أورد المرصد.

كما يعاني "معتقلو الرأي السوريون" في غياهب السجون اللبنانية بحسب المرصد، من "تلفيق التهم ومحاسبتهم على ذنب لم يُقترف وحرمانهم من المحاكمة العادلة ومن حق رؤية ذويهم، وكذلك من التعذيب النفسي والجسدي، في ظل تنصل ولامبالاة السلطة اللبنانية في معالجة ملفهم وغياب دور المنظمات الحقوقية والإنسانية في متابعة هذا الملف".

ويقبع في السجون اللبنانية ما يقرب من 6685 سجينا، بحسب إحصائيات مديرية السجون في وزارة العدل، "حوالي 2500 منهم من الجنسية السورية" وفقاً لما يقوله المدافع عن حقوق الإنسان، المحامي صبلوح لموقع "الحرة"، "من بينهم نحو 400 من معتقلي الرأي".

"اتهامات ملفقة"

ويرى مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان، رامي عبد الرحمن، أن "السجون في المنطقة أصبحت متشابهة، سواء كان سجن صيدنايا سيء الصيت، أو سجن حوار كلس في ريف حلب الشمالي، أو سجن رومية"، ويوضح أن "جميع هذه السجون تحتجز معتقلي الرأي الذين لا علاقة لهم بقضايا جنائية، ويتم اتهامهم بالإرهاب دون أدلة، بل بناءً على توصيفات من جهات رسمية".

ويشدد عبد الرحمن، في حديث لموقع "الحرة"، على أن "من لم يثبت تورطه في القتل أو المشاركة في عمليات إرهابية يعد معتقل رأي وليس مجرماً جنائياً أو أمنياً".

و"يواجه غالبية معتقلي الرأي السوريين في السجون اللبنانية اتهامات متنوعة"، تشمل كما يوضح صبلوح "المشاركة في أحداث عرسال عام 2014، والانضمام إلى تنظيمات مصنفة إرهابية، أو معارضة نظام بشار الأسد ومشاركتهم في الحرب السورية، ويقبع بعض هؤلاء خلف القضبان منذ عام 2013 دون محاكمات عادلة أو تقدم ملحوظ في قضاياهم".

ويكشف صبلوح عن "سياسة ممنهجة تتبعتها السلطات الأمنية اللبنانية، تستهدف معارضي نظام الأسد، حيث يتم تلفيق أدلة ضدهم وتقديمهم لمحاكمات صورية. وبالإضافة إلى ذلك، يتعرض هؤلاء المعتقلون للتعذيب خلال استجوابهم، وهو ما تجسد بوضوح في قضية بشار السعود، الذي لقي حتفه عام 2022 نتيجة التعذيب الذي تعرض له".

لكن الحكومة والقضاء اللبناني لا يعترفان، كما تؤكد الناشطة الحقوقية المحامية ديالا شحادة لموقع "الحرة"، بـ "معتقلي رأي" في السجون اللبنانية.

غير أن "ملاحقة وسجن ومحاكمة وادانة الآلاف من السوريين على مر السنوات العشر الأخيرة لمجرد ممارستهم حق تقرير المصير في سوريا من دون انتهاك أي قوانين دولية من التي ترعى النزعات المسلحة"، لا يمكن تصنيفه وفق ما تقوله شحادة سوى على أنه "اضطهاد لمن عارض نظام بشار الأسد وقاوم طغيانه وبطشه، وكل ملاحقة قضائية ذات خلفية سياسية تندرج ضمن سياسات قمع الحقوق الأساسية اللصيقة بالإنسان ومنها الحق في تقرير المصير وحرية الرأي والتعبير".

ظروف "مميتة"

اضراب أي سجناء في السجون اللبنانية نتيجة حتمية، كما تشدد شحادة "لاكتظاظ السجون بثلاثة أضعاف قدرتها الاستيعابية ولتراجع الخدمات الأساسية ومنها الغذائية والطبية".

وما يزيد من نقمة عدد من السجناء، وفق شحادة "هو امتناع المحاكم المختصة عن تقصير فترات التوقيف الاحتياطي رغم تردي ظروف السجون وطول أمد بعض المحاكمات".

و"يواجه معتقلو الرأي السوريون في سجن رومية، مثل باقي السجناء، ظروف كارثية"، كما يقول صبلوح، مشيراً إلى أنهم يعانون من "أوضاع معيشية صعبة للغاية نتيجة نقص التمويل الذي أدى إلى حرمانهم من أبسط حقوقهم الأساسية، كما يعانون من ظروف قاسية وغير إنسانية، حيث يواجهون درجات حرارة مرتفعة في الصيف وبرداً شديداً في الشتاء، إضافة إلى التلوث البيئي والحرمان من طعام ذي جودة وكميات كافية".

ووصل تدهور الأوضاع في سجن رومية إلى حد وفاة عدد من السجناء، بحسب ما يقول صبلوح، وذلك "نتيجة توقف الأطباء عن زيارة السجون، وعدم قدرة السجناء على إجراء الفحوص الطبية والعمليات الجراحية التي يحتاجون إليها، فكل ما له علاقة بالأوضاع الصحية للسجناء تقع على كاهل أهلهم بينما تنتمي غالبيتهم إلى الطبقة الفقيرة".

مطالبة بالحزم

منذ سنوات، يرفع "السجناء السوريون المعارضون لنظام بشار الأسد في سجن رومية" الصوت مطالبين بوضع حد لمأساتهم، ولكن بدلاً ذلك كلّفت الحكومة اللبنانية، المدير العام للأمن العام بالإنابة، اللواء إلياس البيسري، في أبريل الماضي، بإعادة التواصل مع السلطات السورية لحل قضية السجناء والمحكومين السوريين في السجون اللبنانية، أي تسليمهم للنظام السوري.

وقبل ذلك، "سلّمت السلطات اللبنانية معتقلين سوريين إلى النظام السوري" وفقاً لما يقوله صبلوح، وهو ما دفع أربعة سجناء سوريين في سجن رومية إلى محاولة الانتحار في مارس الماضي، باستخدام الأغطية كأدوات للشنق، قبل إنقاذهم في اللحظات الأخيرة.

ويؤكد صبلوح أن "معتقلي الرأي السوريين مشمولون باتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب لعام 1984، التي تمنع تسليم أي شخص يمكن أن يتعرض للتعذيب في بلده"، موضحاً أن "تحركات السجناء السوريين نجحت في تجميد خطوة الحكومة اللبنانية، مما يشكل انتصاراً مؤقتاً في معركتهم ضد التسليم القسري، على أمل أن يتخذ قرار إنسانياً بحلّ ملّفهم عما قريب".

"يهدد معتقلو الرأي السوريون بالتصعيد سلمياً في حالة عدم الاستجابة لمطالبهم"، كما أشار المرصد، موضحاً أن "التنكيل الذي يتعرضون له يخالف كل القرارات والقوانين الدولية، ورغم الدعوات المتكررة لإطلاق سراحهم فإن ملفهم ما زال عالقاً منذ عشر سنوات".

ويؤكد عبد الرحمن أن "الحكومة اللبنانية تتحمل مسؤولية سجونها"، داعياً المجتمع الدولي إلى "تسليط الضوء على هذه القضية"، بينما أوضح المرصد أن "إنقاذ هؤلاء المعتقلين يتطلب موقفاً حازماً من المجتمع الدولي"، الذي يجب أن يدافع عن حقوق "سجناء الرأي والكلمة الحرة، الذين فروا من ويلات الحرب والموت في سوريا ليجدوا أنفسهم محاصرين في المعتقلات اللبنانية، ومتّهمين بالتطرف لمجرد معارضتهم للنظام السوري".