دراسة خلصت لارتفاع معدل التقزم والبدانة وزيادة الوزن لدى أطفال لبنان
دراسة خلصت لارتفاع معدل التقزم والبدانة وزيادة الوزن لدى أطفال لبنان

"اثنان وعشرون سنة من الانتظار والعلاج والدعاء لكي أصبح أبا، وعندما أكرمني الله بتوأم وجدت نفسي عاجزا عن تأمين أدنى مقومات الحياة لهما، من حليب وطعام وحفاضات ولقاحات، وها أنا أخشى عليهما من سوء التغذية وما قد يترتب على ذلك من إصابتهما بأمراض".. هي كلمات قالها بحرقة ابن المجدل في شمال لبنان عباس القادري. 

كل قواميس العالم لا يمكن أن تعبر عن فرحة عباس، المرة الأولى عندما أبلغه الطبيب بحمل زوجته، وأيضا حين أبصر طفلاه النور. يقول عباس لموقع "الحرة" إنه عاهد نفسه أن يفعل كل ما في وسعه لإسعادهما، لكن "للأسف لم أتمكن من الوفاء بالعهد، أولا نتيجة خيانة صحتي لي، فأنا أعاني من مرض في الرئة والقلب، أجبرني على التوقف عن العمل كحداد فرنجي، وثانيا نتيجة الأزمة الاقتصادية وارتفاع سعر صرف الدولار وبالتالي ارتفاع الأسعار".

يوميا ينام عباس والدموع تبلل خداه قهرا من سوء الحال، ويقول "يبلغ طفلاي بكر ونور سنتان وسبعة أشهر من العمر، منذ سنة وشهرين لم يذوقا طعم الحليب، أطعمهما من الطعام المخصص لي ولوالدتهما، وهو بأحسن الأحوال بطاطا مسلوقة وعدس وكعك مغمّس بالماء والسكر، أما اللحوم والدجاج وحتى الخضار والفاكهة فلا تعرف لمنزلنا طريقا".

توصلت دراسة أجراها المجلس الوطني للبحوث العلمية إلى ارتفاع معدل التقزم والبدانة وزيادة الوزن لدى أطفال لبنان ما دون سن الخامسة نتيجة سوء التغذية.

وفي حديث مع موقع "الحرة" شرحت خبيرة علوم الغذاء في المجلس البروفسورة مهى حطيط أنه "في المرحلة الأولى قمنا بدراسة بحثية مرجعية لجميع الدراسات في العالم العربي والشرق الأوسط، وركزنا في دراستنا المرجعية على لبنان بشكل خاص، فظهر أن معدل التقزم ارتفع من 9.7 في المئة (ما بين عامي 2004 و2021) إلى 12 في المئة هذا العام".

يُعرف قصر القامة بالنسبة إلى العمر بالتقزم، وينجم بحسب منظمة الصحة العالمية "عن نقص التغذية المزمن أو المتكرر، وعادة ما يرتبط بتردي الظروف الاجتماعية الاقتصادية، وتردي صحة الأمهات وتغذيتهن، والاعتلال المتكرر، و/ أو عدم تغذية الرضع وصغار الأطفال ورعايتهم على النحو الملائم في مراحل الحياة المبكرة".

أما معدل البدانة وزيادة الوزن لدى أطفال لبنان، فارتفع بحسب حطيط من 18.9 في المئة بين عامي 2004 2021 إلى 26 في المئة، "وهو رقم كبير جدا لا سيما وأن المعدل العالمي للبدانة عند الأطفال يتراوح ما بين 5.7 و9 في المئة، ما يشير إلى أننا في مرحلة خطيرة، كونه يعني عدم حصول الأطفال على الفيتامينات والمعادن التي يحتاجونها لنموهم السليم، وهذا ما يعرف بالجوع الخفي".

"انقلاب" الهرم الغذائي

هل من يمكنه تصديق أن الفقر دفع بزوجة عباس إلى الاستعاضة عن الحفاضات بأكياس نايلون وقطع قماش، ويشدد "نعيش مأساة بكل ما للكلمة من معنى، وصلتُ إلى مرحلة لم يعد يعنيني مرضي وإمكانية أن أفقد الحياة في أي لحظة، أصبح همّي أن أتمكن من اصطحابهما إلى طبيب أطفال كي يكشف عليهما لمعرفة وضعهما الصحي، وأن أتمكن من تأمين ثمن اللقاحات التي يحتاجانها، كما أتمنى أن أعيش ولو للحظة واحدة أراهما فيها سعيدين يأكلان كل ما يرغبانه من لحوم ودجاج وحلويات".

وأفاد تقرير لصندوق الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) العام الماضي، بانخفاض معدلات التطعيم الروتيني في لبنان للأطفال بنسبة 31 في المئة، "وهي معدلات أصلا منخفضة بالفعل بشكل مقلق"، وحذرت اليونيسف من أن يؤدي ذلك إلى "ظهور مجموعة كبيرة من الأطفال غير المحميّين المعرّضين للأمراض وتأثيراتها".

وأضافت: "يُظهر المسح الوطني للتغذية في لبنان لعام 2021 أن المؤشرات الغذائية الرئيسية للأطفال الصغار ضعيفة في أيامهم الأولى من الحياة وتزداد سوءا مع مرور الوقت، وأكثر من 90 في المئة من الأطفال لا يستوفون معايير الحد الأدنى للحصول على الوجبات الغذائية المتنوعة والمتكررة، التي يحتاجون إليها، أو النظام الغذائي المقبول خلال الفترة الحاسمة في حياتهم التي تساعدهم على النمو والتطور حتى سن الثانية".

يشمل سوء التغذية في جميع أشكاله بحسب منظمة الصحة العالمية، نقص التغذية (الهزال والتقزّم ونقص الوزن)، ونقص الفيتامينات أو المعادن، وفرط الوزن، والسمنة، والأمراض غير السارية المرتبطة بالنظام الغذائي، حيث "يعاني 1.9 مليار شخص من فرط الوزن أو السمنة، في حين يعاني 462 مليون شخص من انخفاض الوزن، كما يعاني 52 مليون طفل دون سن الخامسة في العالم من الهزال، و17 مليون طفل من الهزال الوخيم، و155 مليون طفل من التقزم، في حين يعاني 41 مليون طفل من فرط الوزن أو السمنة".

الأمر لا يتعلق فقط بالشبع، بل كما تشدد حطيط "بضرورة تنوع الغذاء، وسبق ان توصلت دراسة أجراها المجلس الوطني للبحوث العلمية إلى أن 72 بالمئة من العائلات في لبنان تعاني من عدم تنوع الغذاء، وذلك بعد أن كان المعدل 53 في المئة خلال السنة الأولى من الأزمة التي تمر بها البلاد".

منذ ما يزيد عن الشهر وبسام طالب، عاجز عن شراء قارورة غاز لكي تتمكن زوجته من إعداد الطعام لعائلته المؤلفة من ثلاثة فتيات تتراوح أعمارهن بين سنتين وثماني سنوات، ويقول بغصة "تحلم صغيراتي بأكل اللحوم والدجاج وأنا بالكاد أستطيع تأمين الخبز لهن، ولولا أن الجيران وأهلي يساعدوننا من خلال إرسال وجبة طعام صغيرة بين الحين والآخر لما أعلم ماذا كان حلّ بهن".

ابن بلدة ببنين في عكار شمال لبنان يبلغ من العمر 33 سنة، يعمل في أي عمل يسنح له، ويقول لموقع "الحرة" "طفلتي ذات العامين محرومة من الحليب، أما شقيقتاها فتم طردهما من المدرسة لعدم قدرتي على دفع القسط الثاني لهما، مع العلم أني حتى الآن لم أستفد من برنامج وزارة الشؤون الاجتماعية رغم أن موظفيها قصدوا منزلي ثلاث مرات، وما زاد الطين الهزة التي ضربت لبنان في السادس من الشهر الماضي حيث أدت إلى تحطم زجاج غرفة أطفالي، فأصبحن ينمنّ وسط الرياح والأمطار".

تغيّر الهرم الغذائي في لبنان، حيث باتت النشويات كالأرز والخبز والمعكرونة تتربع على رأس الهرم، يتبعها كما تشير حطيط "الخضروات والحشائش ثم السكريات فالزعتر الذي يليه الفاكهة فالمزروعات الجذرية كالبطاطا والشمندر، ومن ثم الزيوت والزبدة، بعدها الحليب ومشتقاته، فاللحوم والبيض تليهما الحبوب وأخيرا السمك".

نتائج متوقعة

بعد تجربتي زواج فاشلتين وجدت نتالي نفسها مسؤولة عن تربية ثلاثة أولاد تتراوح أعمارهم بين الـ3 و12 سنة، وأن عليها توفير ما يحتاجونه من خلال مئتي دولار تحصل عليها شهريا من والدها، وتقول "هذا المبلغ يجب أن يكفي طعام وشراب لأولادي إضافة إلى فواتير مولد الكهرباء والإنترنت وبدل تنقلاتي من وإلى الجامعة كوني قررت أن أكمل تعليمي رغم المرارة التي تجرعتها من الحياة في سن مبكر".

تخصص نتالي مئة دولار من المبلغ الذي تحصل عليه لطعام أولادها شارحة لموقع "الحرة" "بالتأكيد لا يكفي لشراء طعام صحي غني بالفيتامينات والمعادن لهم، لكن بالحد الأدنى لا ينامون وبطونهم خاوية، إذ أعد طبخة كل ثلاثة أيام أضع فيها أوقية لحمة لمجرد إعطائها نكهة، كما أحرص على شراء نصف كيلو دجاج أسبوعيا اعده لهم كساندويش، لكن ما ليس بمقدوري جلبه لهم هو السكاكر وأكياس البطاطا، لذلك أحاول الاستعاضة عنها بإعداد الحلويات في المنزل يساعدني على ذلك حصولي على حصة غذائية شهريا تحتوي على حليب وسكر وطحين وإلا بالتأكيد لما كان سيذوق أطفالي طعم الحلويات".

الدراسة التي توصل إليها المجلس الوطني للبحوث العلمية "واقعية ومتوقعة" كما تشير طبيبة الصحة العامة وأخصائية التغذية ميرنا الفتى، شارحة "قبل الأزمة الاقتصادية لم تكن نوعية غذاء الأطفال في لبنان على المستوى المطلوب، حيث كان طعامهم يتركز على السكر والنشويات، بدلا من البروتين والفيتامينات والمعادن التي يحتاجونها لنموهم السليم، ونتيجة الأزمات ازداد الأمر خطورة، اذ تدنت قدرة الأهل الشرائية، ما اضطرهم للجوء إلى النوعيات الرديئة من المواد الغذائية المتوفرة بكثرة في الأسواق".

وتضيف الفتى في حديث مع موقع "الحرة"،  "حتى نوعية حليب الأطفال لم تعد بالمستوى المطلوب، حيث أغرق السوق بفضلات الحليب، وإذا اختارت الأم أن ترضع طفلها فإن حليبها لن يكون أفضل حالا كونها تحتاج هي الأخرى للتغذية الجيدة وتنوع الأطعمة وهو بالأمر الصعب في ظل الارتفاع الخيالي للأسعار، وبعد أن كان بالإمكان تأمين الكالسيوم للأطفال من خلال الأجبان والألبان بالكاد أصبح يمكن لرب العائلة تأمين الجبنة المطبوخة المثلثة، وبدلا من الزيوت النباتية أصبح البعض يستخدم المارغرين المسرطن الذي لا يتحمل درجات حرارة مرتفعة ويعتبر من المسببات الرئيسية للسرطان".

ومع ارتفاع الأسعار بدأ يدخل إلى لبنان أنواع من الشوكولا عبارة كما تقول الفتى عن "عجينة، المادة الأساسية فيها السكر مضاف اليه القليل من زبدة الكاكاو ومواد ضارة، كل ذلك في وقت أصبحت اللحوم البيضاء والحمراء على حد سواء حكرا على من تبقى من طبقة غنية في لبنان".

آثار خطيرة

لسوء التغذية كما تشير حطيط، تأثيرات صحية، جسدية وإدراكية، على المدى القريب والبعيد، وتشرح "تكمن الخطورة الحالية في إصابة الأطفال بأمراض مزمنة كالسكري والكوليسترول وترقرق العظام نتيجة عدم حصولهم على الفيتامينات والمعادن المطلوبة، وعلى المدى البعيد سنشهد جيلا من قصيري القامة غير كفوء من الناحية التعليمية".

كذلك تشير الفتى إلى أن "سوء التغذية يؤثر على نمو العظام نتيجة نقص الكالسيوم وبالتالي على الطول الذي سيكتسبه الأطفال مع تقدمهم في العمر، كما يؤثر على جهاز مناعتهم ما يجعلهم عرضة للإصابة بأمراض مزمنة كالسكر والضغط والكوليسترول إضافة الى تشحّم الكبد، والتثديّ عند الذكور، والبلوغ المبكر عند الاناث أي ما بين سبع وتسع سنوات".

كما أن سوء التغذية يؤثر على الصحة النفسية للأطفال، حيث تؤكد الاخصائية النفسية هيفاء السيّد ان "نقص الفيتامينات والمعادن يسفر عن خلل في وظائف دماغ الطفل، يظهر ذلك من خلال ارتفاع مستويات التوتر والقلق والأرق لديه وصولا إلى الإصابة بالاكتئاب وبأمراض عقلية أخرى وباضطرابات سلوكية عصبية، إضافة إلى تغيّر مزاجه وانخفاض مستوى تركيزه ومعاناته من الإجهاد، عدا عن إصابته باضطرابات جسدية متعددة تظهر أعراضها في النحافة الشديدة والتقزم، ووهن في العظام وآلام في المفاصل وفقر في الدم الذي ينتج عنه تساقط الشعر وضعف الأظافر وجفاف الجلد".

أما تشخيص سوء التغذية فيعتمد بحسب هيفاء "على الأعراض التي تظهر على الطفل وعلى نتائج الفحوص المخبرية، وعادة يتم تشخيص المصابين بذلك عن طريق فحص الدم وحساب مؤشر كتلة الجسم، أي تقييم وزن الطفل بالنسبة إلى طوله، أما العلاج فيتطلب توفير الأطعمة الغنية بالفيتامينات، والمعادن، والأحماض الأمينية والدهنية". 

وبحسب منظمة الصحة العالمية "ترتبط 45 في المئة تقريبا من وفيات الأطفال دون سن الخامسة بنقص التغذية، ويحدث معظم هذه الوفيات في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل. وفي الوقت ذاته، تتزايد نسبة فرط الوزن والسمنة بين الأطفال في هذه البلدان نفسها".

لجم الخطر

بعد مرور عامين على الأزمة الاقتصادية التي تعصف بلبنان منذ عام 2019، بدأ الناظر في إحدى مدارس صيدا جنوب لبنان، خليل دياربي، يلاحظ عدم قدرة الأهالي على إرسال سندويش مع أبنائهم إلى المدرسة، الأمر الذي دفعه إلى إطلاق "مشروع سندويش تلميذ" في عام 2021 لتوزيع أكبر عدد من سندويش الجبنة على التلاميذ الذين لا يجلبون معهم طعام.

واليوم استفحلت المشكلة بشكل أكبر، كما يقول دياربي لموقع "الحرة"، "حيث لم يعد الأمر يقتصر على الطعام، بل وصل إلى التنقلات، فعدد كبير من التلاميذ بات مضطرا إلى قطع مسافة طويلة من منزله إلى المدرسة والعكس سيرا على الأقدام لعدم قدرة أهلهم على دفع بدلات التنقل، ويضيف "حين أطلقنا مشروع السندويش كان لدينا حوالي تلميذين في كل صف ليس باستطاعة أهلهم تأمين سندويش لهم، أما الآن فتضاعف العدد عشر مرات".

قبل أيام كادت أن تفقد تلميذة وعيها نتيجة عدم تناولها الطعام، بحسب دياربي الذي يشدد "لا يمكننا التعمّق بخصوصيات التلاميذ خوفا من أن نجرح أحاسيسهم، نحاول قدر المستطاع عدم إشعارهم أنهم محتاجون، لذلك نجلب لهم ما يأكلونه من دون أن يطلبوا"، مشيرا إلى أنه "يمكن لمس الحالة التي وصلوا إليها من خلال كافتيريا المدرسة التي كانت في السابق تبيع نحو 100 منقوشة زعتر يوميا، أما الآن فبالكاد تتمكن من بيع 30 منقوشة حيث وصل سعر الواحدة منها إلى 40,000 ليرة".

وأعرب ناظر المدرسة عن أمله في أن يعاود إطلاق مبادرته بعد شهر رمضان المبارك، كما تمنى أن تأخذ وزارة التربية على عاتقها مسؤولية إجراء إحصاء لعدد تلاميذ المدارس الرسمية المحتاجين تمهيدا لتأمينها وجبات طعام لهم، في محاولة لمساعدتهم على التخفيف من سوء التغذية الذي يعانون منه.

ولأن العقل السليم في الجسم السليم، لا بد كما تشدد هيفاء من "لجم ارتفاع نسب سوء التغذية وذلك من خلال تحسين الوضع الاقتصادي وتأمين فرص عمل للأهالي، ووضع وتنفيذ سياسات زراعية تشجع على الزارعة بهدف توفير غذاء متنوع وآمن ومغذ بأسعار مقبولة للجميع، وإلى حينه لابد من التعاضد الاجتماعي، ومحاولة الآباء القيام بكل ما في وسعهم للعثور على مدخول مادي يسمح لهم بتأمين ما يحتاجه أطفالهم من غذاء، فبالإصرار والتصميم وتحدي المصاعب تتحقق غايات الإنسان".

من سجن رومية.. أرشيفية
من سجن رومية.. أرشيفية

أطلق "معتقلو الرأي السوريون" في سجن رومية، شرق بيروت، معركة الأمعاء الخاوية، حيث بدأوا، الاثنين، إضراباً عن الطعام احتجاجاً على "فقدان 10 معتقلين سوريين نتيجة الوضع الصعب وانعدام الرعاية الصحية"، وفقاً لما ذكره المرصد السوري لحقوق الإنسان، نقلاً عن مصادر حقوقية.

ولن يقبل "المعتقلون" الطعام والخبز المقدّم من إدارة السجن، حيث "سيستمرون في الإضراب إلى حين تحقيق مطالبهم الإنسانية في ملفي الصحة والغذاء، كونهم يعانون من اهمال حالتهم الصحية ومن سوء التغذية" بحسب ما أورد المرصد.

كما يعاني "معتقلو الرأي السوريون" في غياهب السجون اللبنانية بحسب المرصد، من "تلفيق التهم ومحاسبتهم على ذنب لم يُقترف وحرمانهم من المحاكمة العادلة ومن حق رؤية ذويهم، وكذلك من التعذيب النفسي والجسدي، في ظل تنصل ولامبالاة السلطة اللبنانية في معالجة ملفهم وغياب دور المنظمات الحقوقية والإنسانية في متابعة هذا الملف".

ويقبع في السجون اللبنانية ما يقرب من 6685 سجينا، بحسب إحصائيات مديرية السجون في وزارة العدل، "حوالي 2500 منهم من الجنسية السورية" وفقاً لما يقوله المدافع عن حقوق الإنسان، المحامي صبلوح لموقع "الحرة"، "من بينهم نحو 400 من معتقلي الرأي".

"اتهامات ملفقة"

ويرى مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان، رامي عبد الرحمن، أن "السجون في المنطقة أصبحت متشابهة، سواء كان سجن صيدنايا سيء الصيت، أو سجن حوار كلس في ريف حلب الشمالي، أو سجن رومية"، ويوضح أن "جميع هذه السجون تحتجز معتقلي الرأي الذين لا علاقة لهم بقضايا جنائية، ويتم اتهامهم بالإرهاب دون أدلة، بل بناءً على توصيفات من جهات رسمية".

ويشدد عبد الرحمن، في حديث لموقع "الحرة"، على أن "من لم يثبت تورطه في القتل أو المشاركة في عمليات إرهابية يعد معتقل رأي وليس مجرماً جنائياً أو أمنياً".

و"يواجه غالبية معتقلي الرأي السوريين في السجون اللبنانية اتهامات متنوعة"، تشمل كما يوضح صبلوح "المشاركة في أحداث عرسال عام 2014، والانضمام إلى تنظيمات مصنفة إرهابية، أو معارضة نظام بشار الأسد ومشاركتهم في الحرب السورية، ويقبع بعض هؤلاء خلف القضبان منذ عام 2013 دون محاكمات عادلة أو تقدم ملحوظ في قضاياهم".

ويكشف صبلوح عن "سياسة ممنهجة تتبعتها السلطات الأمنية اللبنانية، تستهدف معارضي نظام الأسد، حيث يتم تلفيق أدلة ضدهم وتقديمهم لمحاكمات صورية. وبالإضافة إلى ذلك، يتعرض هؤلاء المعتقلون للتعذيب خلال استجوابهم، وهو ما تجسد بوضوح في قضية بشار السعود، الذي لقي حتفه عام 2022 نتيجة التعذيب الذي تعرض له".

لكن الحكومة والقضاء اللبناني لا يعترفان، كما تؤكد الناشطة الحقوقية المحامية ديالا شحادة لموقع "الحرة"، بـ "معتقلي رأي" في السجون اللبنانية.

غير أن "ملاحقة وسجن ومحاكمة وادانة الآلاف من السوريين على مر السنوات العشر الأخيرة لمجرد ممارستهم حق تقرير المصير في سوريا من دون انتهاك أي قوانين دولية من التي ترعى النزعات المسلحة"، لا يمكن تصنيفه وفق ما تقوله شحادة سوى على أنه "اضطهاد لمن عارض نظام بشار الأسد وقاوم طغيانه وبطشه، وكل ملاحقة قضائية ذات خلفية سياسية تندرج ضمن سياسات قمع الحقوق الأساسية اللصيقة بالإنسان ومنها الحق في تقرير المصير وحرية الرأي والتعبير".

ظروف "مميتة"

اضراب أي سجناء في السجون اللبنانية نتيجة حتمية، كما تشدد شحادة "لاكتظاظ السجون بثلاثة أضعاف قدرتها الاستيعابية ولتراجع الخدمات الأساسية ومنها الغذائية والطبية".

وما يزيد من نقمة عدد من السجناء، وفق شحادة "هو امتناع المحاكم المختصة عن تقصير فترات التوقيف الاحتياطي رغم تردي ظروف السجون وطول أمد بعض المحاكمات".

و"يواجه معتقلو الرأي السوريون في سجن رومية، مثل باقي السجناء، ظروف كارثية"، كما يقول صبلوح، مشيراً إلى أنهم يعانون من "أوضاع معيشية صعبة للغاية نتيجة نقص التمويل الذي أدى إلى حرمانهم من أبسط حقوقهم الأساسية، كما يعانون من ظروف قاسية وغير إنسانية، حيث يواجهون درجات حرارة مرتفعة في الصيف وبرداً شديداً في الشتاء، إضافة إلى التلوث البيئي والحرمان من طعام ذي جودة وكميات كافية".

ووصل تدهور الأوضاع في سجن رومية إلى حد وفاة عدد من السجناء، بحسب ما يقول صبلوح، وذلك "نتيجة توقف الأطباء عن زيارة السجون، وعدم قدرة السجناء على إجراء الفحوص الطبية والعمليات الجراحية التي يحتاجون إليها، فكل ما له علاقة بالأوضاع الصحية للسجناء تقع على كاهل أهلهم بينما تنتمي غالبيتهم إلى الطبقة الفقيرة".

مطالبة بالحزم

منذ سنوات، يرفع "السجناء السوريون المعارضون لنظام بشار الأسد في سجن رومية" الصوت مطالبين بوضع حد لمأساتهم، ولكن بدلاً ذلك كلّفت الحكومة اللبنانية، المدير العام للأمن العام بالإنابة، اللواء إلياس البيسري، في أبريل الماضي، بإعادة التواصل مع السلطات السورية لحل قضية السجناء والمحكومين السوريين في السجون اللبنانية، أي تسليمهم للنظام السوري.

وقبل ذلك، "سلّمت السلطات اللبنانية معتقلين سوريين إلى النظام السوري" وفقاً لما يقوله صبلوح، وهو ما دفع أربعة سجناء سوريين في سجن رومية إلى محاولة الانتحار في مارس الماضي، باستخدام الأغطية كأدوات للشنق، قبل إنقاذهم في اللحظات الأخيرة.

ويؤكد صبلوح أن "معتقلي الرأي السوريين مشمولون باتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب لعام 1984، التي تمنع تسليم أي شخص يمكن أن يتعرض للتعذيب في بلده"، موضحاً أن "تحركات السجناء السوريين نجحت في تجميد خطوة الحكومة اللبنانية، مما يشكل انتصاراً مؤقتاً في معركتهم ضد التسليم القسري، على أمل أن يتخذ قرار إنسانياً بحلّ ملّفهم عما قريب".

"يهدد معتقلو الرأي السوريون بالتصعيد سلمياً في حالة عدم الاستجابة لمطالبهم"، كما أشار المرصد، موضحاً أن "التنكيل الذي يتعرضون له يخالف كل القرارات والقوانين الدولية، ورغم الدعوات المتكررة لإطلاق سراحهم فإن ملفهم ما زال عالقاً منذ عشر سنوات".

ويؤكد عبد الرحمن أن "الحكومة اللبنانية تتحمل مسؤولية سجونها"، داعياً المجتمع الدولي إلى "تسليط الضوء على هذه القضية"، بينما أوضح المرصد أن "إنقاذ هؤلاء المعتقلين يتطلب موقفاً حازماً من المجتمع الدولي"، الذي يجب أن يدافع عن حقوق "سجناء الرأي والكلمة الحرة، الذين فروا من ويلات الحرب والموت في سوريا ليجدوا أنفسهم محاصرين في المعتقلات اللبنانية، ومتّهمين بالتطرف لمجرد معارضتهم للنظام السوري".