دراسة خلصت لارتفاع معدل التقزم والبدانة وزيادة الوزن لدى أطفال لبنان
دراسة خلصت لارتفاع معدل التقزم والبدانة وزيادة الوزن لدى أطفال لبنان

"اثنان وعشرون سنة من الانتظار والعلاج والدعاء لكي أصبح أبا، وعندما أكرمني الله بتوأم وجدت نفسي عاجزا عن تأمين أدنى مقومات الحياة لهما، من حليب وطعام وحفاضات ولقاحات، وها أنا أخشى عليهما من سوء التغذية وما قد يترتب على ذلك من إصابتهما بأمراض".. هي كلمات قالها بحرقة ابن المجدل في شمال لبنان عباس القادري. 

كل قواميس العالم لا يمكن أن تعبر عن فرحة عباس، المرة الأولى عندما أبلغه الطبيب بحمل زوجته، وأيضا حين أبصر طفلاه النور. يقول عباس لموقع "الحرة" إنه عاهد نفسه أن يفعل كل ما في وسعه لإسعادهما، لكن "للأسف لم أتمكن من الوفاء بالعهد، أولا نتيجة خيانة صحتي لي، فأنا أعاني من مرض في الرئة والقلب، أجبرني على التوقف عن العمل كحداد فرنجي، وثانيا نتيجة الأزمة الاقتصادية وارتفاع سعر صرف الدولار وبالتالي ارتفاع الأسعار".

يوميا ينام عباس والدموع تبلل خداه قهرا من سوء الحال، ويقول "يبلغ طفلاي بكر ونور سنتان وسبعة أشهر من العمر، منذ سنة وشهرين لم يذوقا طعم الحليب، أطعمهما من الطعام المخصص لي ولوالدتهما، وهو بأحسن الأحوال بطاطا مسلوقة وعدس وكعك مغمّس بالماء والسكر، أما اللحوم والدجاج وحتى الخضار والفاكهة فلا تعرف لمنزلنا طريقا".

توصلت دراسة أجراها المجلس الوطني للبحوث العلمية إلى ارتفاع معدل التقزم والبدانة وزيادة الوزن لدى أطفال لبنان ما دون سن الخامسة نتيجة سوء التغذية.

وفي حديث مع موقع "الحرة" شرحت خبيرة علوم الغذاء في المجلس البروفسورة مهى حطيط أنه "في المرحلة الأولى قمنا بدراسة بحثية مرجعية لجميع الدراسات في العالم العربي والشرق الأوسط، وركزنا في دراستنا المرجعية على لبنان بشكل خاص، فظهر أن معدل التقزم ارتفع من 9.7 في المئة (ما بين عامي 2004 و2021) إلى 12 في المئة هذا العام".

يُعرف قصر القامة بالنسبة إلى العمر بالتقزم، وينجم بحسب منظمة الصحة العالمية "عن نقص التغذية المزمن أو المتكرر، وعادة ما يرتبط بتردي الظروف الاجتماعية الاقتصادية، وتردي صحة الأمهات وتغذيتهن، والاعتلال المتكرر، و/ أو عدم تغذية الرضع وصغار الأطفال ورعايتهم على النحو الملائم في مراحل الحياة المبكرة".

أما معدل البدانة وزيادة الوزن لدى أطفال لبنان، فارتفع بحسب حطيط من 18.9 في المئة بين عامي 2004 2021 إلى 26 في المئة، "وهو رقم كبير جدا لا سيما وأن المعدل العالمي للبدانة عند الأطفال يتراوح ما بين 5.7 و9 في المئة، ما يشير إلى أننا في مرحلة خطيرة، كونه يعني عدم حصول الأطفال على الفيتامينات والمعادن التي يحتاجونها لنموهم السليم، وهذا ما يعرف بالجوع الخفي".

"انقلاب" الهرم الغذائي

هل من يمكنه تصديق أن الفقر دفع بزوجة عباس إلى الاستعاضة عن الحفاضات بأكياس نايلون وقطع قماش، ويشدد "نعيش مأساة بكل ما للكلمة من معنى، وصلتُ إلى مرحلة لم يعد يعنيني مرضي وإمكانية أن أفقد الحياة في أي لحظة، أصبح همّي أن أتمكن من اصطحابهما إلى طبيب أطفال كي يكشف عليهما لمعرفة وضعهما الصحي، وأن أتمكن من تأمين ثمن اللقاحات التي يحتاجانها، كما أتمنى أن أعيش ولو للحظة واحدة أراهما فيها سعيدين يأكلان كل ما يرغبانه من لحوم ودجاج وحلويات".

وأفاد تقرير لصندوق الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) العام الماضي، بانخفاض معدلات التطعيم الروتيني في لبنان للأطفال بنسبة 31 في المئة، "وهي معدلات أصلا منخفضة بالفعل بشكل مقلق"، وحذرت اليونيسف من أن يؤدي ذلك إلى "ظهور مجموعة كبيرة من الأطفال غير المحميّين المعرّضين للأمراض وتأثيراتها".

وأضافت: "يُظهر المسح الوطني للتغذية في لبنان لعام 2021 أن المؤشرات الغذائية الرئيسية للأطفال الصغار ضعيفة في أيامهم الأولى من الحياة وتزداد سوءا مع مرور الوقت، وأكثر من 90 في المئة من الأطفال لا يستوفون معايير الحد الأدنى للحصول على الوجبات الغذائية المتنوعة والمتكررة، التي يحتاجون إليها، أو النظام الغذائي المقبول خلال الفترة الحاسمة في حياتهم التي تساعدهم على النمو والتطور حتى سن الثانية".

يشمل سوء التغذية في جميع أشكاله بحسب منظمة الصحة العالمية، نقص التغذية (الهزال والتقزّم ونقص الوزن)، ونقص الفيتامينات أو المعادن، وفرط الوزن، والسمنة، والأمراض غير السارية المرتبطة بالنظام الغذائي، حيث "يعاني 1.9 مليار شخص من فرط الوزن أو السمنة، في حين يعاني 462 مليون شخص من انخفاض الوزن، كما يعاني 52 مليون طفل دون سن الخامسة في العالم من الهزال، و17 مليون طفل من الهزال الوخيم، و155 مليون طفل من التقزم، في حين يعاني 41 مليون طفل من فرط الوزن أو السمنة".

الأمر لا يتعلق فقط بالشبع، بل كما تشدد حطيط "بضرورة تنوع الغذاء، وسبق ان توصلت دراسة أجراها المجلس الوطني للبحوث العلمية إلى أن 72 بالمئة من العائلات في لبنان تعاني من عدم تنوع الغذاء، وذلك بعد أن كان المعدل 53 في المئة خلال السنة الأولى من الأزمة التي تمر بها البلاد".

منذ ما يزيد عن الشهر وبسام طالب، عاجز عن شراء قارورة غاز لكي تتمكن زوجته من إعداد الطعام لعائلته المؤلفة من ثلاثة فتيات تتراوح أعمارهن بين سنتين وثماني سنوات، ويقول بغصة "تحلم صغيراتي بأكل اللحوم والدجاج وأنا بالكاد أستطيع تأمين الخبز لهن، ولولا أن الجيران وأهلي يساعدوننا من خلال إرسال وجبة طعام صغيرة بين الحين والآخر لما أعلم ماذا كان حلّ بهن".

ابن بلدة ببنين في عكار شمال لبنان يبلغ من العمر 33 سنة، يعمل في أي عمل يسنح له، ويقول لموقع "الحرة" "طفلتي ذات العامين محرومة من الحليب، أما شقيقتاها فتم طردهما من المدرسة لعدم قدرتي على دفع القسط الثاني لهما، مع العلم أني حتى الآن لم أستفد من برنامج وزارة الشؤون الاجتماعية رغم أن موظفيها قصدوا منزلي ثلاث مرات، وما زاد الطين الهزة التي ضربت لبنان في السادس من الشهر الماضي حيث أدت إلى تحطم زجاج غرفة أطفالي، فأصبحن ينمنّ وسط الرياح والأمطار".

تغيّر الهرم الغذائي في لبنان، حيث باتت النشويات كالأرز والخبز والمعكرونة تتربع على رأس الهرم، يتبعها كما تشير حطيط "الخضروات والحشائش ثم السكريات فالزعتر الذي يليه الفاكهة فالمزروعات الجذرية كالبطاطا والشمندر، ومن ثم الزيوت والزبدة، بعدها الحليب ومشتقاته، فاللحوم والبيض تليهما الحبوب وأخيرا السمك".

نتائج متوقعة

بعد تجربتي زواج فاشلتين وجدت نتالي نفسها مسؤولة عن تربية ثلاثة أولاد تتراوح أعمارهم بين الـ3 و12 سنة، وأن عليها توفير ما يحتاجونه من خلال مئتي دولار تحصل عليها شهريا من والدها، وتقول "هذا المبلغ يجب أن يكفي طعام وشراب لأولادي إضافة إلى فواتير مولد الكهرباء والإنترنت وبدل تنقلاتي من وإلى الجامعة كوني قررت أن أكمل تعليمي رغم المرارة التي تجرعتها من الحياة في سن مبكر".

تخصص نتالي مئة دولار من المبلغ الذي تحصل عليه لطعام أولادها شارحة لموقع "الحرة" "بالتأكيد لا يكفي لشراء طعام صحي غني بالفيتامينات والمعادن لهم، لكن بالحد الأدنى لا ينامون وبطونهم خاوية، إذ أعد طبخة كل ثلاثة أيام أضع فيها أوقية لحمة لمجرد إعطائها نكهة، كما أحرص على شراء نصف كيلو دجاج أسبوعيا اعده لهم كساندويش، لكن ما ليس بمقدوري جلبه لهم هو السكاكر وأكياس البطاطا، لذلك أحاول الاستعاضة عنها بإعداد الحلويات في المنزل يساعدني على ذلك حصولي على حصة غذائية شهريا تحتوي على حليب وسكر وطحين وإلا بالتأكيد لما كان سيذوق أطفالي طعم الحلويات".

الدراسة التي توصل إليها المجلس الوطني للبحوث العلمية "واقعية ومتوقعة" كما تشير طبيبة الصحة العامة وأخصائية التغذية ميرنا الفتى، شارحة "قبل الأزمة الاقتصادية لم تكن نوعية غذاء الأطفال في لبنان على المستوى المطلوب، حيث كان طعامهم يتركز على السكر والنشويات، بدلا من البروتين والفيتامينات والمعادن التي يحتاجونها لنموهم السليم، ونتيجة الأزمات ازداد الأمر خطورة، اذ تدنت قدرة الأهل الشرائية، ما اضطرهم للجوء إلى النوعيات الرديئة من المواد الغذائية المتوفرة بكثرة في الأسواق".

وتضيف الفتى في حديث مع موقع "الحرة"،  "حتى نوعية حليب الأطفال لم تعد بالمستوى المطلوب، حيث أغرق السوق بفضلات الحليب، وإذا اختارت الأم أن ترضع طفلها فإن حليبها لن يكون أفضل حالا كونها تحتاج هي الأخرى للتغذية الجيدة وتنوع الأطعمة وهو بالأمر الصعب في ظل الارتفاع الخيالي للأسعار، وبعد أن كان بالإمكان تأمين الكالسيوم للأطفال من خلال الأجبان والألبان بالكاد أصبح يمكن لرب العائلة تأمين الجبنة المطبوخة المثلثة، وبدلا من الزيوت النباتية أصبح البعض يستخدم المارغرين المسرطن الذي لا يتحمل درجات حرارة مرتفعة ويعتبر من المسببات الرئيسية للسرطان".

ومع ارتفاع الأسعار بدأ يدخل إلى لبنان أنواع من الشوكولا عبارة كما تقول الفتى عن "عجينة، المادة الأساسية فيها السكر مضاف اليه القليل من زبدة الكاكاو ومواد ضارة، كل ذلك في وقت أصبحت اللحوم البيضاء والحمراء على حد سواء حكرا على من تبقى من طبقة غنية في لبنان".

آثار خطيرة

لسوء التغذية كما تشير حطيط، تأثيرات صحية، جسدية وإدراكية، على المدى القريب والبعيد، وتشرح "تكمن الخطورة الحالية في إصابة الأطفال بأمراض مزمنة كالسكري والكوليسترول وترقرق العظام نتيجة عدم حصولهم على الفيتامينات والمعادن المطلوبة، وعلى المدى البعيد سنشهد جيلا من قصيري القامة غير كفوء من الناحية التعليمية".

كذلك تشير الفتى إلى أن "سوء التغذية يؤثر على نمو العظام نتيجة نقص الكالسيوم وبالتالي على الطول الذي سيكتسبه الأطفال مع تقدمهم في العمر، كما يؤثر على جهاز مناعتهم ما يجعلهم عرضة للإصابة بأمراض مزمنة كالسكر والضغط والكوليسترول إضافة الى تشحّم الكبد، والتثديّ عند الذكور، والبلوغ المبكر عند الاناث أي ما بين سبع وتسع سنوات".

كما أن سوء التغذية يؤثر على الصحة النفسية للأطفال، حيث تؤكد الاخصائية النفسية هيفاء السيّد ان "نقص الفيتامينات والمعادن يسفر عن خلل في وظائف دماغ الطفل، يظهر ذلك من خلال ارتفاع مستويات التوتر والقلق والأرق لديه وصولا إلى الإصابة بالاكتئاب وبأمراض عقلية أخرى وباضطرابات سلوكية عصبية، إضافة إلى تغيّر مزاجه وانخفاض مستوى تركيزه ومعاناته من الإجهاد، عدا عن إصابته باضطرابات جسدية متعددة تظهر أعراضها في النحافة الشديدة والتقزم، ووهن في العظام وآلام في المفاصل وفقر في الدم الذي ينتج عنه تساقط الشعر وضعف الأظافر وجفاف الجلد".

أما تشخيص سوء التغذية فيعتمد بحسب هيفاء "على الأعراض التي تظهر على الطفل وعلى نتائج الفحوص المخبرية، وعادة يتم تشخيص المصابين بذلك عن طريق فحص الدم وحساب مؤشر كتلة الجسم، أي تقييم وزن الطفل بالنسبة إلى طوله، أما العلاج فيتطلب توفير الأطعمة الغنية بالفيتامينات، والمعادن، والأحماض الأمينية والدهنية". 

وبحسب منظمة الصحة العالمية "ترتبط 45 في المئة تقريبا من وفيات الأطفال دون سن الخامسة بنقص التغذية، ويحدث معظم هذه الوفيات في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل. وفي الوقت ذاته، تتزايد نسبة فرط الوزن والسمنة بين الأطفال في هذه البلدان نفسها".

لجم الخطر

بعد مرور عامين على الأزمة الاقتصادية التي تعصف بلبنان منذ عام 2019، بدأ الناظر في إحدى مدارس صيدا جنوب لبنان، خليل دياربي، يلاحظ عدم قدرة الأهالي على إرسال سندويش مع أبنائهم إلى المدرسة، الأمر الذي دفعه إلى إطلاق "مشروع سندويش تلميذ" في عام 2021 لتوزيع أكبر عدد من سندويش الجبنة على التلاميذ الذين لا يجلبون معهم طعام.

واليوم استفحلت المشكلة بشكل أكبر، كما يقول دياربي لموقع "الحرة"، "حيث لم يعد الأمر يقتصر على الطعام، بل وصل إلى التنقلات، فعدد كبير من التلاميذ بات مضطرا إلى قطع مسافة طويلة من منزله إلى المدرسة والعكس سيرا على الأقدام لعدم قدرة أهلهم على دفع بدلات التنقل، ويضيف "حين أطلقنا مشروع السندويش كان لدينا حوالي تلميذين في كل صف ليس باستطاعة أهلهم تأمين سندويش لهم، أما الآن فتضاعف العدد عشر مرات".

قبل أيام كادت أن تفقد تلميذة وعيها نتيجة عدم تناولها الطعام، بحسب دياربي الذي يشدد "لا يمكننا التعمّق بخصوصيات التلاميذ خوفا من أن نجرح أحاسيسهم، نحاول قدر المستطاع عدم إشعارهم أنهم محتاجون، لذلك نجلب لهم ما يأكلونه من دون أن يطلبوا"، مشيرا إلى أنه "يمكن لمس الحالة التي وصلوا إليها من خلال كافتيريا المدرسة التي كانت في السابق تبيع نحو 100 منقوشة زعتر يوميا، أما الآن فبالكاد تتمكن من بيع 30 منقوشة حيث وصل سعر الواحدة منها إلى 40,000 ليرة".

وأعرب ناظر المدرسة عن أمله في أن يعاود إطلاق مبادرته بعد شهر رمضان المبارك، كما تمنى أن تأخذ وزارة التربية على عاتقها مسؤولية إجراء إحصاء لعدد تلاميذ المدارس الرسمية المحتاجين تمهيدا لتأمينها وجبات طعام لهم، في محاولة لمساعدتهم على التخفيف من سوء التغذية الذي يعانون منه.

ولأن العقل السليم في الجسم السليم، لا بد كما تشدد هيفاء من "لجم ارتفاع نسب سوء التغذية وذلك من خلال تحسين الوضع الاقتصادي وتأمين فرص عمل للأهالي، ووضع وتنفيذ سياسات زراعية تشجع على الزارعة بهدف توفير غذاء متنوع وآمن ومغذ بأسعار مقبولة للجميع، وإلى حينه لابد من التعاضد الاجتماعي، ومحاولة الآباء القيام بكل ما في وسعهم للعثور على مدخول مادي يسمح لهم بتأمين ما يحتاجه أطفالهم من غذاء، فبالإصرار والتصميم وتحدي المصاعب تتحقق غايات الإنسان".

الحدود الإسرائيلية اللبنانية

يتصاعد الحديث عن مسار تطبيعي محتمل بين لبنان وإسرائيل، خاصة بعد الإعلان عن محادثات مرتقبة بوساطة أميركية، فرغم الطابع التقني لهذه المحادثات، فإن تقارير إسرائيلية تشير إلى أنها قد تتجاوز مسألة ترسيم الحدود، لتفتح الباب أمام تحوّل في شكل العلاقة بين البلدين.

وقد نقل موقع "واينت" الإسرائيلي، الأربعاء، عن مصدر سياسي، أن المناقشات بين لبنان وإسرائيل، هي جزء من "خطة واسعة وشاملة"، وأن إسرائيل مهتمة بالتوصل إلى تطبيع مع لبنان.

وكان مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو، أعلن أن إسرائيل تفتح مفاوضات مع لبنان بشأن الحدود البرية.

وفي السياق نفسه، أكدت نائبة المبعوث الأميركي الخاص إلى الشرق الأوسط، مورغن أورتيغاس، الثلاثاء، أن واشنطن ستجمع الجانبين اللبناني والإسرائيلي في محادثات دبلوماسية لحل القضايا العالقة.

وعلى رأس هذه القضايا، النقاط الخلافية المتبقية على الخط الأزرق، والمواقع الخمسة التي لا تزال تحت السيطرة الإسرائيلية داخل الأراضي اللبنانية، وإطلاق سراح سجناء لبنانيين.

والخط الأزرق هو خط تقني يمتد على مسافة 120 كم، تم تحديده من قبل الأمم المتحدة في عام 2000 بعد انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان، ويعد هذا الخط مؤقتاً ويستخدم كحدود فاصلة بين البلدين.

وفي خطوة أثارت تساؤلات واسعة، أطلقت إسرائيل سراح لبنانيين، فيما اعتبره البعض إشارة اعتبرها بعض المراقبين "بادرة حسن نية"، تهيئ الأجواء لمفاوضات أوسع.

وبينما تتسارع الأحداث، يبقى السؤال مطروحاً: هل يمضي لبنان فعلياً نحو مسار التطبيع مع إسرائيل، أم أن هذه المحادثات ستظل محصورة في إطارها الحدودي؟

السلام ممكن؟

وتعتبر إسرائيل اللحظة الحالية "الأنسب لعقد اتفاق سلام مع لبنان، مستفيدة من التغيرات الإقليمية"، كما يرى الباحث في الشأن السياسي نضال السبع.

وقال السبع، لموقع الحرة، إن إسرائيل "نجحت في توجيه ضربة قاسية لحزب الله وإبعاده إلى شمال الليطاني، إضافة إلى انهيار النظام السوري، وقطع خطوط إمداد الحزب، ومنع التواجد الإيراني في الأراضي السورية".

كيف يتعامل حزب الله مع خسارة شريان إمداده؟
مرّت نحو 3 أشهر على سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، الحدث الذي غيّر المعادلات، ليس فقط في سوريا، بل أيضاً بالنسبة لحزب الله، الذي فقد شريانه الرئيسي، فمع انهيار هذا الحليف الاستراتيجي، وجد الحزب نفسه أمام واقع جديد يفرض عليه تحديات غير مسبوقة عسكرياً ومالياً.

وأضاف السبع أن "إسرائيل تعمل على تحقيق هدفين رئيسيين: أولاً، ربط انسحابها من الأراضي اللبنانية بعملية سلام شاملة، وثانياً، ربط إعادة إعمار الجنوب اللبناني بهذا المسار التفاوضي الذي يحظى بدعم أميركي..".

وقال إن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، يسعى "إلى الدفع باتجاه توقيع اتفاق سلام شامل بين لبنان وإسرائيل، في إطار توسيع دائرة اتفاقات التطبيع في الشرق الأوسط".

من جانبه، رأى رئيس لقاء سيدة الجبل النائب السابق، فارس سعيد، أن الخطوة الأولى ليست في اتجاه التطبيع مع إسرائيل، بل في تنفيذ القرار 1701 بالكامل.

وقال سعيد، لموقع "الحرة"، إن "قراءة هذا القرار بتأنٍ تكشف أن البنود 8 و9 و10 تنصّ على آلية واضحة، تقضي بمحادثات بين الحكومة اللبنانية والحكومة الإسرائيلية برعاية الأمم المتحدة لحل القضايا العالقة".

ولم يرتق القرار 1701، بطبعة عام 2006، "إلى مستوى وقف لإطلاق النار، بل اقتصر على وقف العمليات العسكرية"، كما أشار سعيد.

وشدد على أن الخطوة الحالية تتمثل في "تنفيذ القرار 1701 الذي يهدف إلى الانتقال من مرحلة وقف الاعتداءات إلى مرحلة وقف إطلاق النار، ومن ثم إجراء مفاوضات تشمل ترسيم الحدود، وقضية الأسرى، والنقاط الخمس التي لا تزال تحت الاحتلال الإسرائيلي".

وأضاف سعيد أن الادعاء أن "الدفاع عن لبنان هو من اختصاص حزب أو طائفة"، لم يعد قائماً، مشدداً على أن حماية البلاد مسؤولية الدولة اللبنانية.

وذكر أن "لبنان، عبر علاقاته الدبلوماسية العربية والدولية، قادر على حل الأزمات، وسيتمكن من التنفيذ الكامل للقرار 1701 كما تمكّن من إطلاق الأسرى".

ما موقف لبنان الرسمي؟

وعن موقف الحكومة اللبنانية من التطبيع، قال نائب رئيس مجلس الوزراء اللبناني، طارق متري، في لقاء مع "الحرة" بث الاثنين، "هناك تحركات غير رسمية داخل الولايات المتحدة للضغط على الإدارة الأميركية كي تشترط علينا الدخول في مسار تطبيعي مع إسرائيل، وهذا أمر حقيقي. لكننا، كحكومة، لم نتعرض لأي ضغط مباشر من أي جهة".

وعن رد الحكومة اللبنانية في حال تلقي طلب رسمي بهذا الشأن، قال متري "نحن بطبيعة الحال غير مستعدين لذلك".

في المقابل، أكد أستاذ العلوم السياسية في الجامعة العبرية، الدكتور مئير مصري، أن "لبنان لم يكن مجرد جار لإسرائيل، بل كان صديقاً حميماً لها وقدم لها الدعم في السابق".

وأشار إلى أن "الجيش اللبناني لم يطلق رصاصة واحدة على إسرائيل التي لم تواجه في لبنان سوى عناصر خارجة عن السيادة اللبنانية".

وقال مصري، في مقابلة مع قناة i24، أن " لبنان الرسمي كاد أن يصوت لصالح قرار التقسيم عام 1947".

كما أشار إلى "التحالف العسكري بين إسرائيل وما عرف آنذاك اليمين المسيحي اللبناني الذي استمر لعقود، وتوّج بالحرب المشتركة ضد منظمة التحرير الفلسطينية في أوائل الثمانينيات، ومن ثم توقيع معاهدة السلام اللبنانية-الإسرائيلية في 17 مايو 1983، التي حظيت بتصديق البرلمان اللبناني، حيث صوتت عليها مختلف الطوائف، بأغلبية كبيرة، لكنها ألغيت عام 1984 بضغط سوري".

وحول ملف الحدود، شدد مصري على أنه "لا يوجد أي خلاف حول الحدود، والجهة الوحيدة التي تدعي وجود نزاع هي حزب الله". 

وأشار إلى وثيقة "وقعها الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة كوفي أنان، تؤكد أن إسرائيل انسحبت عام 2000 حتى الحدود الدولية وفق ما هو متعارف عليه في الأمم المتحدة، وهي الحدود التي بقيت ثابتة لعقود".

نقاط النزاع

المحادثات المرتقبة بين لبنان وإسرائيل تهدف إلى تثبيت النقاط الحدودية العالقة، وليست عملية ترسيم جديد للحدود، كما شدد السبع.

وشرح: "الحدود البرية بين البلدين معروفة ومحددة مسبقاً بموجب اتفاقيات دولية، أبرزها اتفاق "بوليه – نيوكومب" عام 1923، الذي رسم الحدود بين الانتدابين الفرنسي والبريطاني، واتفاقية الهدنة اللبنانية-الإسرائيلية عام 1949، التي صادقت عليها الأمم المتحدة".

ويبلغ عدد النقاط الخلافية على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية 13 نقطة، وبحسب ما أشار وزير الخارجية اللبناني السابق، عبد الله بو حبيب، في تصريحات سابقة " تم التوصل إلى اتفاق بشأن 7 منها، فيما تبقى 6 نقاط موضع نزاع".

وتمتد هذه النقاط على طول الحدود، من البحر في رأس الناقورة غرباً وصولاً إلى بلدة الغجر شرقاً على الحدود مع سوريا، وتتوزع على النحو التالي: النقطة B1 في رأس الناقورة، 3 نقاط في بلدة علما الشعب، نقطة واحدة في كل من البستان، مروحين، رميش، مارون الراس، بليدا، ميس الجبل، العديسة، كفركلا، والوزاني.

ووفقاً لما سبق أن ذكره العميد المتقاعد، بسام ياسين، الذي ترأس الوفد اللبناني التقني العسكري المفاوض حول الحدود البحرية، لموقع "الحرة"، فإن ما حدث بعد انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان عام 2000، وعقب حرب يوليو 2006، هو أن إسرائيل تقدّمت في بعض النقاط داخل الأراضي اللبنانية وبقيت فيها، وفي المقابل، تقدّم لبنان في بعض النقاط الحدودية ولا يزال متمركزاً فيها.

نتيجة لذلك، تم إنشاء "الخط الأزرق" ليحدد خط انسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان، لكن بعض النقاط الحدودية ظلّت عالقة بسبب الاستعجال في إعلان الانسحاب الإسرائيلي عام 2000 ووقف إطلاق النار عام 2006، مما جعلها اليوم موضع خلاف بين الجانبين".

وتعدّ النقطة B1 في رأس الناقورة أبرز نقاط الخلاف، وفق ياسين، نظراً لموقعها الجغرافي والعسكري الاستراتيجي، حيث تقع على مرتفع يشرف على مساحات واسعة من الجانبين اللبناني والإسرائيلي، ويتيح رؤية بصرية تصل إلى مدينة حيفا داخل الأراضي الإسرائيلية.

وقال ياسين "كانت هذه النقطة محور الخلاف الرئيسي خلال مفاوضات ترسيم الحدود البحرية، فقد أصرّ لبنان على اعتبارها نقطة الانطلاق البري لترسيم حدوده البحرية، وسط رفض من الجانب الإسرائيلي الذي يسيطر على تلك المنطقة الحدودية ويعتبرها جزءا من أراضيه".

أما بقية النقاط الـ12، فبينها بقع صغيرة لا يتعدى الخلاف عليها الأمتار المعدودة، وأخرى تمتد إلى 2000 و3000 متر مربع، فيما تصل أكبرها إلى 18 ألف متر مربع، وفقاً لياسين.

وتشمل أكبر المناطق المتنازع عليها بلدات رميش والعديسة والوزاني، بينما يقدّر لبنان المساحة الإجمالية التي يعتبرها مقتطعة من أراضيه بنحو 485,039 متراً مربعاً.

فيما يتعلق بمزارع شبعا، بلدة الغجر، وتلال كفرشوبا، أشار ياسين إلى أن حل هذا النزاع يتطلب اتفاقاً ثلاثياً بين لبنان وسوريا وإسرائيل لتحديد الحدود في تلك المنطقة.

وتجدر الإشارة إلى أن سكان بلدة الغجر، الواقعة على الجانب اللبناني، يرفضون الانضمام إلى لبنان، ما يطرح معضلة إضافية، حيث أكد ياسين أن "الأرض لبنانية ولا يمكن التخلي عنها لأن سكانها يرفضون الانضمام. قد يكون الحل في ترحيلهم إلى حيث يريدون الانتماء."

حزب الله وقدرة التعطيل

ويثير الحديث عن أي تقارب بين لبنان وإسرائيل جدلاً واسعاً في لبنان، حيث يُنظر إلى هذا الملف على أنه قضية شديدة الحساسية، في ظل الرفض القاطع لأي تطبيع من قبل قوى سياسية رئيسية، على رأسها حزب الله.

ومع ذلك، يرى السبع أن "الحزب غير قادر على تعطيل مسار التطبيع، خاصة إذا استمرت التوازنات السياسية في البرلمان على حالها، ولم يتمكن من تشكيل تحالفات تعرقل أي اتفاق يمر عبر المؤسسات الدستورية".

وأشار إلى أنه "حتى في المحطات السياسية السابقة، لم يتمكن الحزب من فرض خياراته بالكامل. فقد عارض انتخاب جوزاف عون رئيساً للجمهورية، لكنه عاد وصوّت له..".

كما رفض حزب الله "ترشيح نواف سلام لرئاسة الحكومة، إلا أن الأخير حصل على 95 صوتاً في البرلمان. وبالتالي، حتى لو استُثني 30 نائباً محسوبين على الثنائي الشيعي، يبقى هناك 65 نائباً، وهي نسبة كافية لتمرير أي قانون داخل المجلس النيابي"، وفق السبع.

ورغم ذلك، يستذكر الباحث في الشأن السياسي، تجربة عام 1983، حين توصلت إسرائيل إلى "اتفاق 17 أيار (مايو)" مع الحكومة في عهد الرئيس اللبناني أمين الجميّل بعد اجتياحها بيروت، "إلا أن الاتفاق لم يُنفّذ بسبب رفض النظام السوري آنذاك".

لكن السبع يشير إلى أن "المشهد اليوم مختلف، إذ تصبّ المتغيرات الإقليمية والدولية في مصلحة إسرائيل".

وبشأن طبيعة التطبيع المحتمل، أوضح السبع أن "حتى لو تم توقيع اتفاق سلام، فلن يعني ذلك تغييراً جذرياً في المشهد على الأرض".

وأضاف "هل سيتمكن المواطن الإسرائيلي من الهبوط في مطار بيروت، وزيارة الضاحية، والتوجه إلى جونية؟ بالتأكيد لا. قد توقّع اتفاقات سلام، لكن الواقع لن يتغير بهذه السهولة".