موقع الأبراج على تلال مرتفعة ومشرفة على مساحات واسعة في الداخل السوري
موقع الأبراج على تلال مرتفعة ومشرفة على مساحات واسعة في الداخل السوري | Source: lebanese army

من خارج سياق الأحداث والتطورات التي يشهدها لبنان على حدوده الجنوبية مع إسرائيل، برزت قضية ملحّة من خلف حدوده الشمالية والشرقية مع سوريا، أثارت استفهامات حول توقيتها وسياقها، تمثلت في مذكرة احتجاج سورية رسمية، نادرة في نوعها، تلقتها الخارجية اللبنانية الأسبوع الماضي، تصنف أبراج مراقبة حدودية للجيش اللبناني بأنها "تهديد للأمن القومي السوري"، وتتهمها بالتجسس لصالح إسرائيل.

"لماذا الآن؟" كان السؤال الأبرز الذي طرح في لبنان في الأيام الماضية، خاصة وأن إنشاء تلك الأبراج وانطلاق العمل بها، يعود إلى أكثر من 10 سنوات مضت لم تشهد أي اعتراض، وهو ما فتح الباب أمام الكثير من التحليلات للخطوة السورية وأبعادها، والهدف المرجو من إثارة الملف في العلن، وعلى مستوى دبلوماسي رسمي، في هذا التوقيت بالذات.

وبحسب فحوى الاحتجاج الذي تناقلته وسائل إعلام لبنانية، فإن المتهم الرئيسي في هذا الملف، إلى جانب لبنان، هو الحكومة البريطانية، التي تعتبر عرّاب مشروع الأبراج الحدودية وراعية تجهيزها والتدريب على استخدامها، حيث جاء إنشاؤها بالتزامن مع الهجمات الإرهابية التي تعرض لها لبنان عبر حدوده مع سوريا منذ عام 2013، لمساعدة الجيش اللبناني في عملية ضبط الحدود ومواجهة عمليات التسلل والتهريب.

وتزعم المذكرة السورية أن الناتج المعلوماتي عن معدات المراقبة في هذه الأبراج، "يصل إلى أيدي البريطانيين، الذين يزودون الجانب الإسرائيلي بها للاستفادة منها في توجيه ضربات في العمق السوري".

وتحدثت المذكرة عن "تهديدات على مستويات عدة" تشكلها منظومة الأبراج، لاسيما لناحية المعدات الاستعلامية والتجسسية الحساسة التي تتضمنها، والتي تجمع المعلومات من مسافات عميقة في الداخل السوري. كما ذكرت بالقانون الدولي المتعلق بالحدود المشتركة بين الدول، والذي يفرض مشاركة المعلومات الناتجة عن رصد الأبراج الحدودية بين الدول في حالة السلم، ويسمح للدولتين بإقامة أبراج متقابلة على جانبي الحدود، في حالة الحرب.

وفيما طالبت المذكرة الحكومة اللبنانية بالتوضيح واتخاذ الإجراءات اللازمة "لحماية الأمن المشترك"، لم يعلن الجانب اللبناني بعد عن أي رد رسمي في هذا السياق، باستثناء تعليق صحفي مقتضب لوزير الخارجية اللبناني، عبد الله بو حبيب، أكد فيه أن لبنان "لا يقبل بأن تشكل هذه الأبراج أي أمر عدائي تجاه سوريا"، مذكراً أن الهدف منها يقتصر على مراقبة الحدود ومنع التسلل والتهريب.

وأوضح بوحبيب أن الخارجية اللبنانية تنتظر الرد التقني من الجيش اللبناني على المذكرة السورية لصياغة جوابها، منوّها بأن التشاور حول هذه المسائل الكبرى "يتم على أعلى المستويات داخلياً"، من أجل الخروج بالحلول الأنسب لضمان استقرار لبنان.

"توقيت مريب"

وأثار الاحتجاج السوري، عاصفة ردود أفعال في الداخل اللبناني، بين من انساق خلف التحذيرات السورية من "تجسس دولي" قد تتيحه تلك الأبراج، وبين معترضين على ما وصفوه "إهانة" للجيش اللبناني تتضمن تخويناً وتشكيكاً بأدائه بكونه المشغل لتلك الأبراج والمشرف على عملها والمعلومات الناتجة عنها.

في هذا السياق يرى النائب في البرلمان اللبناني، أنطوان حبشي، أن توقيت إثارة الملف من الجانب السوري، "ملفت للنظر"، واصفاً "الاستفاقة السورية بعد 12 عاماً على إقامة الأبراج" بأنها "مريبة جداً"، خاصة أنها أنشئت في سياق معروف للجميع، وبتعاون معلن بين لبنان وبريطانيا.

يستغرب النائب عن منطقة بعلبك الهرمل، التي تضم الامتداد الشرقي الأوسع للحدود اللبنانية مع سوريا، طرح هذا الملف الآن من الباب الأمني، وتصوير الأبراج على أنها عامل مساعد يسهل استهداف العمق السوري من جانب إسرائيل، فيما تتعرض سوريا للقصف الإسرائيلي منذ سنوات، تسبق حتى إقامة الأبراج، معتبراً أن الربط القائم بين الأمرين "مخالف للمنطق".

ويبدي حبشي عدم استغرابه من الجانب السوري "منطق تخوين الجيش اللبناني وتصويره وكأنه يعمل لصالح جهات خارجية ويأتمر منها، هذا المنطق أيضاً يعززه حلفاؤهم في الداخل عند كل خلاف سياسي، عبر التخوين واتهام الآخر بولائه وبالعمالة"، معتبراً ذلك منطق من يريد الاستمرار في استباحة لبنان وسيادته على أراضيه.

ويلفت حبشي في حديثه لموقع "الحرة"، إلى أن تزامن الاعتراض السوري مع طرح بريطاني جديد لإقامة مثل هذه الأبراج على الحدود الجنوبية للبنان مع إسرائيل، كجزء من الحلول المطروحة للتوتر الحدودي القائم، "ليس من باب الصدفة"، مضيفاً "وكأن المذكرة ليست سورية، بل صادرة عن فريق لبناني فاعل في سوريا، يعبر عن عدم ارتياحه للمسار الذي تسير به الأمور"، في إشارة إلى حزب الله.

وكان وزير الخارجية البريطانية، ديفيد كاميرون، قدم اقتراحات حول كيفية إرساء التهدئة جنوب لبنان، في سياق زيارة له إلى لبنان مطلع فبراير الماضي، من بينها تعميم نموذج أبراج المراقبة على الحدود الجنوبية، لضمان تنفيذ واحترام القرار 1701 ومراقبة أي مظاهر مسلحة على الجانبين في عمق معين، على أن تكون تحت إشراف القوات الدولية (اليونيفيل) المنتشرة جنوب لبنان، بحسب ما نقلت تقارير محلية.

في حينها هاجمت وسائل إعلام مقربة من حزب الله المقترح البريطاني، معتبرة أنه "خدمة لأمن إسرائيل على حساب لبنان"، ومحاولات "ترهيب وترغيب" لحزب الله من أجل وقف عملياته العسكرية. وهو ما أوحى بارتباط الاحتجاج السوري المستجد على الأبراج، بالمقترح البريطاني المقدم.

"تجهيزات جديدة؟"

إلا أن الرواية المنقولة عن الجانب السوري لأسباب الاحتجاج تتحدث عن إدراج معدات جديدة ضمن تجهيزات أبراج المراقبة، "تتضمن أجهزة تشويش وتنصت، تغطي مساحات واسعة من العمق السوري تصل إلى نحو 80 كلم"، وفق ما ينقل المحلل العسكري، عمر معربوني.

ويلفت إلى أن توفر تلك المعلومات لدى الجانب السوري هو ما بدل مقاربته لقضية الأبراج، "التي كانت قبل ذلك مزودة فقط بكاميرات حرارية يبلغ مداها الفعال نحو 6 كلم، وكان الأمر متفق عليه بين الجانبين اللبناني والسوري، عبر مكتب التنسيق العسكري بين الجيشين السوري واللبناني"، وهو عبارة عن قنوات استخباراتية وعسكرية لتبادل المعلومات بين الجانبين، خاصة فيما يتعلق بالإرهاب والتهريب وأمن حدود البلدين.

وبحسب معربوني فإن "موقع الأبراج على تلال مرتفعة ومشرفة على مساحات واسعة في الداخل السوري، مع معدات متقدمة تشرف على تشغيلها وصيانتها جهات خارجية، بإمكانها أن تؤمن للمستفيدين منها، إمكانية مراقبة مباشرة ودائمة، تؤمن تشويش أو تنصت مستدام على الجانب السوري، بشكل أفضل من الطائرات أو الأقمار الاصطناعية، وأوفر وأكثر دقة، وهو ما يفسر الحساسية والخشية السورية".

إلا أن اللافت بالنسبة إلى معربوني كان آلية إرسال الاحتجاج، بصيغة الاحتجاج الدبلوماسي الموجه رسميا للخارجية اللبنانية، "وهذا أمر غير مسبوق"، حيث كانت هذه الرسائل تصل عبر قنوات الاتصال التي يوفرها مكتب التنسيق العسكري مع الجانب السوري. وهو ما يشير إلى أن التواصل عبر المكتب لم يصل إلى نتيجة، ما دفع إلى رفع مستوى الاحتجاج.

وإذ يرى معربوني أن المذكرة لم تتضمن أي تخوين للجانب اللبناني، "وانما طلب توضيح لبعض المسائل"، يستبعد ارتباطها بالعرض البريطاني المتعلق بجنوب لبنان، "خاصة وأن هناك رفض حاسم من الجانب اللبناني لهذا المقترح لاسيما من قبل حزب الله"، معتبراً أن هذا الربط يأتي في سياق التجاذب السياسي.

وفي السياق نفسه برز كلام عن انزعاج لدى حزب الله من الأبراج على الحدود السورية، يعود لأعوام ماضية، بكونها تقع على معابر حدودية يستخدمها في نقل أسلحته وإمداداته العسكرية من الجانب السوري. إلا أن معربوني يذكّر أنه وعلى مدى أكثر من 10 أعوام، لم يسجل أي اعتراض من تلك الأبراج لتحركات حزب الله أو إمداداته، كما لم يسجل أي كلام أو تسريبات في هذا الشأن، معتبراً أن "حزب الله لديه ثقة بالجيش اللبناني في هذا الجانب".

قصة نشأة الأبراج

وتمتد تلك الأبراج على مدى الحدود اللبنانية السورية من منطقة العريضة شمال لبنان إلى ما بعد قرية راشيا في الجنوب الشرقي، ويقدر عددها بـ 39 برجاً، بينها أبراج محمولة ومتنقلة، يوفر كل منها رؤية بنصف قطر 360 درجة لمسافة 10 كيلومترات.

وجاء الإعلان الرسمي عن هذه الأبراج من جانب الحكومة اللبنانية في ديسمبر عام 2014، حيث قال رئيس الحكومة اللبنانية في حينها، تمام سلام، إن "ضباطا بريطانيين استخدموا وسائل حديثة وأقاموا بشكل سريع نحو 12 برج مراقبة للجيش اللبناني في الجبال على الحدود الشرقية، تسمح له بمراقبة التحركات في هذا القطاع بشكل أفضل وإقامة موقع دفاعي متقدم"، عقب مواجهات مع تنظيمات إرهابية متسللة من تنظيمي داعش والنصرة.

جاء ذلك عقب كشف حصري عن تلك الجهود البريطانية في تقرير لصحيفة "ديلي تلغراف"، نشر أواخر نوفمبر 2014، بعنوان "الدور البريطاني السري في وقف مذبحة داعش في لبنان"، تحدث عن فرقة بريطانية سرية عملت في يوليو 2014 بسرعة وجهود ضخمة لبناء الأبراج على الحدود السورية، لمنع سقوط بلدة مسيحية حدودية في أيدي داعش ووقوع مذبحة فيها.

وبحسب الصحيفة كان ذلك ناجم عن اهتمام وثيق من جانب رئيس الوزراء البريطاني في حينها، ديفيد كاميرون، بإنقاذ القرية.

في حينها وبعد نشر التقرير الصحفي، أصدرت السفارة البريطانية في لبنان، توضيحاً كشفت فيه أن الحكومة البريطانية أسهمت بـ273 مليون دولار من المساعدات للجيش اللبناني جاءت على شكل آليات وعتاد عسكري وشبكة اتصالات لاسلكية.

ويحظى الجيش اللبناني بدعم دول غربية عدة، في طليعتها الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبية. وتعبر بريطانيا باستمرار عن التزامها بدعم الجيش اللبناني لحفظ الاستقرار والسلام في لبنان، وقدمت في هذا السبيل مساعدات وعتاد بمئات ملايين الدولارات، فضلا عن تدريبات واسعة لآلاف الجنود على القتال واستخدام معدات المراقبة والاتصال.

ورغم أن تلك الأبراج تخضع لسلطة الجيش اللبناني وإشرافه، يصطلح في لبنان على تسميتها "الأبراج البريطانية" نسبة لقصة نشأتها برعاية وتمويل بريطاني، فضلاً عن كونها مستوحاة من اختبار بريطانيا لفعالية تلك الأبراج في أيرلندا الشمالية.

وأجرت فرق بريطانية متخصصة العديد من الدورات التدريبية لعناصر وضباط بالجيش اللبناني، وفق ما يعلن موقعه على الإنترنت، وذلك في مجال مراقبة الحدود البرية والمهارات الأساسية لضبطها، ودروس على نظام ARGUS المستخدم في الأبراج، والمراقبة المتحركة  Mobile Observation، ومراقبة الحدود وضبطها عبر أبراج مراقبة، واستخدام مناطيد مجهّزة بكاميرات ونظام CLIO وأجهزة الإشارة Datron وBarette، فضلاً عن تدريبات حول نظام DTRA المعتمد في أبراج المراقبة، والذي يؤمّن المراقبة والاتصال بين الوحدات والقيادة.

إلا أن الفكرة بأصلها تعود إلى ما قبل ذلك بأعوام، وتحديداً إلى عام 2006، بعد انتهاء "حرب تموز" وصدور القرار 1701، بحسب ما يؤكد العميد المتقاعد في الجيش اللبناني، خليل الحلو، في حديثه لموقع "الحرة"، إذ ينص البند رقم 14 في القرار الأممي على "مطالبة حكومة لبنان بتأمين حدوده وغيرها من نقاط الدخول لمنع دخول الأسلحة أو ما يتصل بها من عتاد إلى لبنان دون موافقتها، ويطلب إلى قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان مساعدة الحكومة بناء على طلبها".

منذ ذلك الحين، بحسب الحلو، بدأت الدول الداعمة للجيش اللبناني، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وبريطانيا ودول بالاتحاد الأوروبي، البحث في آليات لضبط الحدود، وهو ما نتج عنه إنشاء أفواج حرس الحدود البرية تباعاً، ولتفعيل عمل هذه الأفواج بدأ الحديث عن أبراج المراقبة التي رعتها بريطانيا لاحقاً.

ويشرح العميد المتقاعد أن تلك الأبراج موصولة مع قيادات أفواج الحدود البرية، بحيث أن كل برج بحسب نطاقه يرسل المعلومات والمشاهد المباشرة إلى غرف عمليات خاصة بالأفواج، كذلك في قيادة الجيش، ويمكن أن يغطي (البرج) مدى 20 كلم.

وبحسب المعلومات الواردة في الموقع الرسمي للجيش اللبناني، يحتوي كل برج كاميرا تتحرّك 360 درجة ومنظار، بالإضافة إلى شاشة في غرفة عمليات البرج وأخرى في إمرة السرية. ويتم معالجة الثغرات في تغطية كاميرات المراقبة الناجمة عن طبيعة الأرض، بالاستعانة بحسّاساتٍ (Sensors) تطلق إنذارًا عند مرور أشخاص، حيث يتم التعامل معها عبر دورية أو طائرة من دون طيّار.

وحول الإشراف التقني الخارجي على تجهيزات تلك الأبراج يلفت الحلو إلى أن استخدام تلك الأبراج على مدى سنوات يتطلب أعمال صيانة وتأهيل، جرى تمويلها بمبادرات دولية غربية، وتم توكيل شركات خاصة بهذه المهمات، يهتمون بصيانة هذه الأبراج بالتنسيق مع قيادة الجيش اللبناني وتحت إشرافها، وشملت الصيانة الكاميرات وأجهزة الاستشعار، والمولدات الكهربائية، والطاقة الشمسية، وغيرها.

ويتابع أن بعض الكاميرات المستخدمة في هذه الأبراج جرى إرسالها إلى السويد سابقاً لإصلاح بعض الأعطال، "حيث لا يجري إصلاحها إلا هناك".

يذكر أن الجيش اللبناني سبق أن أعلن عبر موقعه عن إيفاد ضباط وعناصر إلى السويد لتدريبهم على استخدام أجهزة المراقبة FLIR الخاصة بالتصوير الحراري، وبرنامج Cameleon.

"إثارة بلبلة للفت الانتباه"

إلا أن ذلك لا يعني صحة الاتهامات السورية بحسب الحلو، الذي يضيف أن "النظام السوري يريد أن يقنعنا أن تلك الأبراج هي التي تهدد أمنه القومي، في وقت يعمل على الأراضي السورية 10 جيوش وتنظيمات على الأقل، من بينها الجيش الأميركي والجيش الروسي، والتركي والإسرائيلي، والحرس الثوري الإيراني وحزب الله، والميليشيات العراقية وقوات سوريا الديمقراطية والجيش الحر، فضلاً عن داعش والنصرة".

ويضيف أن اعتبار النظام السوري الأبراج أداة تجسس بريطانية لصالح إسرائيل، يأتي في وقت يحاول فيه النظام نفسه استعادة التواصل مع بريطانيا تحديداً، ومع غيرها من الدول الغربية المقاطعة له.

وإذ يستبعد الحلو بدوره أي ارتباط حقيقي بين إثارة الجانب السوري للقضية وموقف حزب الله من الأبراج، أو مقترح نشرها جنوباً، يرى أن "النظام السوري يرفع السقف ويثير بلبلة حول العديد من الملفات من أجل الضغط لتحقيق مكتسبات".

ويضيف "صحيح أن المدخل لبنان، لكن الضغط فعلياً في هذه المسألة هو على بريطانيا، المهتمة بمسار مشروع الأبراج الذي أسسته واستثمرت فيه لينجح، فيما تعمل على تعميمه. ويسعى من خلال هذه المسألة للفت الانتباه البريطاني إليه أملاً باستعادة التواصل معه".

أما عن المطالبة بمشاركة الناتج المعلوماتي لتلك الأبراج، يؤكد العميد المتقاعد في الجيش اللبناني أن التنسيق بشأن تلك المعلومات قائم عبر المخابرات من الجانبين، في المقابل لا يقوم الجانب السوري بواجبه في هذا الاطار لضبط التهريب بمختلف أشكاله واتجاهاته، بل يتورط فيه أيضاً، "وبالتالي التنسيق ومشاركة المعلومات لن يقدم أو يؤخر".

ويختم "أما إن كان لديه رغبة ببناء أبراج مماثلة من ناحيته، فهذا حقه ويستطيع فعلها بموجب القانون الدولي، ولا أحد يمنعه من ذلك".

مصارف لبنان

في تحول تاريخي لعمل القطاع المصرفي اللبناني، أقرّ مجلس النواب الخميس تعديلات على قانون السرية المصرفية تسهّل للهيئات الناظمة الحصول على كامل المعلومات المتعلّقة بالحسابات.

جاءت الخطوة تلبية لمطلب رئيسي من مطالب صندوق النقد الدولي.

واعتبر رئيس الوزراء اللبناني، نواف سلام، القرار "خطوة ضرورية نحو الإصلاح المالي المنشود وركيزة أساسية لأي خطة تعافٍ، ولكشف الحقائق" بشأن الأزمة المالية التي بدأت عام 2019.

والجمعة، نُشر في الجريدة الرسمية اللبنانية قانون تعديل بعض المواد المتعلقة بسرية المصارف في لبنان، بما في ذلك تعديل المادة 7 (هـ) و (و) من القانون المتعلق بسرية المصارف الذي أقرّ عام 1956، وكذلك تعديل المادة 150 من قانون النقد والتسليف الصادر في عام 1963، بموجب القانون رقم 306 الصادر في 28 تشرين الأول 2022.

وينص التعديل الجديد على تعديل المادة 7 (هـ) من القانون المتعلق بسرية المصارف بما يسمح بمشاركة معلومات مصرفية بين مصرف لبنان، ولجنة الرقابة على المصارف، والمؤسسة الوطنية لضمان الودائع، في إطار تعزيز مراقبة القطاع المصرفي وحماية النظام المالي. 

ويشمل التعديل أيضا صلاحيات تعديل وإنشاء مؤسسة مختلطة لضمان الودائع المصرفية.

أما المادة 7 (و) فتتيح للجهات المعنية، مثل مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف، طلب معلومات مصرفية محمية بالسرية دون تحديد حساب أو عميل معين. ويتيح التعديل إصدار طلبات عامة للحصول على معلومات عن جميع الحسابات والعملاء، إلا أن هذه الطلبات يمكن أن تكون قابلة للاعتراض أمام قاضي الأمور المستعجلة، ويخضع الاعتراض للأصول القانونية المتعلقة بالاعتراض على العرائض.

وفي ما يتعلق بالمادة 150 من قانون النقد والتسليف، تضمن التعديل رفع السرية المصرفية بشكل كامل وغير مقيد أمام مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف، بالإضافة إلى المدققين والمقيمين المعينين من قبل مصرف لبنان أو اللجنة.

وتشمل التعديلات الحسابات الدائنة والمدينة، سواء كانت ضمن أو خارج الميزانية، كما تتيح رفع السرية المصرفية عن سجلات ومستندات ومعلومات تعود إلى أشخاص معنويين أو حقيقيين يتعاملون مع المصارف أو المؤسسات المالية الخاضعة للرقابة. ويشمل تطبيق هذا التعديل بأثر رجعي لمدة عشر سنوات من تاريخ صدور القانون.

وقد شهد لبنان خلال الأسابيع الماضية نقاشات حادة، رأى فيها معارضون للخطوة أن هذا القانون ورفع السرية المصرفية طي لصفحة من تاريخ لبنان المالي العريق من خلال "إلغاء ميزة تفاضلية،" وبأن كشف الفساد ليس معطلاً بسبب السرية المصرفية.

ويرى المتحمسون للقانون أن من شأن التعديلات الجديدة تعزيز الشفافية في القطاع المصرفي في لبنان وتحسين مراقبة ومراجعة العمليات المصرفية، في وقت يشهد فيه القطاع المصرفي تحديات كبيرة في ظل الأزمة المالية المستمرة.

وأوضحت "المفكرة القانونية" وهي منظمة حقوقية غير حكومية، في بيان أصدرته أن التعديل يخوّل "الهيئات الرقابيّة والهيئات النّاظمة للمصارف، وتحديدًا مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف والمؤسسة الوطنية لضمان الودائع، طلب الحصول على جميع المعلومات المصرفية، من دون أن يربط طلب المعلومات بأيّ هدف معيّن، وإمكانية التدقيق في الحسابات بالأسماء، تصحيحا لقانون 2022" والذي تضمن بعض التعديلات.

يعتمد لبنان السرية المصرفية منذ عام 1956، وكان لذلك أثر كبير في جذب رؤوس الأموال والودائع وتوفير مناخ الاستقرار الاقتصادي. وبموجب هذا القانون تلتزم المصارف الخاضعة لأحكامه السرية المطلقة، إذ لا يجوز كشف السر المصرفي سواء في مواجهة الجهات الخاصة أو السلطات العامة، وسواء كانت قضائية أو إدارية أو مالية، إلا في حالات معينة في القانون وردت على سبيل الحصر، وهي:

1- إذن العميل او ورثته خطيًا.
2- صدور حكم بإشهار افلاس العميل.
3- وجود نزاع قضائي بينه وبين البنك بمناسبة الروابط المصرفية. 
4- وجود دعاوى تتعلق بجريمة الكسب غير المشروع. 
5- توقف المصرف عن الدفع، إذ ترفع في هذه الحالة السرية المصرفية عن حسابات أعضاء مجلس الإدارة والمفوضين بالتوقيع ومراقبي الحسابات. 
6- الاشتباه في استخدام الأموال لغاية تبييضها، وعندها ترفع السرية المصرفية بقرار من هيئة التحقيق الخاصة لمصلحة المراجع القضائية المختصة والهيئة المصرفية العليا، وذلك عن الحسابات المفتوحة لدى المصارف أو المؤسسات المالية.

وبالفعل ومنذ إقرار هذا القانون ازدهر القطاع المصرفي اللبناني واستطاع جذب رؤوس أموال، لكن كل ذلك تغير مع اندلاع الحرب الأهلية في منتصف السبعينيات، وبدأت الليرة اللبنانية رحلة الانهيار. خمسة عشر عاما من الاقتتال، انتهت بتسويات سياسية، تبعها نظام اقتصادي جديد، قاده منذ عام 1993 الراحل رفيق الحريري رئيسا للحكومة، ورياض سلامة حاكما لمصرف لبنان المركزي، سعيا وراء الاستقرار. 

وبعد أربع سنوات من استلام منصبه، نجح سلامة في تثبيت سعر العملة اللبنانية، عند 1500 مقابل الدولار الأميركي.

استمرت تلك المعادلة أكثر من عقدين، لكنها كانت تحتاج إمدادات لا تنقطع من العملة الصعبة للمحافظة على استمرارها. وفي محاولة لسد العجز، سعت المصارف اللبنانية لجذب حصيلة كبيرة من العملة الخضراء عبر تقديم فوائد مرتفعة على الودائع الدولارية، فوائد تراوحت بين 15 و 16 في المئة.

نتيجة للفوائد البنكية المرتفعة، شهدت ودائع القطاع المصرفي اللبناني نمواً سنوياً وصل ذروته بقرابة 12 مليار دولار خلال عام 2009.

أغرت الفوائد العالية المقيمين والمغتربين، ليصل إجمالي الودائع في المصارف اللبنانية إلى أكثر من 177 مليار دولار في نهاية نوفمبر عام 2018. 

منذ عام 2017، تراجع الاحتياطي في خزينة مصرف لبنان، رغم محاولات جذب الدولار. وفي صيف عام 2019، لاحت بوادر صعوبة في توافر الدولار في الأسواق اللبنانية، فارتفع سعر صرفه مقابل الليرة للمرة الأولى منذ أكثر من 20 عاما، ما دفع الحكومة لاتخاذ إجراءات استثنائية. لكن البعض يرى أن تلك القرارات جاءت متأخرة.

في أكتوبر 2019، انفجر الشارع اللبناني مطالبا بإسقاط السلطة السياسية، وأغلقت المصارف أبوابها، لكن تقارير صحفية تحدثت عن عمليات تحويل لأرصدة ضخمة الى خارج البلاد.

في تقرير لصحيفة فاينانشال تايمز البريطانية، نُشر في صيف 2020، فإنه، وفقا لكبير موظفي الخدمة المدنية المالية السابق في لبنان ومدير عام وزارة المالية السابق ألان بيفاني، قام مصرفيون بتهريب ما يصل إلى 6 مليارات دولار من لبنان منذ  أكتوبر 2019، في تحايل على الضوابط التي تم إدخالها لوقف هروب رأس المال، مع غرق البلاد في أسوأ أزمة مالية منذ ثلاثين 30 عاما، بينما بات مصير مليارات الدولارات مجهولًا. 

بدأت الأزمة المالية بالظهور تدريجيا، لكنها انفجرت حرفيا منذ اندلاع الاحتجاجات في شهر أكتوبر عام 2019. وتشير تقارير رسمية إلى أن أموالا طائلة تصل إلى مليارات الدولارات تم تحويلها إلى الخارج، بينما تم حجز ودائع صغار زبائن البنوك، من دون ضمانات لحماية ودائع المواطنين، ولا سيولة نقدية.

وتقدر تقارير دولية والمصرف المركزي اللبناني أن ودائع صغار زبائن البنوك بحوالي 121 مليار دولار منها ودائع لغير المقيمين تُقدّر بـ20 مليار دولار، وأصحابها لبنانيون وعراقيون ويمنيون وليبيون ومصريون ومن دول الخليج، إضافة لودائع للسوريين، يقدر المصرفيون بأنها أكثر من 3 مليارات دولار.

وفيما تجري التحقيقات حول آلية تهريب الأموال، لم يصل المحققون المحليون ولا حتى الدوليون إلى جواب شاف، لكن كانت دائما "المصالح المتشابكة داخل النظام اللبناني" جزءا من الجواب.

وتعتبر البنوك اللبنانية مرآة للنظام من حيث التقسيم الطائفي، فغالبيتها تابعة لجهات سياسية ومقربين منها، الأمر الذيث كان واضحا في انعدام الرقابة على عمليات إدخال أموال حزب الله المهربة أو غير الشرعية إلى هذه البنوك، مما يعني عمليات تبييض وشرعنة لهذه الأموال.

منذ منذ عام 2001، وضعت الولايات المتحدة حزب الله على قائمة المنظمات الإرهابية، وفرضت عليه عقوبات ضمن خطة لمكافحة تمويل الإرهاب. وفي هذا الإطار صدر قانون مكافحة تبييض الأموال رقم 44، عام 2015، والذي لم يتم تعطبيقه، واكتفى مصرف لبنان بتعاميم، لم تغير واقع الحال.

بدأ لبنان في يناير 2022 مفاوضات رسمية مع صندوق النقد الذي طالما شدد على أنه لن يقدم أي دعم طالما لم تقرّ الحكومة إصلاحات على رأسها تصحيح الموازنة وإعادة هيكلة القطاع المصرفي وإصلاح المؤسسات العامة والتصدي للفساد المستشري.

وأعلن الصندوق في أبريل من العام ذاته اتفاقا مبدئيا على خطة مساعدة بقيمة ثلاثة مليارات دولار على أربع سنوات، لكنّ تطبيقها كان مشروطا بإصلاحات لم يتم تنفيذ معظمها.

في سبتمبر عام 2024، أوقف الحاكم السابق لمصرف لبنان، رياض سلامة، وهو حتى اليوم قيد التحقيق في اتهامات بغسيل الأموال وشراء وبيع سندات خزينة الحكومة اللبنانية. ومنذ انهيار حزب الله اللبناني، في حربه مع إسرائيل، وصعود ما سمي بالعهد الجديد، أقرت حكومة نواف سلام مشروع قانون لإعادة هيكلة المصارف، استجابةً لمطالب صندوق النقد الدولي، الذي اشترط تنفيذ إصلاحات جذرية، بينها رفع السرية المصرفية، كشرط أساسي لأي دعم مالي للبنان، كما تأتي في ظل إدراج مجموعة العمل المالي (FATF) لبنان على اللائحة الرمادية بسبب ثغرات خطيرة في مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.

من المتوقع أن تسهم هذه التعديلات في تعزيز الشفافية المالية، ومكافحة الفساد وتبييض الأموال والتهرب الضريبي، كما يُتوقع أن تفتح الباب أمام إعادة هيكلة النظام المالي اللبناني بالكامل، واستعادة ثقة المجتمع الدولي، وتأمين الدعم المالي اللازم من الجهات المانحة.

إلا أن نجاح هذه الخطوة لا يقاس فقط بالكشف عن الحسابات، بل العبرة في التنفيذ في ظل نظام قضائي شبه مهترئ وتورط بعض من أصحاب النفوذ السياسي والمالي أنفسهم.

لبنان اليوم أمام مفترق طرق، فإما أن يسلك طريق العهد الجديد الذي وعد به اللبنانيون، أو يظل الفساد العنوان الأبرز في سياسات لبنان المالية المقبلة.