توزيع المعونات الغذائية على المحتاجين في بيروت
برنامج الأغذية العالمي قام بتخفيض عدد الأشخاص الذين يتلقون المساعدة

في أحد أزقة طرابلس شمالي لبنان، يخوض عباس يومياً معركة بحث مرهقة عن لقمة عيش تكفي لسد رمق عائلته الصغيرة، ففي ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تضرب البلاد، أصبح تأمين الطعام كابوساً يلاحق الوالد لطفلين، الذي يصارع كل يوم لبقائهما على قيد الحياة بعيداً عن براثن الجوع.

"حتى الدجاج المشوي، الذي لم يكن يعد يوماً وجبة فاخرة، أصبح الآن حلماً"، يقول عباس بغصة، ويضيف: "الأسبوع الماضي، طلبت طفلتي تناوله ولم أكن أملك المال لتحقيق أمنيتها، وعندما أخبرت جاري بالأمر سارع واشترى لها نصف دجاجة".

أما السمك، فلم يدخل منزل عباس منذ سنوات، وطفلاه لا يعرفان طعمه. ويقول لموقع "الحرة": "حتى الشوكولاتة، التي تعتبر من الأشياء البسيطة في حياة الأطفال، أعجز عن شرائها لصغيريّ".

يشير التحليل الذي أجراه برنامج الأغذية العالمي ضمن التصنيف المرحلي للأمن الغذائي، إلى زيادة مقلقة في نسبة السكان الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد في لبنان.

وحسب التصنيف المرحلي المحدث، من المتوقع أن ترتفع هذه النسبة من 19 بالمئة في الفترة ما بين أكتوبر 2023 ومارس 2024، إلى 23 بالمئة في الفترة ما بين أبريل وسبتمبر 2024.

وكان تقرير للبنك الدولي، أفاد بأن الفقر في لبنان تضاعف أكثر من 3 أضعاف خلال العقد الماضي، ليصل إلى 44 في المئة من السكان.

أزمة تعصف بمئات الآلاف  

يعيش عباس حياة مليئة بالمعاناة، إذ يعمل في فرن مقابل 10 دولارات يومياً، لكن حالته الصحية تعوق قدرته على العمل بانتظام. ويقول: "أعيش في خوف دائم على صحة طفليّ اللذين لا يتناولان سوى الحبوب، فحتى الخضراوات والفواكه أصبح ثمنها باهظاً، فكيف إذاً باللحوم والألبان والأجبان".

تزداد الأمور سوءاً مع انقطاع الكهرباء وعدم قدرة عباس على الاشتراك في مولد كهربائي خاص، ويشير إلى أن جاره أشفق عليه، فمد له سلكاً كهربائياً من الطاقة الشمسية الخاصة بمنزله، لتشغيل لمبة واحدة علّها تخفف عن العائلة عتمة الأيام.

يتمنى عباس الموت عدة مرات خلال حديثه، ويشدد: "ربما الرحيل عن هذه الأرض أفضل من أن أرى طفليّ محرومين من أبسط احتياجاتهما. أحلم بأيام أفضل لهما، أريد أن أراهما يضحكان ويلعبان كأي أطفال آخرين، لكن الواقع المرير يجعلني أشعر بالعجز واليأس".

من جانبه، يعرب رئيس اتحاد روابط مخاتير عكار، مختار بلدة ببنين، زاهر الكسار، عن بالغ قلقه إزاء تفاقم أزمة الفقر في لبنان، مشيراً إلى أن التدهور الاقتصادي الحاد الذي أدى إلى فقدان عدد كبير من المواطنين لوظائفهم أو لمدخراتهم في المصارف إضافة إلى تآكل قيمة الرواتب نتيجة ارتفاع سعر صرف الدولار، دفع العديد من العائلات إلى حافة الهاوية، حيث باتت تعتمد على التسول لتأمين أبسط مقومات الحياة، مثل المأكل والمشرب والأدوية والإيجارات.

يتواصل عدد كبير من المواطنين يومياً مع الكسار، طالبين مساعدة مالية أو عينية. ويشدد في حديثه لموقع "الحرة" على أن "العديد منهم يعجزون عن توفير وجبات غذائية كافية لأسرهم، وإن كانت من الخضراوات والفاكهة، أو عن دفع رسوم التسجيل المدرسية الجديدة في المدارس الرسمية، التي تبلغ حوالي 50 دولاراً، حيث تعتبر عبئاً كبيراً عليهم".

وفيما يتعلق بأسعار الفواكه والخضراوات، يوضّح رئيس تجمع الفلاحين والمزارعين في البقاع، إبراهيم الترشيشي، لموقع "الحرة" أن "الأسواق تشهد توفر جميع أنواعها بأسعار مستقرة بشكل عام، إلا أن أسعار العنب والبطاطس تعتبر استثناء، حيث ارتفعت بسبب عوامل عالمية مثل زيادة الطلب على العنب ونقص الإنتاج العالمي للبطاطس".

لكن ما هو مؤكد.. أن لبنان يشهد تزايداً حاداً في أزمة انعدام الأمن الغذائي، كما يقول الباحث في المعهد اللبناني لدراسات السوق، خالد أبو شقرا، مضيفا: "يؤثر ذلك بشكل مباشر على مختلف فئات المجتمع اللبناني، التي تشمل وفق تقرير برنامج الأغذية العالمي، اللبنانيين، والنازحين السوريين واللاجئين الفلسطينيين المقيمين في لبنان، والقادمين من سوريا".

5 مراحل

ويعتمد تصنيف الأمن الغذائي لبرنامج الأغذية العالمي على مؤشر يقسّم السكان ضمن 5 مراحل، كما يشرح أبو شقرا لموقع "الحرة"، "بدءاً من مرحلة الإجهاد، حيث يعاني الأفراد من صعوبات في تأمين الغذاء، وصولاً إلى المرحلتين المتأزمة والطوارئ".

ويشدد على أن لبنان لم يصل بعد إلى مرحلة الطوارئ الكارثية، "لكن الزيادة الملحوظة في عدد الأشخاص الذين يعيشون في مراحل انعدام الأمن الغذائي المتقدمة تدل على تفاقم الأزمة".

وتتركز أزمة انعدام الأمن الغذائي بشكل كبير في المرحلتين الثالثة والرابعة، وفق أبو شقرا، "حيث سيعاني حوالي 41,000 لبناني من سوء التغذية الحاد في المرحلة الرابعة بين أبريل وسبتمبر 2024، بينما تضم المرحلة الثالثة، وهي المرحلة المتأزمة، العدد الأكبر من المتضررين، الذي سيبلغ 642,000 شخص وفق تقرير برنامج الأغذية العالمي".

وما زاد الطين بلّة، أنه "بسبب نقص التمويل ونتائج إعادة الاستهداف، قام برنامج الأغذية العالمي بتخفيض عدد الأشخاص الذين يتلقون المساعدة بنسبة 39 بالمئة اعتباراً من يونيو 2024 مقارنة بعام 2023. وفي النصف الأول من عام 2024، شهد عدد المستفيدين من المساعدات انخفاضاً مماثلاً بنسبة 39 بالمئة مقارنة بالعام 2023" كما ذكر البرنامج في تقريره.

كواليس الكارثة

تفاقمت كارثة انعدام الأمن الغذائي في لبنان بسبب مجموعة من العوامل، أبرزها كما يشرح أبو شقرا "استمرار الصراع المسلح على جبهة جنوب لبنان، الذي أدى إلى نزوح أعداد كبيرة من السكان من المناطق الحدودية، حيث يضطر النازحون إلى ترك مصادر رزقهم مثل الزراعة وتربية المواشي والأعمال التجارية الصغيرة، مما يزيد من معدلات الفقر والبطالة. وتشير التقديرات إلى أن عدد النازحين قد يرتفع من 100,000 إلى 140,000 شخص، مما سيعمق الأزمة الإنسانية".

أما السبب الثاني، فيكمن كما يقول أبو شقرا، في "ارتفاع الأسعار بشكل ملحوظ، حيث تشير البيانات الرسمية الصادرة عن مركز الإحصاء المركزي إلى ارتفاع مؤشر الأسعار بنسبة 35 بالمئة بين يوليو 2023 ويوليو 2024، أي بمعنى آخر، ارتفعت تكلفة المعيشة بشكل كبير خلال هذه الفترة".

من جهة أخرى،" تؤكد دراسات جمعية حماية المستهلك على استمرار هذا الارتفاع، لاسيما في السلع الأساسية، بنسبة 8 بالمئة خلال الربع الثاني من العام 2024، مشيرة إلى ارتفاعات أكبر في قطاعات محددة مثل النقل (30%) والخضار (15%) والمستلزمات المنزلية (20%)".

هذا الارتفاع المتسارع في الأسعار، رغم استقرار سعر الصرف، يؤدي "إلى تآكل القدرة الشرائية للمواطنين ويزيد من حدة الأزمة المعيشية، لاسيما فيما يتعلق بالأمن الغذائي".

يضاف إلى ذلك، حسب أبو شقرا، "تراجع الدعم الاجتماعي، حيث تواجه البرامج الاجتماعية في لبنان صعوبات، مما زاد من معاناة الأسر الأكثر فقراً، فعلى سبيل المثال توقف برنامج الدعم الوطني للأسر الأكثر فقراً، الذي يعتبر شريان حياة للعديد من العائلات اللبنانية، بعد نفاد التمويل المخصص له. ورغم موافقة المجلس النيابي اللبناني على تخصيص تمويل جديد،فإن الخلافات حول كيفية إدارة هذا التمويل أدت إلى تعليق البرنامج".

وكان برنامج الدعم الوطني، يعتمد في المرحلة الأولى، كما يشرح الباحث في المعهد اللبناني لدراسات السوق، "على قرض من البنك الدولي بقيمة 250 مليون دولار، الذي استنفد أواخر عام 2023. وبعد موافقة المجلس النيابي على قرض ثانٍ بقيمة 300 مليون دولار، كان من المتوقع أن يستفيد منه حوالي 150 ألف أسرة".

ومع ذلك، "تعثر تنفيذ القرض الثاني بسبب خلاف حول آلية توزيع المساعدات. فبينما اشترط مجلس النواب أن يكون مجلس الوزراء مسؤولاً عن إدارة هذا التمويل، رفض البنك الدولي ذلك. هذا الخلاف أدى إلى تعليق صرف الأموال منذ عدة أشهر، مما زاد من معاناة الأسر الفقيرة وحرمها من الدعم الذي تحتاجه لتلبية احتياجاتها الأساسية".

علاوة على ذلك، "تراجعت المنظمات الدولية مثل مفوضية شؤون اللاجئين واليونيسيف وبرنامج الأغذية العالمي في تقديماتها الغذائية والنقدية"، حسب أبو شقرا.

وفي السياق "الميكرو اقتصادي"، يعاني الاقتصاد اللبناني وفق ما يقوله أبو شقرا "من صعوبات في تحقيق النمو بسبب تراجع السياحة وتقلص النشاطات الاقتصادية نتيجة المعارك الدائرة على الحدود، مما أدى إلى تقليص معدلات النمو المتوقعة وارتفاع عدد الأشخاص الذين يعيشون تحت خط الفقر".

أما برنامج الأغذية العالمي فيشير إلى أن لبنان يواصل في عام 2024 مواجهة أزمة اجتماعية واقتصادية وسياسية، بما في ذلك الفراغ الرئاسي المطول وتصاعد التوترات على طول حدوده الجنوبية منذ أكتوبر 2023.  

ويشرح البرنامج في تقريره أن "الاشتباكات المستمرة على الحدود الجنوبية أدت إلى نزوح أكثر من 97 ألف شخص، مما زاد من هشاشة الأسر. وتؤدي الصعوبات الاقتصادية، وفقدان الوظائف، وخفض المساعدات الإنسانية، وعدم الاستقرار السياسي، إلى تفاقم التوترات بين المجتمعات المضيفة واللاجئين".

تداعيات خطيرة

يعد نقص الغذاء الكافي "مشكلة تتجاوز مجرد الشعور بالجوع، فهو يمثل تهديداً مباشراً للصحة العامة"، وفقاً لما تؤكده أخصائية التغذية ودكتورة الصحة العامة، ميرنا الفتى.  

وتشير الفتى في حديث لموقع "الحرة"، إلى أن "عدم الحصول على نظام غذائي متوازن وغني بالعناصر الغذائية الأساسية يؤدي إلى اضطراب في وظائف الجسم، مما يزيد من خطر الإصابة بالأمراض المرتبطة بسوء التغذية".

وتشدد على أن "تناول الحبوب وحدها قد يوفر كمية من البروتينات، لكنه لا يغطي جميع الأنواع الضرورية منها، ما قد يتسبب في مشاكل هضمية مثل اضطرابات القولون وصعوبة الهضم، وربما يؤدي إلى عفونة في المعدة."

وفيما يتعلق بتأثير نقص الغذاء على الأطفال، تحذر الفتى من أن "سوء التغذية يعرضهم لخطر التأخر في النمو البدني والعقلي، وضعف جهاز المناعة، مما يجعلهم أكثر عرضة للأمراض المعدية",

وتضيف: "على المدى الطويل، يؤدي سوء التغذية إلى التقزم، وهي حالة لا يصل فيها الأطفال إلى الطول المناسب لعمرهم، إضافة إلى تأثيره على التركيز والأداء الأكاديمي الذي يؤثر بدوره على مستقبلهم المهني والاجتماعي".

تأثير سوء التغذية لا يقتصر على الأطفال فحسب، بل يمتد ليشمل البالغين أيضاً، إذ تقول الفتى إن "الأشخاص الذين يعانون من سوء التغذية يكونون أكثر عرضة للإصابة بالأمراض المزمنة مثل السكري وأمراض القلب، وتقل قدرتهم على الحركة، بالإضافة إلى ذلك، يتأثر الجانب النفسي أيضاً، حيث يعاني من يعيشون في ظل انعدام الأمن الغذائي من الإجهاد النفسي والقلق والاكتئاب".  

لذلك تؤكد على ضرورة "توفير الغذاء المتوازن والمتكامل لجميع الفئات العمرية لتجنب المخاطر الصحية المرتبطة بسوء التغذية".

ويلقي الكسار باللائمة على السلطة السياسية في لبنان لما آلت إليه أوضاع المواطنين، مشيراً إلى أنه "لا يمكن الاعتماد فقط على جهود المخاتير والمجتمع المدني والبلديات في مساعدة الفقراء، ولا على أموال المغتربين التي تدعم عدداً كبيراً من العائلات".

ووفقاً لتقديرات البنك الدولي، فقد بلغت تحويلات المغتربين إلى لبنان نحو 6 مليارات دولار أميركي في عام 2023، ليحتل لبنان بذلك المركز الثالث إقليمياً بعد مصر (19.5 مليار دولار) والمغرب (11.8 مليار دولار).

ويطالب الكسار الحكومة اللبنانية بـ"تحمل مسؤولياتها واتخاذ إجراءات عاجلة لإنقاذ المواطنين من الحالة المأساوية التي يعيشونها"، مشدداً على ضرورة معالجة أسباب الفقر من خلال "التفاوض مع المؤسسات الدولية لتأمين قروض ومساعدات، وزيادة الاستثمارات في القطاعات الإنتاجية، وتوسيع شبكات الأمان الاجتماعي".

حزب الله استغل تدخله في الحرب السورية لتوسيع أنشطته الإجرامية - رويترز
حزب الله استغل تدخله في الحرب السورية لتوسيع أنشطته غير الشرعية - رويترز

في تطور أمني لافت، كشفت السلطات السورية عن ورش سرّية لتزوير العملات تعمل داخل منشآت تقع بالقرب من الحدود اللبنانية – السورية، وذلك خلال حملة أمنية شنتها الأجهزة السورية في المناطق الحدودية.

وتداول ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو توثّق هذه المصانع، حيث أظهرت المشاهد المضبوطات التي عثرت عليها السلطات السورية.

وشملت المضبوطات مطابع حديثة وأوراقاً نقدية خاصة بعمليات التزوير، إلى جانب عملات مزورة من فئة الخمسين دولاراً.

وأشارت تقارير إلى أن إحدى هذه الورش تقع في ريف القصير، المنطقة التي كانت خاضعة لسيطرة حزب الله لسنوات.

هذا التطور الأمني أعاد إلى أذهان اللبنانيين أزمة انتشار العملة المزورة من فئة 50 دولاراً قبل أشهر، عندما اضطر العديد من التجار إلى التوقف عن التعامل بها، بعد تقارير أشارت إلى أن أجهزة كشف التزوير المتطورة فشلت في تمييزها عن العملات الحقيقية، مما أحدث حالة من الذعر في الأسواق.

القصير السورية.. بوابة صعود وأفول "حدود حزب الله"
قبل 12 عاما.. كسر حزب الله الحدود بين سوريا ولبنان، واختار دعم نظام بشار الأسد ضد مناهضيه من فصائل "الجيش السوري الحر".. وبعدما وضع كل ثقله العسكري هناك، تمكن من إحكام السيطرة على القصير "الاستراتيجية"، وكل القرى والبلدات التابعة لها.

وفي ظل هذا الاكتشاف، يُطرح تساؤل حول مدى تأثير هذه المصانع على الاقتصاد اللبناني، الذي يعتمد بشكل كبير على التعاملات النقدية بالدولار، في وقت يعاني فيه من أزمة اقتصادية ومالية خانقة.

احترافية متفاوتة

"اتجه حزب الله إلى التجارة غير الشرعية بفعل العقوبات الدولية التي فرضت قيوداً صارمة على مصادر تمويله"، كما يؤكد المحلل السياسي والمحامي أمين بشير.

وقال بشير، لموقع "الحرة"، إن "الرقابة المشددة على الأفراد والمؤسسات التي يُشتبه في دعمها للحزب دفعته إلى اللجوء إلى أساليب غير قانونية، أبرزها تزوير العملات وتجارة المخدرات والاتجار بالبشر والأعضاء، مستغلاً حالة الانهيار الاقتصادي والأمني في لبنان وسوريا".

وشدد بشير على أن "حزب الله لعب دوراً رئيسياً في انتشار الدولارات المزورة في السوق اللبنانية، مستغلاً الأزمة المالية الخانقة لإيقاع المواطنين في عمليات احتيال واسعة".

وأضاف أن حزب الله، وعبر عصابات مرتبطة به، كان يروّج هذه العملة من فئة 50 دولاراً على أنها سليمة وغير مزورة، ولكن الولايات المتحدة أوقفت التداول بها بذريعة أنها تمّت سرقتها في العراق أو ليبيا.

وأوضح بشير أن "هذه الادعاءات ليست سوى خدع تُستخدم للإيقاع بالضحايا من قِبل عصابات مرتبطة بحزب الله. تستدرج الزبائن من خلال إثارة الرغبة بالربح والمكاسب السريعة، إذ تُباع الدولارات المزورة بنصف ثمنها".

ويسعى مزوّرو العملات إلى تقليد الأوراق النقدية الأصلية مستغلين التطور التكنولوجي لإنتاج نسخ مزيفة يصعب كشفها.

وتتراوح أساليب التزوير بين الاحترافية والبدائية، وفقاً للباحث في المعهد اللبناني لدراسات السوق، خالد أبو شقرا.

وقال أبو شقرا، لموقع "الحرة"، إن "التزوير الاحترافي يتم عبر الطباعة الحجرية (الأوفست)، وهي تقنية متقدمة تستخدم تقنيات مشابهة للطباعة الرسمية التي تعتمدها البنوك المركزية، ما يجعل اكتشافها أكثر صعوبة. وتتم هذه العملية باستخدام طابعات أوفست، وورق مماثل إلى حدٍّ ما للورق النقدي الحقيقي، مع كليشيهات للعملات المراد تزويرها، مما يسمح بطباعة تفاصيل دقيقة باستخدام أحبار خاصة لمحاكاة التدرجات اللونية الأصلية".

في المقابل، أضاف أبو شقرا: "تعد الطباعة الرقمية تقنية أقل احترافية، حيث يتم مسح العملة الأصلية وتصميمها عبر برامج متخصصة مثل 'فوتوشوب'، ثم طباعتها باستخدام طابعات ليزرية أو نافثة للحبر، مع إضافة تفاصيل يدوية مثل الأختام والأرقام التسلسلية المزيفة".

ويسعى المزورون إلى محاكاة الميزات الأمنية التي تتمتع بها العملات الحقيقية، وأبرزها كما يقول أبو شقرا: "الخيط الأمني، وهو شريط معدني دقيق مدمج في الورقة النقدية يصعب تقليده، إضافة إلى العلامة المائية التي لا تظهر إلا عند تعريض الورقة للضوء".

وأردف قائلًا: "كما يعتمد التزوير على محاولة استنساخ الطباعة البارزة التي تستخدم حبراً خاصاً يمنح بعض أجزاء الورقة ملمساً خشناً، إلى جانب الحبر المتغير اللون، الذي يتبدل عند تحريك الورقة، مما يجعل اكتشاف التزييف أكثر صعوبة".

استهداف رغم التحصين

على الرغم من تركيز المزورين على تزوير العملة الأميركية، فإن الدولار الأميركي يُعد، كما يقول أبو شقرا، "من أكثر العملات تحصيناً ضد التزوير عالميًا، بفضل استخدامه تقنيات متطورة وأوراق خاصة وأرقام تسلسلية معقدة، ما يجعل عمليات التزوير عالية الاحترافية غير مجدية اقتصادياً نظراً لتكاليفها المرتفعة".

أما بالنسبة إلى الليرة اللبنانية، فإن تزويرها، كما يقول أبو شقرا، "يشكل تهديداً أكبر على اللبنانيين، نظراً لانهيار قيمتها بنسبة 98%، ما دفع اللبنانيين إلى التعامل بكميات كبيرة من الأوراق النقدية، مما يزيد من احتمالية تمرير العملات المزورة دون اكتشافها".

ومع ذلك، يشير إلى أن "92 بالمئة من التعاملات اليومية في لبنان تُجرى بالدولار، مما يجعل تزويره أكثر ربحية للمزورين مقارنة بالليرة التي فقدت قيمتها ولم تعد تستخدم إلا في المعاملات الصغيرة".

ويربط أبو شقرا انتشار التزوير في لبنان بالاعتماد شبه الكامل على التعامل النقدي، "إذ يفضل المواطنون الدفع نقداً بدلاً من استخدام البطاقات المصرفية أو وسائل الدفع الإلكترونية، نتيجة انعدام الثقة في القطاع المصرفي".

وقال: "أي شائعة عن تزوير العملات تثير الذعر في الأسواق، وتدفع الناس إلى رفض قبول فئات نقدية معينة، مما يزيد من تعقيدات الأزمة الاقتصادية، خاصة في ظل غياب بدائل واضحة للدفع".

"خوف المواطنين من العملات المزورة أمر طبيعي وموجود في جميع الدول"، كما أكد نقيب الصرافين، مجد المصري، لكن "انتشار العملات المزورة في السوق اللبناني لا يزال محدوداً".

وشدد على أنه "حين أُثير الجدل سابقاً حول وجود عملات مزيفة من فئة 50 دولاراً، تعاونت النقابة مع الأجهزة الأمنية للتحقق من الأمر، ليتبين لاحقاً أن حجم التزوير كان مبالغاً فيه".

وقال المصري، لموقع "الحرة"، إن "اكتشاف العملات المزيفة يعتمد بشكل أساسي على نوعية الطباعة والأوراق المستخدمة".

وأشار إلى أن تأثيرها على قطاع الصرافة "أقل مما هو عليه بالنسبة للمواطنين والتجار، فالصراف المحترف لديه خبرة كافية لاكتشاف العملة المزورة حتى دون الحاجة إلى آلة الفحص التي يستخدمها بشكل أساسي عند التعامل مع مبالغ كبيرة".

وأضاف أنه "من الطبيعي عند ارتفاع نسبة العملات المزورة في السوق، أن يزداد الحذر والتدقيق تلقائياً".

تداعيات خطيرة

انتشار العملات المزورة يؤدي إلى تداعيات اقتصادية خطيرة، أبرزها كما يشير أبو شقرا، "زيادة الأعباء على المستهلكين والتجار، وارتفاع كلفة التعامل النقدي".

وأوضح: "في الفترة الماضية، شهدنا محاولات من بعض الصرافين غير النظاميين لشراء فئة 50 دولاراً من المواطنين بسعر أقل من قيمتها الفعلية، رغم أنها سليمة، ما يعني خسارة إضافية يتحملها المواطن اللبناني".

وفي محاولة للحد من التعامل النقدي، أصدر مصرف لبنان أواخر عام 2023 تعميماً يحمل الرقم 165، يسمح للمصارف، كما قال أبو شقرا، "بإجراء مقاصة على الحسابات الجديدة، سواء بالليرة أو بالدولار، بهدف تقليل الاعتماد على النقد، وتشجيع استخدام الشيكات والبطاقات المصرفية ووسائل الدفع الإلكتروني، إلى جانب كونه شرطاً لمكافحة تبييض الأموال، حيث إن المدفوعات النقدية يصعب تتبعها مقارنة بالمعاملات المصرفية الرقمية".

ولكشف العملات المزيفة، تستخدم مؤسسات الصيرفة والمؤسسات التجارية الكبرى أجهزة فحص متطورة.

وأكد المصري أن "النقابة تتابع استيراد أحدث آلات كشف التزوير لتعزيز الحماية".

وفيما يتعلق بحماية المواطنين، نصح المصري بالتعامل فقط مع الصرافين الرسميين الشرعيين.

وقال إن الصرافين المرخصين "يعملون تحت رقابة النقابة ومصرف لبنان والجهات المختصة، مما يجعل من الصعب جداً حصول العملاء على عملات مزورة عبرهم".

في المقابل، حذّر المصري من التعامل مع الصرافين غير الشرعيين، "الذين لا يصح أن يتم تصنيفهم كصرافين".

أما عن تقديرات الخسائر التي يتكبدها الصرافون بسبب العملات المزورة، فقد وصفها المصري بأنها "لا تُذكر"، قائلاً: "إذا مرّت ورقة نقدية مزورة عبر آلة الفحص، فإنها تكون حالات نادرة جداً".


من جانبه، اعتبر أبو شقرا أن "الحديث عن ضرورة تحديث هذه الأجهزة باستمرار ليس دقيقًا، إلا إذا كانت درجة التزوير عالية جدًا، وهو أمر نادر في لبنان بسبب كلفته المرتفعة".

ورغم تطور أساليب التزوير، لا تزال البنوك المركزية تعمل، كما قال أبو شقرا، "على تعزيز ميزات الأمان في العملات، مثل إدخال أوراق البوليمر وعناصر أمنية أكثر تعقيدًا. وفي المقابل، يواصل المزورون البحث عن طرق جديدة للتحايل على أنظمة الكشف، مما يجعل المعركة ضد تزوير العملات سباقًا لا ينتهي بين الجريمة والقانون".

دعوة لحل الحزب ومحاسبته

ضبط مصانع تزوير العملات في سوريا، حيث كان يسيطر حزب الله، كشف للسلطات اللبنانية، كما قال بشير، "مصدر هذه الأموال المزورة، لذلك لا بد من تحرك القضاء اللبناني وعدم تجاهل القضية بحجة أن التزوير حصل في سوريا، لأن حزب الله ألغى الحدود بين البلدين وحوّلها إلى ممر آمن لتجارته غير المشروعة".

واعتبر بشير أن "حزب الله استغل سيطرته على المعابر الحدودية اللبنانية السورية، خاصة بعد عام 2013، لتمرير عملياته غير القانونية، سواء عبر تهريب العملات المزورة أو المخدرات".

وأوضح أن "لبنان اعترف رسميًا بوجود 35 معبرًا غير شرعي، وفق تصريح وزير الدفاع الأسبق إلياس بو صعب، الذي أقرّ بعجز الدولة عن ضبطها، وهو ما أتاح للحزب إدارة شبكة تهريب ضخمة دون أي رقابة حكومية".

وأشار إلى أن حزب الله مصنّف منذ زمن كمنظمة إرهابية دوليًا، لكن "البعض اعتبر أن هذا التصنيف سياسي، إلا أن الوقائع اليوم تكشف تورطه في كل المحظورات، مما يفرض على الدولة اللبنانية اتخاذ موقف حاسم وتصنيفه كمنظمة إرهابية محظورة".

وأضاف: "حتى المشاريع التي يديرها حزب الله، مثل القرض الحسن، تعتبر غير قانونية في لبنان لكنها تعمل تحت الأمر الواقع، ما يعكس حجم الفوضى التي تسبب بها الحزب داخل البلاد".

وطالب بشير بحل حزب الله ليس فقط "لكونه ليس حزبًا مرخصًا في الأساس، بل كذلك بسبب أنشطته، من تزوير العملات إلى تجارة المخدرات والابتزاز، ما جعله أقرب إلى عصابة إجرامية".

كما يجب أن تتحمل قيادات حزب الله، كما شدد بشير، "المسؤولية الجزائية والجنائية عن هذه الجرائم، وكذلك يجب إسقاط الشرعية عن ممثليه في البرلمان والحكومة، فلا يمكن لأي نائب أو مسؤول سياسي أن يحتفظ بشرعيته إذا كان جزءًا من تنظيم يعتمد على الجريمة المنظمة، ويجب محاكمة المتورطين منهم في هذه الأعمال".

وأكد أن التغيرات السياسية في لبنان، مثل انتخاب رئيس جديد وتشكيل حكومة ذات توجهات منفتحة على المجتمع الدولي، تفتح الباب أمام استعادة السيادة اللبنانية.

وختم قائلاً: "السلطات اللبنانية أمام فرصة تاريخية لإنهاء هيمنة الميليشيات المسلحة، ووضعها تحت سلطة القانون".