حاكم مصرف لبنان المركزي السابق رياض سلامة متهم بارتكاب جرائم مالية
حاكم مصرف لبنان المركزي السابق رياض سلامة متهم بارتكاب جرائم مالية

من "منقذ مالي" للبنان ورمز للاستقرار الاقتصادي، إلى متهم بالاختلاس والفساد على المستويين المحلي والدولي.. هكذا تحولت مسيرة حاكم مصرف لبنان السابق، رياض سلامة، الذي قضى 30 عاماً على قمة السلطة المالية، قبل أن يصبح موقوفاً خلف القضبان.

قرر النائب العام التمييزي، القاضي جمال الحجار، الثلاثاء، توقيف سلامة بعد استجوابه على مدى نحو 3 ساعات، بشأن "شبهات اختلاس من مصرف لبنان". وقد ركز التحقيق، كما أوردت الوكالة الوطنية للإعلام، على ملف "أوبتيموم"، وهي شركة لبنانية تقدم خدمات الوساطة المالية.

وعقب قرار توقيف سلامة، صرّح الحجار بأن "الخطوة القضائية التي اتخذت بحق سلامة هي احتجاز احترازي لمدة 4 أيام، على أن يحال بعدها إلى قاضي التحقيق لاستجوابه واتخاذ القرار المناسب بحقه".

والأربعاء، نقلت وكالة رويترز عن مصدرين قضائيين، أن سلامة، الذي ألقي القبض عليه، الثلاثاء، بتهمة ارتكاب جرائم مالية، سيظل رهن الاحتجاز حتى موعد جلسة استماع "من المرجح أن تنعقد الأسبوع المقبل".

وأضاف المصدران أنه بعد استجوابه، "يمكن للقاضي الذي يرأس الجلسة أن يقرر ما إذا كان سيبقيه قيد الاحتجاز أم لا"، لافتين إلى أنه "لم يتم اتخاذ قرار بعد بشأن هذا الأمر".

وعلى مدار سنوات، كان سلامة يعتبر الركيزة الأساسية للنظام المالي اللبناني، لكن مع انهيار الاقتصاد في عام 2019، تغيرت هذه الصورة تماما.

فمع تفاقم الأزمة الاقتصادية والمالية، واجه اللبنانيون فقراً متزايداً، لاسيما مع تجميد ودائعهم في المصارف، وفقدان الليرة اللبنانية أكثر من 95 بالمئة من قيمتها مقابل الدولار، مما أدى إلى سخط شعبي "انفجر" في الشارع على شكل احتجاجات واسعة اندلعت في أكتوبر 2019.

التدهور المالي والاقتصادي الذي شهده لبنان، دفع القضاء اللبناني وعدداً من الدول الأوروبية، إلى فتح تحقيقات حول تورط سلامة في استغلال منصبه لاختلاس المال العام، وبناء ثروة بالفساد.

"مهندس" أم "ساحر"؟

تولى سلامة الذي يحمل الجنسية الفرنسية أيضاً، منصب حاكم مصرف لبنان عام 1993، بتعيين من رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، بعد مسيرة مهنية في شركة "ميريل لينش" المالية العالمية، وذلك بعد أن حائز على شهادة في الاقتصاد من الجامعة الأميركية في بيروت.

اعتُبر سلامة "مهندس السياسات المالية" في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية (1975-1990). 

ووفق تقرير نشرته صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية في أغسطس 2023 بعنوان "الساحر: رياض سلامة ونهب لبنان"، "اعتمد النظام المالي اللبناني بشكل كبير خلال فترة حكم سلامة على تدفقات رأس المال من دول الخليج والمغتربين اللبنانيين الأثرياء، مستفيداً من قوانين السرية المصرفية".

وأضاف أنه "لضمان استقرار أسعار الفائدة وتمويل خطط إعادة الإعمار، ثبّت سلامة والحريري سعر صرف الليرة اللبنانية عند 1507 ليرات للدولار، وهو مستوى استمر حتى الانهيار المالي".

ونجح النظام المالي الذي أشرف عليه سلامة في توفير مستوى معيشي مرتفع للكثير من اللبنانيين، رغم أن الاقتصاد الوطني كان غير منتج. وحصل المدخرون على أسعار فائدة مرتفعة، وتمكنوا من تحويل عملاتهم المحلية إلى الدولار بسعر صرف ثابت، مما عزز ثقتهم في سلامة، خاصة مع نجاح لبنان في تجاوز الأزمة المالية العالمية عام 2008.

ورغم إعادة بناء لبنان خلال هذه الفترة، فإن ذلك تم على حساب الاقتصاد الوطني، فقد تجاوزت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي 150 بالمئة، وهي واحدة من أعلى النسب في العالم خلال العقدين الماضيين، كما أوردت "فايننشال تايمز"، مضيف أنه "لُقب بالساحر لقدرته على إبقاء الاقتصاد اللبناني صامداً في مواجهة الصراعات والفوضى السياسية".

ومع تباطؤ التحويلات بالدولار، زادت الضغوط على نظام مالي يتطلب تدفقات مستمرة من العملة الصعبة للصمود. 

وفي عام 2016، لجأ سلامة، حسب وكالة رويترز، إلى سحب الدولارات من البنوك المحلية بأسعار فائدة مرتفعة، وهي خطوة وصفها البنك الدولي بأنها "مخطط بونزي"، حيث تعتمد على الحصول على قروض جديدة لسداد الديون القائمة.

ومع نضوب الدولارات، جُمّدت الودائع بالعملات الأجنبية لمعظم المدخرين، أو أُجبروا على إجراء عمليات سحب بالعملة المحلية وفقاً لأسعار صرف أفقدت مدخراتهم معظم قيمتها، مما أدى إلى انهيار الثقة في النظام المالي الذي أشرف عليه سلامة، حسب رويترز.

واعتبر خبراء اقتصاديون أن "إصرار سلامة على الحفاظ على سعر الصرف الثابت بأي ثمن كان أحد الأسباب الرئيسية وراء الأزمة المالية التي عصفت ولا تزال بلبنان".

يذكر أن سلامة نال العديد من الجوائز والأوسمة العالمية على مدار مسيرته، من بينها جائزة "أفضل حاكم مصرف مركزي في العالم" لعام 2006 من مجلة "يورو موني"، وجائزة مماثلة من مجلة "بانكر" في عام 2009.

تحقيقات وعقوبات

بعد الانهيار المالي والاقتصادي في لبنان، أطلقت سويسرا عام 2020 تحقيقاً في أنشطة سلامة، تلاها في عام 2021 لبنان وفرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ. كما حققت السلطات في موناكو وليختنشتاين وبلجيكا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة في تلك الأنشطة، وفق "فايننشال تايمز".

وتشتبه هذه الدول بضلوع سلامة في "جرائم اختلاس أموال عامة وتبييض أموال وفساد، بالإضافة إلى تحميله جزءاً كبيراً من المسؤولية عن الأزمة المالية التي أصابت البلاد".

صورة ارشيفية لتظاهرة أمام أحد فروع مصرف لبنان

وفي أغسطس 2023، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية بياناً اتهمت فيه سلامة باستغلال منصبه لتحقيق مكاسب شخصية ضخمة على حساب الشعب اللبناني.

وكشف البيان عن "تورط سلامة في تأسيس عدد من الشركات الوهمية وفتح حسابات مصرفية في أوروبا ومنطقة البحر الكاريبي، مما سمح له بإدارة مخططات مالية معقدة تهدف إلى إثرائه الشخصي بمساعدة أفراد من عائلته وزملائه المقربين".

وأحد أبرز هذه المخططات كان تعاونه مع شقيقه رجا سلامة عبر شركة وهمية مسجلة في جزر فيرجن البريطانية باسم "فوري"، لتحويل حوالي 330 مليون دولار من معاملات مصرف لبنان.

وكجزء من هذا المخطط، وافق رياض سلامة على عقد يسمح لشركة شقيقه بالحصول على عمولة على مشتريات الأدوات المالية من قبل البنوك اللبنانية من مصرف لبنان، على الرغم من أن شركة رجا لم تقدم أية فائدة واضحة لهذه المعاملات، وتجنب العقد تسمية شركة فوري أو مالكها. ثم نقل سلامة ورجا هذه الأموال إلى حسابات مصرفية بأسمائهما أو بأسماء شركات وهمية أخرى.

وانضمت ماريان حويك، المساعدة الرئيسية لسلامة في مصرف لبنان، إلى الثنائي في هذه المغامرة، من خلال تحويل مئات الملايين من الدولارات - أكثر بكثير من راتبها الرسمي في مصرف لبنان - من حسابها المصرفي الخاص إلى حسابات سلامة ورجا.

وقد تم تحويل الأموال المحولة بشكل متكرر إلى عدد من شركات إدارة العقارات في فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ وبلجيكا، التي كانت مسجلة باسم نجل سلامة، نادي سلامة، أو شريكة سلامة السابقة، الأوكرانية آنا كوساكوفا التي لسلامة ابنة منها، وفقا لشهادة ميلاد اطّلعت عليها "رويترز"، واستخدمت تلك الأموال لشراء عقارات فاخرة.

وأشارت وزارة الخزانة الأميركية إلى أن سلامة "استخدم شركات وهمية في بنما، وصندوقاً ائتمانياً في لوكسمبورغ، لإخفاء هويته عند شراء أسهم في شركة عمل فيها ابنه كمستشار استثماري". ولاحقاً، باع هذه الأسهم إلى مصرف لبناني يخضع لتنظيم مصرف لبنان، مما يشكل تضارباً واضحاً في المصالح وانتهاكاً محتملًا للقانون اللبناني.

على أثر ذلك، أدرجت واشنطن سلامة على قائمة العقوبات، متهمة إياه بالتورط في ممارسات فاسدة وغير قانونية ساهمت في تدهور سيادة القانون في لبنان.

ولم تقتصر العقوبات على سلامة وحده، بل شملت أيضاً أفرادا من عائلته وشركائه. وأكدت الوزارة أن هذه الإجراءات جاءت بالتنسيق مع المملكة المتحدة وكندا، ضمن جهود مشتركة لمحاسبة من يسيئون استخدام مناصبهم لتحقيق مكاسب شخصية على حساب الشعب اللبناني.

أرباح بالمليارات

فيما يتعلق بملف شركة "أوبتيموم"، كشف التدقيق الذي أعدته شركة "كرول"، أن مصرف لبنان قدّم قرضاً للشركة بقيمة 8.6 مليار دولار لشراء سندات خزينة من المصرف نفسه. ومع كل عملية، كان المصرف يعيد شراء السندات من الشركة، مما رفع القيمة الإجمالية إلى 16.6 مليار دولار، وفق وسائل إعلام لبنانية.

نتيجة لهذه العمليات، حققت الشركة أرباحاً بقيمة 8 مليارات دولار، وُضعت في حساب بمصرف لبنان قبل أن تسحب إلى جهة مجهولة. ولم يسمح لشركة "آلفاريز آند مرسال"، المتخصصة في تقديم الخدمات الاستشارية، بتتبع حركة الأموال خلال التدقيق الجنائي.

وأعيد فتح ملف "أوبتيموم" مؤخراً بناءً على تقرير وحدة الأسواق المالية، ودعوى قضائية مقدمة من مجموعة من المدعين بينهم محامون.

وعقب توقيف سلامة، الثلاثاء، انقسم اللبنانيون بين من يرون في هذه الخطوة "بداية جادة لمعالجة قضايا الفساد والشبهات المالية المرتبطة به"، ومن يعتبرون أن الأمر "لا يتعدى كونه مسرحية قضائية ستنتهي بتبرئته".

يذكر أن الممثلة اللبنانية ستيفاني صليبا، برزت في قضايا سلامة، حيث تم توقيفها عام 2022 من قبل القضاء اللبناني على خلفية تحقيقات تتعلق بشبهات "تبييض أموال وإثراء غير مشروع"، قبل أن يتم الإفراج عنها بعد ساعات.

وارتبط اسم صليبا بسلامة بعد أن قامت بتصوير إعلان ترويجي لمصرف لبنان في أكتوبر 2019، حيث ظهرت في الفيديو مرتدية أزياء تحمل فئات من عملة الليرة اللبنانية تحت شعار "ليرتنا قوتنا"، لصالح مجلة الأزياء اللبنانية "Spécial Madame Figaro" الصادرة باللغة الفرنسية.

أثارت صورة صليبا وهي ترتدي قميصاً يحمل الليرة الواحدة، اهتماماً كبيراً آنذاك، لكنها واجهت انتقادات بعد الانهيار المالي الكبير الذي ضرب الاقتصاد اللبناني بعد فترة قصيرة من حملة "ليرتنا قوتنا"، مما جعل الممثلة في مرمى الانتقادات، باعتبار أنها "جزءا من الماكينة الإعلامية لسلامة والمقربين منه، الذين روجوا إلى وضع مالي لليرة بشكل مغاير للواقع".

"تلاعب وسوء إدارة"

كشف تقرير التدقيق الجنائي الصادر عن شركة "ألفاريز ومارسال" في 11 أغسطس 2023 عن "سوء إدارة" وثغرات كبيرة في عمل مصرف لبنان المركزي خلال السنوات الخمس الماضية، مع التركيز على دور سلامة.

التقرير، الذي جاء في 332 صفحة، أشار إلى أن "الوضع المالي للمصرف المركزي تدهور بسرعة بين عامي 2015 و2020". 

ومع ذلك، لم يظهر هذا التدهور في الميزانية العمومية للمصرف، وذلك بفضل سياسات حسابية "غير تقليدية" سمحت للمصرف بالمبالغة في تقدير الأصول والأرباح وتجنب إظهار الخسائر الحقيقية.

وأكد التقرير أن الهندسات المالية التي أشرف عليها سلامة كانت "مكلفة للغاية"، وأبرز أن سلطته كصاحب القرار الرئيسي لم تكن تحت "رقابة كافية". كما كشف عن "دليل على دفع عمولات غير شرعية" بلغت 111 مليون دولار، مشيراً إلى احتمال وجود مخطط أكبر للعمولات.

وخلال استجوابه، أفاد سلامة للمحققين الأوروبيين بأن قيمة ممتلكاته النقدية والعقارية في عام 1993 بلغت 60 مليون دولار، منها 8 ملايين دولار من الأراضي العائلية الموروثة، وذلك وفقاً لتقرير "فايننشال تايمز"، مضيفا أن ثروته الحالية تقدر بنحو 200 مليون دولار، مما يعني أنها تضاعفت أكثر من 3 مرات خلال 3 عقود.

رياض سلامة شغل منصبه لنحو ثلاثة عقود

وأشارت الصحيفة، إلى أن سلامة أرجع تراكم ثروته إلى سنوات عمله كمصرفي استثماري وإلى استثماراته اللاحقة. إلا أن دراسة مالية أجراها محققون ألمان في عام 2022، خلصت إلى أنه "لم يكن بإمكان سلامة جمع كل هذه الثروة بالأموال التي كان يمتلكها بشكل شرعي قبل توليه منصب الحاكم".

مصادر مطلعة على التحقيقات أكدت للصحيفة أن تقديرات سلامة لثروته "قد تكون متحفظة"، حيث من المحتمل أن تكون "العديد من الأصول مخفية في ملاذات ضريبية أو محمية بسرية البنوك في لبنان".

تجدر الإشارة إلى أن شركة "ألفاريز ومارسال" كانت قد علقت عملها في التدقيق الجنائي لمدة تقارب العام، بعدما رفض مصرف لبنان تزويدها بكافة المستندات المطلوبة بحجة السرية المصرفية، قبل أن تستأنف عملها في أكتوبر 2021.

كبش فداء؟

وأعلنت وكالة الاتحاد الأوروبي للتعاون في مجال العدالة الجنائية (يوروجست) في مارس 2022، عن تجميد فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ 120 مليون يورو من الأصول اللبنانية. 

وكان هذا الإجراء جزءاً من تحقيق يستهدف سلامة، و4 من المقربين منه، بتهم غسل أموال واختلاس أموال عامة في لبنان، تجاوزت قيمتها 330 مليون دولار و5 ملايين يورو بين عامي 2002 و2021.

فرنسا صادرت بعض ممتلكات حاكم مصرف لبنان رياض سلامة
 تجميد ورفع السرية عن حسابات حاكم مصرف لبنان السابق.. ماذا يعني القرار؟
ضربة جديدة تلقاها حاكم مصرف لبنان السابق، رياض سلامة، هذه المرة محلية، فبعد العقوبات الاقتصادية، الأميركية والكندية والبريطانية عليه، أصدرت هيئة التحقيق الخاصة لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب في مصرف لبنان، الاثنين، قرارا بتجميد حساباته المصرفية وشركاء له ورفع السرية عنها تجاه المراجع القضائية المختصة.

وفي مارس 2023، تقدّمت الدولة اللبنانية بادعاء شخصي بحق سلامة، بجرائم الرشوة والتزوير وتبييض الأموال والإثراء غير المشروع والتهرّب الضريبي. وشمل الادعاء اللبناني إلى جانب سلامة، شقيقه رجا، ومساعدته ماريان الحويك، وكل من يظهره التحقيق.

وفي مايو 2023، أصدر القضاء الفرنسي مذكرة اعتقال بحق سلامة بتهم اختلاس أموال عامة، بالإضافة إلى نشرة حمراء من الإنتربول للقبض عليه. 

وكانت السلطات الألمانية قد أصدرت في ذات الشهر مذكرة اعتقال بحقه بتهم الفساد، إلا أن هذه المذكرة ألغيت "لأسباب فنية"، وفقاً لما صرّح به مكتب المدعي العام في ميونخ لرويترز. ومع ذلك، تواصل التحقيقات وتبقى أصول سلامة المالية مجمدة.

وفي يوليو 2023، وافق القضاء الفرنسي على نقل أصول مجمدة تخص سلامة وشركاءه إلى الدولة اللبنانية. وفي 14 أغسطس 2023، أصدرت هيئة التحقيق الخاصة بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب في مصرف لبنان، قراراً بتجميد الحسابات المصرفية لسلامة و4 من شركائه، بعد رفع السرية المصرفية عن حساباتهم.

وأثناء مقابلة تلفزيونية محلية أجريت مع سلامة في يوليو 2023، دافع الرجل عن فترة ولايته، زاعما أنه كان "كبش فداء" للأزمة المالية في البلاد، وأن المسؤولية عن إنفاق الأموال العامة "تقع على عاتق الحكومة وليس البنك المركزي"، مشيراً إلى نيته "طي صفحة من حياته"، مؤكداً أن "المنظومة غسلت يديها" منه منذ زمن.

فرنسا صادرت بعض ممتلكات حاكم مصرف لبنان رياض سلامة
ماذا يعني إصدارة مذكرة التوقيف بحق رياض سلامة؟

أصدر قاضي التحقيق الأول بالإنابة في بيروت، بلال حلاوي، الاثنين، مذكرة توقيف وجاهية بحق حاكم مصرف لبنان السابق، رياض سلامة، وذلك بعد مثوله أمامه صباحاً لاستجوابه في إطار اتهامات وجهتها النيابة العامة المالية له، تتمحور حول ارتكابه جرائم "سرقة أموال عامة، والإثراء غير المشروع، وتبييض الأموال، والتهرب الضريبي."

وأوقف سلامة، الثلاثاء الماضي، بقرار من النائب العام التمييزي القاضي جمال الحجار، بعد استجواب استمر لثلاث ساعات، حيث يشتبه القضاء في تورطه في الاستيلاء على 41 مليون دولار من أموال البنك المركزي، عبر إنشاء شركات وهمية.

ووصل سلامة اليوم إلى قصر العدل في بيروت، كما حضر وكلاء الدفاع عنه، بالإضافة إلى القاضية هيلانة إسكندر، رئيسة هيئة القضايا في وزارة العدل (التي تملك صلاحية الدفاع عن حقوق الدولة اللبنانية)، بعد أن اتخذت صفة الادعاء ضد حاكم مصرف لبنان السابق وكل من يظهره التحقيق.

بيد أن حلاوي رفض حضور إسكندر جلسة التحقيق، بحجة وجود خطأ في الشكل بشأن انضمامها للدعوى كونها لا تحوز على ترخيص بالادّعاء من الوزير المختص (وزير المالية)، رغم أنها عادت ورفعت كتاباً إلى حلاوي وفق الأصول القانونية لحضور الجلسة.

وعلى صعيد آخر، شهد محيط قصر العدل في بيروت إجراءات أمنية مشددة من قبل الجيش والقوى الأمنية، في الوقت الذي نظم فيه عدد من المودعين وقفة أمام المبنى، مطالبين بإنصافهم واسترجاع ودائعهم الموجودة في المصارف.

بلبلة قانونية

أثار منع حلاوي رئيسة هيئة القضايا في وزارة العدل من حضور جلسة استجواب سلامة، بلبلة قانونية، وبحسب ما يؤكد رئيس جمعية "الشعب يريد اصلاح النظام"، المحامي حسن بزي أنه "لا حاجة لهيئة القضايا في وزارة العدل للحصول على إذن أو ترخيص بالادعاء من أي مرجع، إذ تمثل هذه الهيئة الدولة قضائياً بناءً على القانون دون الحاجة لإذن من أحد، فواجبها الحفاظ على مصالح الدولة أمام القضاء".

ويوضح بزي في حديث لموقع "الحرة" أن "المادة 16 من قانون تنظيم وزارة العدل تنص على أن رئيس هيئة القضايا يتولى تمثيل الدولة في لبنان والخارج أمام جميع المحاكم العدلية أو الإدارية أو التحكيمية على اختلاف أنواعها ودرجاتها وسائر الهيئات ذات الصفة القضائية، إما شخصياً أو بواسطة أحد معاونيه من قضاة الهيئة أو محامي الدولة".

ويضيف أن "المادة 18 تحدد مهام هيئة القضايا، بما في ذلك إقامة الدعاوى باسم الدولة والدفاع عنها في الداخل والخارج، إعداد الاستحضارات واللوائح والمذكرات وتوقيعها، تبلغ الاستحضارات والمذكرات والأحكام والقرارات العائدة لدعاوى الدولة، المثول أمام جميع المحاكم العدلية والادارية، والقيام بجميع الأعمال اللازمة التي يتطلبها الدفاع عن مصالح الدولة امام المحاكم سواء كانت مدعية او مدعى عليها".

ولا يحق لأي محكمة أو قاض، كما يشدد بزي "تعليق تنفيذ نص المادتين 16 و18 من قانون تنظيم وزارة العدل على أي ترخيص إداري".

إضافة إلى ذلك، يشير بزي إلى أن المادة 70 من قانون أصول المحاكمات الجزائية "تعطي للنيابة العامة والمدعى عليه الحق بتقديم دفع بعدم صفة الجهة المدعية، حيث يبت قاضي التحقيق بهذا الدفع بمعنى أن ليس له صلاحية اتخاذ هذه الخطوة من تلقاء نفسه دون تقديم دفع شكلي من النيابة العامة أو من المدعى عليه".

كلام بزي يؤكده النائب جورج عدوان في تغريدة عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي "إكس"، الذي يشير أيضاً إلى أنه "لا يمكن السماح بمنع تنفيذ القانون أو تأخير تنفيذه أو تعليق تنفيذه على إرادة أي موظف ولو كان برتبة وزير".

 سابقة قضائية

شارك النائب التغييري إلياس جرادي في الوقفة التي نفّذها مودعون أمام قصر العدل في بيروت بالتزامن مع جلسة استجواب سلامة، وقد اعتبر أن أموال المودعين "قضية حقوقية مقدسة وأن الدفاع عنها هي خط الدفاع الأول عن مستقبل لبنان"، مؤكداً أن رهان اللبنانيين هو "على القضاء الشريف الذي لا يمتثل للضغوطات التي تمارسها المنظومة الحاكمة"، كما ذكرت "الوكالة الوطنية للإعلام".

وبشّر جرادة من يعنيهم الأمر بأن قضية التحقيق مع سلامة "أول العنقود وأن المسبحة ستكرّ من ضمنها الدعوة التي تم رفعها من قبل نواب التغيير الذين سيمنعون أي تغاض عنها" وقال "لا أحد فوق رأسه خيمة والجميع سيتم اقتيادهم إلى السجون".

وفي السياق، توجه عدد من المعتصمين الى القاضي حلاوي، مؤكدين أن "عيون ومجهر الشعب اللبناني شاخصة نحوك وأن المودعين الذين باتوا اليوم غير قادرين على الاستشفاء أو الحصول على أدويتهم يطلبون منك ان تضرب بمطرقتك وأن تحكم لصالح هذا الشعب".

ويمثّل إصدار مذكرة توقيف وجاهية بحق سلامة، "سابقة قضائية في لبنان"، وفق ما يصف رئيس جمعية المودعين، حسن مغنية، مشيراً إلى أن "اللبنانيين لم يعتادوا على توقيف شخصية بهذا الحجم"، لكنه يؤكد في ذات الوقت على أن الأسئلة المحورية التي تطرح الآن هي: إلى متى سيستمر هذا التوقيف، وما هي نهايته، وهل سيؤدي إلى سقوط شخصيات كبيرة أخرى؟

ويدعو مغنية القضاء اللبناني خلال حديث لموقع "الحرة" إلى "التعامل بحزم ودون شعبوية مع هذه القضية"، مشدداً على ضرورة توسيع دائرة التحقيقات وعدم حصرها في قضية شركة "أوبتيموم"، إذ يطالب بأن تشمل ما وصفه بـ"سرقة العصر" المالية في لبنان، التي تتسبب الآن بفجوة مالية بقيمة 74 مليار دولار، "وذلك للوصول إلى الحقيقة بشأن مصير أموال المودعين التي تورطت في سرقتها أطراف عدة، من بينهم مصرف لبنان، والمصارف، ورؤساء، وأحزاب، وكبار السياسيين".

علامات استفهام

ويلتزم العمل المصرفي في لبنان، كما يقول الخبير الاستراتيجي في مجال المخاطر المصرفية والخبير الاقتصادي والنقدي، الدكتور محمد فحيلي، "بأحكام التعاميم الصادرة عن مصرف لبنان والقوانين ذات الصلة، وفي عدد من هذه التعاميم لاسيما التعميم الأساسي الذي يحمل الرقم 154، توجه المصرف المركزي إلى كبار المساهمين في المصارف، وأولئك المرتبطين بكبار السياسيين والعملاء أيضاً".

وفي هذه التعاميم، وفق ما يشرح فحيلي لموقع "الحرة"، "حذّر المصرف المركزي من إحالة المتخلفين عن الالتزام بها إلى هيئة التحقيق الخاصة (SIC)، التي أنشئت بموجب القانون 318 لعام 2001، وهذه دلالة على أن من صلاحيات هيئة التحقيق الخاصة التحقيق بالعمليات المصرفية المشبوهة وتقديم تقرير لحاكم مصرف لبنان والهيئة المصرفية العليا لاتخاذ الإجراءات الضرورية. في صلب عمل الهيئة (SIC) التحقيق في الحركات المصرفية المشبوهة، سواء كانت هذه العمليات داخلية بين مصرف لبنان والمصارف التجارية أو بين المصارف التجارية ونظيراتها المراسلة".

ويوضح فحيلي أن "هيئة التحقيق الخاصة ملزمة قانوناً بالتحقيق في أي عملية نقدية أو مصرفية مشبوهة"، لكنه يطرح تساؤلات حول مدى جدية تعامل مصرف لبنان والقضاء اللبناني مع الأزمة المصرفية الراهنة، التي تسببت في إفقار العديد من المواطنين وأدت إلى خسائر فادحة موصلة الاقتصاد اللبناني إلى حالة الانهيار الحالية".

ويشدد على أنه "كان من المفترض أن تبدأ مساءلة سلامة، من خلال هيئة التحقيق الخاصة، وتجاوز هذه الهيئة في هذه القضية يثير العديد من علامات الاستفهام".

حجم وطبيعة الأزمة المصرفية التي أصابت لبنان تتطلب من القضاء المختص، كما يقول فحيلي "التعامل بشفافية تامة"، معتبراً أن السرية المفترضة في التحقيقات "لا معنى لها عندما يكون المتهم هو من يقف خلف أزمة مسّت آلاف المواطنين اللبنانيين".

ويؤكد على حق المواطن اللبناني في معرفة الأسباب التي دفعت القاضي حجار إلى توقيف سلامة، وما الذي دفع القاضي حلاوي إلى إصدار مذكرة توقيف وجاهية ضده، معتبراً أن "عدم التعامل الجدي من قبل القضاة مع هذه القضية يثير تساؤلات كبيرة بشأن مصداقية الإجراءات القضائية المتخذة".

يذكر أن سلامة، البالغ من العمر 73 عاماً، تولى حاكمية مصرف لبنان عام 1993، وشغل المنصب حتى يوليو 2023. وبعد الانهيار المالي والاقتصادي في لبنان، "أطلقت سويسرا عام 2020 تحقيقاً في أنشطة سلامة، تلاها في عام 2021 لبنان وفرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ.

كما حققت السلطات في موناكو وليختنشتاين وبلجيكا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة في تلك الأنشطة"، وفق تقرير نشرته صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية في أغسطس 2023 بعنوان "الساحر: رياض سلامة ونهب لبنان".

وتشتبه هذه الدول بضلوع سلامة في "جرائم اختلاس أموال عامة وتبييض أموال وفساد، بالإضافة إلى تحميله جزءاً كبيراً من المسؤولية عن الأزمة المالية التي أصابت البلاد".

رسالة دولية؟

ملف لبنان مطروح حالياً على طاولة مجموعة العمل المالي، كما يشير فحيلي "، التي تقوم بتقييمه على ثلاثة محاور رئيسية: السلطة السياسية (التشريعية والتنفيذية)، مصرف لبنان، والمصارف التجارية اللبنانية"، إذ يرتكز التقييم على مدى الامتثال لإجراءات مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب".

التقرير المبدئي والتقييم الصادر عن مجموعة العمل المالي أظهر، وفق ما يقوله فحيلي "رضى عن إجراءات المصارف التجارية، ولكنه أبدى عدم رضى تجاه متابعة السلطة السياسية لتنفيذ القوانين، بالإضافة إلى وجود ضعف في الرقابة من قبل مصرف لبنان".

ويلفت إلى أن "هناك احتمالاً كبيراً بأن يكون إصدار مذكرة التوقيف الوجاهية بحق سلامة، محاولة لإرسال رسالة إلى مجموعة العمل المالي تهدف إلى تلميع صورة لبنان أمامها، من خلال إظهار أن القضاء اللبناني يتحرك بشكل فعال وأن القوانين موجودة ويتم تطبيقها، خاصة القانون رقم 44 لعام 2015، وستتم محاسبة مرتكبي الجرائم المالية بغض النظر عن مناصبهم".

يذكر أن سلامة يواجه مذكرة اعتقال في فرنسا في إطار تحقيق بشأن اختلاس أموال عامة، بالإضافة إلى نشرة حمراء من الإنتربول للقبض عليه.

كما سبق أن أصدرت السلطات الألمانية مذكرة اعتقال بحق سلامة بتهم الفساد، لكن تم إلغاؤها لأسباب فنية وفقاً لما صرّح به مكتب المدعي العام في ميونيخ لـ"رويترز" في يونيو الماضي، إلا أن التحقيقات مستمرة وتبقى أصوله المالية مجمدة.

وفي أغسطس 2023، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية بياناً اتهمت فيه سلامة باستغلال منصبه لتحقيق مكاسب شخصية ضخمة على حساب الشعب اللبناني، وأدرجته على قائمة العقوبات، متهمة إياه بالتورط في ممارسات فاسدة وغير قانونية ساهمت في تدهور سيادة القانون في لبنان.

مسرحية قضائية؟

وتعليقاً على إصدار مذكرة توقيف بحق حاكم مصرف لبنان السابق، أصدر "تحالف متحدون" بياناً أشار فيه إلى أن القاضي حلاوي رفض استقبال محامي المودعين المدّعين في قضية "أوبتيموم" ورفض ضم ادعاء النيابة العامة ضد سلامة إلى شكواهم وفق الأصول عبر رفض البت بطلب الضم.

وأوضح التحالف أن هذا الرفض "جعل المحاكمة تقتصر على طرف واحد فقط، بحضور وكيل سلامة المحامي مارك حبقة، وعناصر من شعبة المعلومات والدرك، دون أي تمثيل للطرف الآخر الأكثر تضرراً".

وأشار التحالف إلى تصريح المودع المدّعي في القضية، الطبيب باسكال الراسي، الذي شارك في الوقفة أمام قصر العدل في بيروت، حيث قال "سقط القضاء اللبناني مرة أخرى بحجب حقي التقاضي والدفاع عن المودعين أصحاب الحق ولم نرَ أمامنا إلا استمرار لـ "المسرحية" نفسها. نموت كل يوم وما يهمّنا هو استعادة أموالنا وليس الانتقام من سلامة ككبش محرقة".

وعقب توقيف سلامة، الثلاثاء الماضي، انقسم اللبنانيون بين من يرون في هذه الخطوة "بداية جادة لمعالجة قضايا الفساد والشبهات المالية المرتبطة به"، ومن يعتبرون أن الأمر "لا يتعدى كونه مسرحية قضائية ستنتهي بتبرئته".

ولطالما دافع سلامة عن فترة ولايته، وأثناء مقابلة تلفزيونية محلية أجريت معه في يوليو 2023، زعم أنه كان "كبش فداء" للأزمة المالية في البلاد، مشيراً إلى أن المسؤولية عن إنفاق الأموال العامة "تقع على عاتق الحكومة وليس البنك المركزي"، كما أكد نيته "طي صفحة من حياته"، وأن "المنظومة غسلت يديها" منه منذ زمن.

وحدد حلاوي جلسة ثانية لاستكمال التحقيق مع سلامة الخميس المقبل، وفي هذا السياق، يشدد رئيس جمعية المودعين على ضرورة محاسبة جميع المتورطين، محذراً من محاولة تحويل سلامة إلى "كبش فداء"، مؤكداً أن "المسؤولية يجب أن تطال الجميع".