مراقبون يقولون إن عملية قتل نصرالله خُطط لها منذ سنوات
مراقبون يقولون إن عملية قتل نصرالله خُطط لها منذ سنوات

أضيف اسم إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، وحسن نصرالله، الأمين العام لحزب الله، إلى قائمة طويلة من قيادات حزب الله وحماس والحرس الثوري الإيراني تمكنت إسرائيل وبضربات دقيقة من القضاء عليهم خلال أسابيع.

هذه العمليات التي وصفها مراقبون بالنوعية وغير المسبوقة، أثارت تساؤلات كثيرة حول سر هذا النجاح السريع في الكشف عن أماكن تواجد هذه الشخصيات، والأسباب التي أدت إلى الانهيار السريع في منظومات القيادة.

بعد تنفيذ الضربات الإسرائيلية، ألقى رئيس الوزراء، بنيامين نتانياهو، كلمة قال خلالها إن "المهمة لم تنته بعد وأمامنا أيام مليئة بالتحدي".

أما الناطق باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، فأشار إلى أن "كل الوسائل مطروحة على الطاولة" وأن "لدى إسرائيل الكثير من الوسائل والقدرات، بعضها لم يتم تفعيله بعد"، بحسب تعبيره.

في حين انتقد المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، بشدة القيادة الإسرائيلية، متهما إياها بـ"قصر النظر" واتباع "السياسة الحمقاء"، معتبرا أن الإسرائيليين "أضعف بكثير من أن يتمكنوا من إلحاق ضرر جوهري بالبنية القوية لحزب الله في لبنان".

تفوق عسكري إسرائيلي تقابله قدرات تقليدية لحزب الله

يقول العميد منير شحادة، المنسق السابق الحكومة اللبنانية لدى قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان "يونيفل"، لموقع الحرة، إنه لا يمكن أن نتغافل عن قدرات وإمكانيات إسرائيل التقنية والتكنولوجية في مجال التجسس.

فإسرائيل، برأيه، لديها قدرات وتقنيات سرية عالية في هذا المجال، وتتحكم بالأقمار الصناعية للحصول على ما تحتاجه من معلومات.

يشير شحادة، أيضا إلى وجود تعاون أمني واستخباري كبير بين إسرائيل ودول العالم، هذا التعاون برز دوره، عام 2005، عندما دخلت جهات خارجية في التحقيق بحادثة اغتيال رئيس الوزراء الأسبق، رفيق الحريري، بحسب تعبيره.

يضيف شحادة أن تلك الأطراف كان لها دور لاحقا في جمع كميات كبيرة من المعلومات حول عمل أنظمة الاتصالات والجامعات والمصارف وحتى المستشفيات، "وهذه المعلومات وصلت بطريقة ما إلى اسرائيل"، وفق تعبيره.

مشاركة عناصر حزب الله في القتال في سوريا، منذ عام 2011، كانت سببا آخر سّهل من عملية رصد تحركات حزب الله. فجميع المشاركين في هذا القتال أصبحوا مكشوفين، بسبب استخدامهم أنظمة اتصال تقليدية قابلة للرصد مثل أجهزة الهواتف الذكية والراديو واللاسلكي.

يقول شحادة إن رصد هذه الأجهزة كان سهلا بالنسبة للإسرائيليين الذين حصلوا على معلومات مهمة حول عمل جميع كوادر وقيادات حزب الله في تلك الفترة.

يضيف شحادة أن من لديه القدرة على الوصول لأجهزة "البيجر" واللاسلكي والتي نجم عن تفجيرها مقتل ما لا يقل عن 37 شخصا وإصابة أكثر من 3000 آخرين، لديه القدرة أيضا على القيام بما هو أكبر، على حد قوله.

خرق داخلي لحزب الله ودعم خارجي لإسرائيل

تفوّق إسرائيل عسكريا وتكنولوجيا لم يكن السبب الوحيد الذي ساهم في إنجاح عملياتها الأخيرة، إذ يقول العميد منير شحادة، إن حزب الله تعرض لخرق أمني بين صفوفه، وإن إسرائيل استفادت من "عملاء" يعيشون في مناطق تقيم فيها تلك القيادات للتجسس عليها والكشف عن أماكنها.

فالخرق البشري هذا، بحسب شحادة، كان أداة مهمة تضاف إلى التكنولوجيا المتطورة، والتي ساعدت إسرائيل على تحديد مواقع قيادات حزب الله واستهدافها بدقة عالية.

ويضيف شحادة أن الإعداد لعملية قتل نصرالله أخذ سنوات، وإسرائيل كانت تحاول اغتنام فرص عدة لتنفيذ هذه العملية منذ زمن بعيد. ويذكر أن "إسرائيل لم تكن تنجح في عملياتها الأخيرة بدون دعم أمني والحصول على معلومات استخبارية من دول غربية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا". كما يقول.

ونفت الولايات المتحدة مرارا علمها أو أي دور لها بمقتل نصرالله.

رسائل ورقية لمواجهة تهديدات التجسس الإسرائيلية

أثبتت العمليات الأخيرة أن إيران والأطراف الإقليمية التي تدعمها لا تمتلك التكنولوجيا التي يمكن الاعتماد عليها لحماية منظومات "القيادة والسيطرة" من أي تهديدات مستقبلية.

هذه القدرات، بحسب العميد شحادة، لا تضاهي الإمكانات الإسرائيلية وأنظمة التجسس المتطورة التي تمتلكها. ولكن هذا لا يعني أن الطرف الآخر غير قادر على مواجهة التهديدات المستقبلية.

ويقول إن إسرائيل لديها أيضا نقاط ضعف كثيرة بدليل أنها وبعد مرور عام على الحرب في غزة لم تستطع، رغم القدرات العسكرية البارزة، الكشف عن أماكن تواجد الرهائن رغم صغر مساحة المنطقة.

ويضيف شحادة أن قيادات حماس عرفت نقاط الضعف وحاربت إسرائيل من خلال اعتماد أساليب قديمة لا تعتمد على التكنولوجيا المتطورة، بل عادت إلى استخدام أنظمة تقليدية مثل الرسائل الورقية أو الشفهية في التواصل بدلا من الهواتف الذكية أو الخليوية.

طرق الاتصال هذه، وصفها الخبير الأمني من لبنان، "بالعصور القديمة"، بدليل أن الرسائل التي تصل مثلا إلى القيادي في حماس، يحيى السنوار، والرد عليها تأخذ فترة أربعة أيام، وهي وسيلة اتصال يقول إنها "تذكرنا مثلا باستخدام الحمام الزاجل" في الماضي.

تسخير التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي لضرب حماس

التكنولوجيا المتطورة التي تمتلكها إسرائيل ساعدتها في تنفيذ عمليات دقيقة أدت إلى مقتل هذا العدد الكبير من قيادات حماس وحزب الله والحرس الثوري الايراني.

ويقول العميد الركن، فادي داوود، من لبنان، إن العمليات الاسرائيلية كانت نوعية، لأنها ركزت بالأساس على تصفية هذه القيادات وضرب منظومة القيادة والسيطرة لدى حزب الله.

هذه العمليات كانت ترتكز على التفوق التكنولوجي والتطور التقني. فإسرائيل سخرت كل ما تملكه من قدرات في مجال الذكاء الاصطناعي وأجهزة التجسس والطائرات المسيرة المتطورة وغيرها من الماكنة العسكرية لتحقيق هدفها.

نصرالله .. بدون "خلوي" وتلفاز" خوفا من التجسس

الاختراق البشري كان عنصرا أساسيا في نجاح هذه المهمة، فعملية قتل نصرالله احتاجت إلى هذا الاختراق الداخلي بسبب السرية التي كان يتمتع بها زعيم حزب الله في تنقلاته واتصالاته.

داوود أوضح لموقع الحرة أن نصرالله كان يرفض استخدام الهواتف الذكية وحتى الأرضية، واستعمل نظاما خاصا يطلق عليه عسكريا بـ "الهاتف الحقلي"  وهو جهاز اتصال يربط عددا معينا فقط من الأشخاص بشبكة خاصة.

الاحتياطات الأمنية أجبرت نصرالله أيضا على الامتناع عن استخدام التلفاز خوفا من "عمليات التجسس التكنولوجي"، وكانت تُنقل له الأخبار عبر أشخاص مقربين جدا منه.

مصير حزب الله بعد نصرالله
أثارت الغارات الإسرائيلية التي استهدفت منطقة حارة حريك في الضاحية الجنوبية لبيروت، يوم أمس الجمعة، جدلاً واسعاً وتكهنات حول مصير الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، إلى أن حسم الأمر، اليوم السبت، بإعلان الجيش الإسرائيلي أن العملية العسكرية قد حققت أهدافها، وذلك قبل أن ينعى حزب الله رسمياً أمينه العام.

"موساد" مندس بين صفوف حزب الله

قلة قليلة من الشخصيات تمكنت من اللقاء بنصرالله، هذه اللقاءات كانت تتم بسرية تامة وتنقل هذه الشخصيات "بسيارات مظللة" تمنع هؤلاء الزائرين من تحديد مكان إقامة الأمين العام لحزب الله.

ويقول العميد الركن فادي داوود، إن نجاح العملية رغم كل هذه الاحتياطات، دليل على أن الغارة الإسرائيلية بهذه الدقة من الصعب تنفيذها دون وجود شخص ما على الأرض ساعدهم على تحديد مكان نصرالله.

ويستطرد بالحديث، أن الخرق البشري ليس حديث العهد، "فحزب الله أجرى سابقا تحقيقات مع المئات من عناصره بعد الغارات الإسرائيلية التي استهدفت قيادات أخرى في التنظيم" في لبنان وسوريا.

من الصعب تحديد طبيعة هذا الخرق البشري دون توفر معلومات أمنية دقيقة، لكن يقول داوود، إن الاحتمالات المتوقعة تشير إلى إمكانية مشاركة أحد عناصر القوات الخاصة المسؤولة عن حماية نصرالله أو أن الخرق تم بمساعدة عناصر الموساد الذين اندسوا بين صفوف الحزب.

العمليات الإسرائيلية كشفت أيضا عن قدرات حزب الله التي وصفها داوود بالمحدودة والتقليدية، هذا الضعف ستكون له تبعات حتى على مستقبل الحرس الثوري الإيراني والتهديدات المتوقعة ضده. بدليل "أن الحرس الثوري اتخذ إجراءات أمنية إضافية كان أبرزها نقل مكان المرشد الأعلى، علي خامنئي، إلى مكان سري لحمايته، بحسب العميد الركن فادي داوود.

حرب استخبارية على مستويات مختلفة

العملية العسكرية الحالية التي استهدفت قيادات حماس وحزب الله والحرس الثوري الايراني، سبقتها حرب استخبارية للحصول على ما تحتاجه إسرائيل من معلومات تكشف عن مواقع تواجد هذه القيادات.

يقول اللواء الركن المتقاعد ماجد القيسي من العراق، إن العمليات الاسرائيلية كانت على مستويات متعددة، داخلية وخارجية، إضافة الى التقنيات المتطورة التي تمتلكها إسرائيل من أقمار تجسس صناعية وقدرات عسكرية.

ويضيف القيسي أن المعركة كانت استخبارية في الدرجة الأولى، وأنها ركزت بالأساس على استهداف مراكز الثقل لحزب الله جوا في لبنان ولم تلجأ إلى مواجهات برية كما حدث في عام 2006.

لكن سير العمليات والنتائج المتحققة يشير إلى أن دقة هذه العمليات في استهداف هذه القيادات كان من الصعب تحقيقه دون تواجد خرق أمني داخلي في صفوف حزب الله.

يضيف القيسي "من الصعب تفسير هذا النجاح المتلاحق للعمليات الاسرائيلية ضد قيادات كثيرة وفي رقع جغرافية بعيدة ومختلفة دون وجود خرق داخلي".

الحاضنة الشعبية .. مفتاح قوة حزب الله

مقتل نصرالله ستكون له تأثيرات عدة على عمل حزب الله في المستقبل وعلى الداخل اللبناني وحتى على "المشروع الإيراني" في المنطقة.

لكن هذه العملية لا تعني نهاية حزب الله، إذ يقول القيسي لموقع الحرة، إن نصرالله هو الأمين العام لهذه الجماعة وهناك قيادات عسكرية وميدانية مهمة بين صفوف الحزب يمكن أن تكمل هذه المسيرة وتدير العمليات ضد إسرائيل في المستقبل.

ويضيف "هذه الحركات والتنظيمات لا يؤثر الاغتيال على عملها أو يقضي عليها، لكن يمكن أن يضعف دورها مؤقتا".

فحزب الله على سبيل المثال ذو قاعدة وحاضنة شيعية واسعة لها ولاء كبير لهذا الحزب، وهذه هي نقطة قوته في الاستمرار، على حد تعبيره.

ويذكر القيسي أن فيلق القدس الإيراني وحزب الله وحماس تعرضت سابقا لضربات موجعة، لكنها استمرت في نشاطها وعملياتها وتمكنت لاحقا من اختيار قيادات جديدة شكلت تهديدا مستمرا لإسرائيل.

قتل نصرالله .. عملية خُطط لها منذ سنوات

مقتل نصرالله هو خرق أمني داخلي بامتياز، بحسب مراقبين، أشاروا إلى أنه لم يكن يحدث لولا تواجد جهات بين صفوف حزب الله تعاونت مع إسرائيل وقدمت لها ما تحتاجه من معلومات لتنفيذ العملية.

المستشار العسكري العراقي، صفاء الأعسم، أضاف لموقع الحرة أن حجم العمليات ضد حزب الله وحماس كشفت عن حرب استخبارية وتجسسية استعدت لها إسرائيل منذ سنوات ويرى أنها أتت بدعم من "جهات خارجية". 

حزب الله من جهته لم يكن مستعدا بجدية للتهديدات المتوقعة وقلل من مخاوف إمكانية وصول إسرائيل إلى قيادات الحزب واستهدافها. ويذكر المستشار العسكري العراقي أن القدرات العسكرية والتكنولوجية المتطورة مكنت إسرائيل من اختراق صفوف جميع هذه القيادات وبكل المستويات.

ويرى أن القدرات التي يمتلكها الحرس الثوري الإيراني وحزب الله وحماس تقليدية وعاجزة عن مواجهة التهديدات الإسرائيلية والوقوف بوجه العمليات المستقبلية وتوفير الحماية لقياداتها.

يضيف الأعسم أن إسرائيل نجحت من خلال هذا "الخرق السيبراني" في الكشف عن جميع أسرار عمل تلك الجهات وتحديد أماكن تواجد قياداتها واستهدافها في اي وقت تشاء، بحسب تعبيره.

أحد أجهزة البيجر التي انفجرت في لبنان الثلاثاء
الحرس الثوري و"أذرع إيران".. تحركات تشمل "الحظر" بعد تفجيرات "البيجر"
بدأت إيران وأذرعها في الشرق الأوسط فحص أجهزة الاتصال الخاصة بها بل والتوقف عن استخدام أي أجهزة منها، في أعقاب تفجير الآلاف من أجهزة النداء واللاسلكي التي يستخدمها حلفاؤها في لبنان وسوريا خلال الأسبوع الماضي.

"البيجر" شرارة انطلاق العمليات ضد حزب الله

التراخي والإهمال الأمني للجهاز الاستخباري التابع لحزب الله طوال الفترة الماضية كان السبب وراء هذا الانهيار السريع في منظومة القيادة.

ولا يستبعد الباحث المصري في الشأن الإقليمي، أحمد سلطان، ضلوع أشخاص وحتى قيادات مقربة من نصرالله في نقل معلومات سرية عن مكانه إلى إسرائيل.

هذا الخرق، يقول سلطان في مقابلة مع موقع الحرة، ساهم أيضا في نشر شبكة كاملة من عملاء الموساد داخل جهاز حزب الله الأمني والعسكري.

مثال بارز على هذا الإهمال الأمني، بحسب سلطان، هو حادثة  تفجيرات أجهزة الاتصال اللاسلكي "البيجر" قبل أسابيع، فهذه الحادثة "دليل واضح على فشل هذه الجهة الأمنية في تعقب مصدر الجهات المنتجة والمصدرة لهذه الأجهزة".

تعقب هذه الأجهزة بعد توزيعها على عناصر حزب الله، مكّن إسرائيل التي استعدت لهذه العملية منذ سنوات، من جمع معلومات هائلة حول أماكن ومقرات قيادات الحزب.

وهي كانت الشرارة لانطلاق الحملة الواسعة ضد حزب الله للقضاء على قياداته وخلخلة بنيته التنظيمية وإعادته عقودا إلى الوراء، وفق سلطان.

مقتل نصرالله ... "زلزال حقيقي" هز كيان حزب الله

صحيح أن القضاء على قيادات بارزة لا يعني نهاية أي حركة مسلحة أو تنظيم أيديولوجي، لكن مقتل نصرالله، بحسب سلطان هو "زلزال حقيقي" هز كيان حزب الله والمحور الإيراني المعروف بـ "محور المقاومة".

يقول سلطان إن نصرالله لم يكن قياديا عاديا، بل كان واحدا من ثلاثة شخصيات مهمة في هذا المحور، أما الآخران هما قاسم سليماني، قائد فليق القدس السابق، وأبو مهدي المهندس، نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي، اللذين قتلا في غارة أميركية ببغداد في الثالث من يناير عام 2020.

دور حسن نصرالله يتخطى لبنان، وتأثيره كان واضحا في الساحة السورية واليمنية والعراقية، وكان، بحسب سلطان، يتميز بالقوة والكاريزما والخبرة العسكرية، و"اختفاؤه عن الساحة ستكون له تبعات على مستقبل الحزب" على حد قوله.

رغم ذلك، يقول سلطان إن "حزب الله سيبقى، لكنه الآن في مرحلة ارتباك كبيرة وقد تتراجع فاعليته ولن يختفي لكن سيزداد شراسة، لأنه سيكون محملا بالثأر والرغبة في الانتقام وسيلعب بدون ضوابط".

سلاح حزب الله

في مقابلة أجراها غسان شربل ونشرها في كتابه "لعنة القصر،" يقول رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق، رفيق الحريري، الذي اغتيل في العام ٢٠٠٥ في تفجير ضخم، إن إنهاء الميليشيات بعد اتفاق الطائف شهد محاولتين:

الأولى اعتمدها ميشال عون (قائد الجيش حينذاك)، عبر محاولة إنهاء القوات اللبنانية بالقوة، "استخدم المدفع فماذا كانت النتيجة؟"، يسأل الحريري، ثم يجيب: "دُمرت المنطقة الشرقية ودُمّر الجيش وبقيت الميليشيات". 

والطريقة الثانية التي يتحدث عنها الحريري كانت تلك التي اعتمدها رئيس الجمهورية في تلك الفترة، الياس الهراوي، الذي قال للميليشيات (بحسب الحريري): "الدولة تتسع للجميع. سلموا أسلحتكم للدولة وشاركوا". يتابع الحريري: "أسألك أين هي الميليشيات اليوم؟ ذابت الميليشيات".

ما يحكي عنه الحريري حدث في العام 1990 بعد شهور على توقيع اتفاق الطائف في أكتوبر ١٩٨٩، الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية. 

نص الاتفاق آنذاك بوضوح على أن الحكومة الأولى بعد الطائف تضع خطة هدفها "بسط سلطة الدول اللبنانية تدریجیاً علـى كامل الأراضي اللبنانیة بواسطة قواتها الذاتیة". ل

يس ذلك فقط، بل وضع الاتفاق جدولاً زمنياً لهذا الانتقال من عهد الميليشيات إلى عهد الدولة: 

"الإعلان عن حل جمیع المیلیشیات اللبنانية وغیـر اللبنانية وتسليم أسـلحتها إلـى الدولـة اللبنانية خـلال سـتة أشـهر تبـدأ بعـد التصديق علـى وثیقـة الوفـاق الـوطني وانتخـاب رئيس الجمهورية وتشكيل حكومـة الوفـاق الـوطني وإقـرار الإصـلاحات السياسية بصورة دستورية".

"ذابت الميليشيات" في الدولة، بحسب المصطلح الذي استخدمه الحريري، وهذا الذوبان تمّ، على ما يشرح غسان شربل، عبر "رشوة الميليشيات بحصة من الدولة". دخل كثير من عناصر هذه الميليشيات إلى القوى العسكرية والأمنية الرسمية، وتسلّم الجيش اللبناني منها السلاح الثقيل والمتوسط، فيما بقي كثير من السلاح الخفيف (رشاشات ومسدسات) في بيوت عديد من اللبنانيين حتى يومنا هذا.

ما كان لافتاً لدى تطبيق هذا الاتفاق، أن "حزب الله" وحده لم "يذب" في الدولة، وجرى الإبقاء على سلاحه، بحجة "مقاومة إسرائيل"، بتواطؤ من أطراف محلية واقليمية، وبغض نظر من الأطراف الدوليين. 

بقي "حزب الله" الميليشيا المسلحة الوحيدة بعد الطائف. وراح يكبر في منظومته العسكرية حتى بات جيشاً رديفاً، يغرّد وحيداً بأجندة إيرانية- سورية، في مخالفة واضحة لنص اتفاق الطائف، وفي تحايل على أحد بنوده الذي ينص على "اتخـاذ كافـة الإجراءات اللازمة لتحرير جمیع الأراضـي اللبنانية مـن الاحتلال الإسرائيلي وبسط سـیادة الدولـة علـى جمیع أراضيها ونشر الجیش اللبناني في منطقة الحـدود اللبنانیة المعتـرف بهـا دولیاً والعمـل علـى تـدعیم وجـود قـوات الطوارئ الدولية فـي الجنـوب اللبنـاني لتأمين الانسحاب الإسرائيلي ولإتاحـة الفرصـة لعـودة الأمـن والاسـتقرار إلـى منطقـة الحدود". 

هذه الفقرة تبدو مطابقة إلى حد كبير لنص القرار 1701، موضع التنفيذ حاليا في جنوب لبنان.

اليوم، بعد حرب طاحنة مع إسرائيل أفقدته قوته العسكرية، يعود الحديث عن تسليم سلاح "حزب الله" للدولة على غرار ما حدث مع باقي الميليشيات في العام ١٩٩٠، وقد تحدث رئيس الجمهورية، جوزاف عون، في مقابلة تلفزيونية عن حوار ثنائي مع الحزب لتسليم سلاحه. وفي تصريح آخر- أثار بلبلة ديبلوماسية مع العراق- أكد عون أنه من غير الوارد تكرار تجربة الحشد الشعبي في لبنان.

الخبير الأمني والعسكري الجنرال المتقاعد خليل الحلو، يرى في مقابلة مع موقع "الحرة" أن تجربة الحشد الشعبي في العراق غير مقبولة في لبنان، "ويجب أن تمر عبر مجلس الوزراء ولا أعتقد أن أي مجلس وزراء يستطيع تمرير هكذا قرار كما تحتاج إلى قانون من مجلس النواب، من أجل التمويل، وهذا غير وارد".

يشرح الحلو أن "ميليشيات الحشد الشعبي تستحصل على رواتبها من الحكومة العراقية، وهي تأتمر نظرياً من الحكومة، لكن عملياً هناك فصائل عدة تأتمر بشكل مباشر أو غير مباشر من إيران ولديها أيديولوجيتها الخاصة. وهذه التجربة دلت على أن الحكومة العراقية لا تسيطر على الحشد الشعبي".

وهذا، برأي الحلو، هو بيت القصيد في مسألة استيعاب عناصر "حزب الله" داخل الجيش اللبناني. 

بالنسبة إلى الحلو فإن المسألة سياسية وعسكرية: "لا يمكن أن يكون هناك أمرة عسكرية على حشد شعبي-نسخة لبنانية، وهذا الحشد الشعبي يفعل كما يحلو له ويجر لبنان إلى حروب لا يريدها".

معضلة أخرى تبرز في الحالة اللبنانية ترتبط بحساسية التوازن الطائفي القائم على قاعدة يطلق عليها اللبنانيون تسمية "ستة وستة مكرر". وهي تعود إلى فترة الانتداب الفرنسي، ومرتبطة بمراسلات بين رئيس الجمهورية آنذاك والمفوض السامي الفرنسي تتعلق بالمساواة في الحقوق السياسية والمدنية بين اللبنانيين.

كانت هناك مراسلة رقمها ٦، أرسلها الرئيس إلى المفوض أكد فيها على التزام المساواة في التعيينات والوظائف الرسمية، وبعد رد المفوض أرسل الرئيس رسالة ثانية حملت عنوان "٦ مكرر"، جدد فيها الرئيس التزامه السابق، وتحول الأمر مع الوقت إلى عرف لبناني، نص عليه اتفاق الطائف عبر المناصفة في مجلس النواب بين المسلمين والمسيحيين.

مراعاة "الستة وستة مكرر" ستكون صعباً في حالة ضم آلاف العناصر من "حزب الله" إلى الجيش اللبناني. الحلو يذكر أنه "عندما جرى استيعاب الميلشيات في العام ١٩٩٠ داخل الجيش اللبناني، كان الأمر مقبولاً لأن العدد لم يكن كبيراً، وأكثرية الميليشياويين في ذلك الوقت اختاروا الذهاب إلى الحياة المدنية وليس إلى الجيش".

إذا حصل الأمر كما يتم تداوله، أي ضم مقاتلي "حزب الله" إلى الجيش دفعة واحدة، فإنه بلا شك سيكسر التوازن الطائفي داخل المؤسسة العسكرية، كما يؤكد الحلو، "وقيادة الجيش حريصة على الحفاظ ليس فقط على التوازن الطائفي (إسلامي – مسيحي) بل أيضاً التوازن المذهبي (سني-شيعي مثلاً)". 

ولهذا يرى حلو أن "هناك استحالة في ضم عناصر حزب الله بالآلاف إلى الجيش، لأن المسألة لا تتعلق فقط بالأعداد، بل العقيدة القتالية وبالموازنة والتسليح وهي مسألة متكاملة".

هل حزب الله مستعد للتخلي عن ثلاثين ألف مقاتل؟ يسأل الحلو. ثم يجيب: "واقعياً المعضلة موجودة ولا حل عملياً لها، إلا بفتح باب التطويع وتدريب المقاتلين وفق عقيدة الجيش اللبناني واستيعابهم داخل المؤسسة إذا كانوا مقتنعين، رغم انتمائهم لحزب الله، بالالتزام بعقيدة الجيش والالتزام بالأوامر على المستويين العسكري والسياسي". 

الحلو يقول إن هناك ضباطاً شيعة في الجيش اليوم من الجو السياسي لـ"حزب الله"، و"هؤلاء مندمجون في الجيش في تجربة تعتبر إلى حد كبير ناجحة، وإذا كان حزب الله لا يثق بهؤلاء الضباط فإنه لن يثق بالدولة اللبنانية".

لماذا يقوم الجيش اللبناني بإتلاف السلاح الذي يصادره من "حزب الله" ولا يحتفظ به؟

هذا السؤال، الذي يترافق غالباً مع قضية ضم مقاتلي "حزب الله" يطرحه كثيرون، ويرى البعض أن الأمر يعود لأسباب سياسية. لكن الحلو يقول إن الأمر تقني بحت، "في ألف-باء الأمور العسكرية، عندما يكون هناك ذخائر لا يمكن استخدامها أو صيانتها، تصبح خطرة، وتخزينها خطر، وأكبر دليل على ذلك ذخائر لحزب الله انفجرت بعناصر من الجيش اللبناني وهم ينقلونها وقتلت ٣ عسكريين".

في السابق كانت تقع حوادث يصادر على إثرها الجيش ذخائر وأسلحة لـ"حزب الله" وكانت تعاد هذه الأسلحة للحزب بقرار من السلطة السياسية، استنادا إلى البيانات الوزارية السابقة التي كانت تغطي تسليح الحزب وعمله العسكري. اليوم اختلف الأمر تماماً، كما يقول الحلو، "البيان الوزاري يلتزم بتطبيق القرار ١٧٠١ والسلطة السياسية كلها ملتزمة بهذا الأمر تحت رقابة دولية".