Homes are heavily damaged around buildings which were levelled on September 27 by Israeli strikes that targeted and killed…
الموقع الذي قتل فيه حسن نصرالله.

فتح مقتل الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، الباب واسعا للتساؤلات عن تداعيات غيابه على منطقة الشرق الأوسط، وهل يمثل رحيله ضربة استراتيجية كبرى لما يُسمى محور الممانعة التي تقوده إيران وكيف ستتعامل الدول العربية الفاعلة مع هذا الحدث؟

"حسن نصر الله ليس أمينًا عامًا لحزب الله وحسب بل هو يُعدُّ الشخصية الثانية في المحور الإيراني بالمنطقة بعد قائد فيلق القدس"، هكذا بدأ الباحث في الشؤون الإقليمية والدولية، أحمد سلطان، حديثه مع موقع "الحرة".

وتابع سلطان أنه يعتبر أن نصر الله بات الرجل الأهم في المحور الإيراني بعد مقتل قاسم سليماني قائد فيلق القدس في 2020 لأن خليفته إسماعيل قاآني لم يستطع ملء فراغه، وهو ما ساهم في توسيع الدور الذي لعبه نصر الله مؤخرًا حتى تخطى حدود لبنان إلى باقي دول المحور الإيراني في الشرق الأوسط.

من ناحيته، قال، الباحث في الشأن الإيراني، إسلام منسي، خلال حديثه مع موقع الحرة، إن الحزب، المصنّف جماعة إرهابية في الولايات المتحدة، لا يمتلك قيادة "كاريزمية" تُقارب حسن نصر الله في الحجم والتأثير لذلك يعتبر تعويضه "صعب جدًا"، ويضيف: "حتى لو أتى شخص موهوب أو قيادي محترف، فإن بناء "علامة تجارية" جديدة مثل حسن نصر الله ستحتاج إلى سنوات حتى يُصنع غيرها".

وأكد منسي أن حزب الله، تحت قيادة حسن نصر الله، كان يدرّب ميليشيات في العراق وينشر القوات في سوريا ويدعّم التوسع الإيراني باليمن، كما أنه كان يُعتبر "ٌقائدًا ملهمًا" لهذه الجماعات المسلحة المرتبطة بإيران ، لذا فإن غيابه المفاجئ عن المشهد سيكون له آثاره على المنطقة ككل وليس لبنان فقط.

تأثير غياب نصر الله عن الحزب

واعتبر سُلطان أن المختلف في الاغتيالات الأخيرة أن الحزب لم يتعرّض لعملية استهداف فردية لأحد قادته، وهو أمر يُمكن امتصاصه دون أن يترك تأثيرًا كبيرًا حتى لو كان ضحيته القائد نفسه، وإنما هذه المرة حزب الله يمرُّ بعملية "تقويض كاملة"، على حدِّ وصفه.

وبالنسبة لمنسي فإنه اعتبر أن "عملية التقويض" تلك ستُحتّم نقل الصلاحيات والمناصب إلى أجيال الصف الثاني في لحظة لم تكن الميليشيا المتربطة بإيران مستعدة لها، يقول "سيجري استبدال جيل بجيل آخر بطريقة متعجلة، وارد أن تقع مشاكل، فهم لم يتلقوا ما يكفي من الخبرات الإدارية والتربية الروحية، قد يخلق هذا الوضع الجديد أزمة بالحزب على المدى الطويل".

التعليق هو الأول لخامنئي بعد الضربات الإسرائيلية على حزب الله
صدمة في إيران.. حالة خامنئي بعد علمه بمقتل نصر الله والانقسام بشأن الرد
أصيب النظام الإيراني بصدمة كبيرة بعد مقتل الأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله، في غارة إسرائيلية قوية في 27 سبتمبر الجاري، مما أثار تساؤلات حول كيفية الرد على هذه الضربة؟ وما إذا كان الرد سيأتي من حزب الله أو من إيران نفسها؟

رغم هذه الخسائر الضخمة التي مُني بها الحزب بعد الضربات الأخيرة، فإنه ليس من المتوقع أن يختفي من المشهد ببساطة مهما حدث؛ فخلال حديث السفير رخا أحمد حسن، مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، مع موقع الحرة، أكّد أن مثل هذا النوع من الأحزاب العقائدية لا ترتبط بشخص ولكن بالمبدأ والفكرة اللذين يسير عليهما الحزب، لذا فإنه مهما تعاقب القادة تبقى الثوابت الرئيسية له قائمة ومستمرة، لذا فإنه توقّع ألا تتراجع الميليشيا الشيعية عن موقفه بعدم التوقف عن الاشتباكات إلا بإنهاء حرب غزة.

وتابع مساعد وزير الخارجية الأسبق أن الهجمات الإسرائيلية الأخيرة وصلت بالحزب إلى "قمة الاستفزاز" وفرضت عليه "حتمية" الرد، مشيرًا إلى أن توزيع حزب الله خريطة بالأماكن التي يُمكن للبنانين النزوح إليها في سوريا تعني أنه يستعد لمعركة طويلة الأجل مع إسرائيل.

من جانبه، اعتبر أستاذ العلوم السياسية، رامي عاشور، أنه توقّع أن تشدد حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو، في عملياتها بنهاية هذا الشهر بسبب حاجتها لتحقيق "إنجازٍ ما" قبل حلول ذكرى هجمات 7 أكتوبر، لتتمكن من تعزيز شعبيتها داخليًا، والآن "لن يجدوا أفضل من هذه نتيجة"، على حدِّ قوله.

مقتل نصرالله أثار صدمة بين مناصريه.

وتابع عاشور، خلال حديثه لموقع الحرة، أن مثل هذه الهجمات العنيفة والمتتالية حاصرت الحزب بين خيارين كلاهما مُر، إما إعلان الاستسلام أو الرد بهجماتٍ محدودة ترد عليها إسرائيل بهجمات أقوى بكثير. واعتبر أستاذ العلوم السياسية أن هذه السياسات جعلت فرص السلام شبه مستحيلة وفرضت معادلة أن "البقاء للأقوى وهي من أخطر المعادلات التي يُمكن أن تحكم العلاقات الدولية".

هل نعيش الأيام الأخيرة للمشروع الإيراني؟

واعتبر سُلطان أن ما يجري هو اختبار حقيقي لهذا المشروع الذي يُحقق تراجعًا كبيرًا بسبب حالة الضعف البنيوية التي تعيشها إيران نفسها وبسبب غياب الشخصيات الفاعلة واحدًا بعد آخر مثل سليماني وحسن نصر الله، والتي أثبتت التجربة أن النجاح في التخلص من أمثالهما ينقل السُلطات إلى أجيال لاحقة لا تمتلك نفس الخبرات ولا الكفاءة.

وبعد تلقي إيران والحلفاء العديد من الضربات الموجعة وعجزها عن تحقيق "توازن الردع" عبر توجيه ضربات قوية ومركزة ضد إسرائيل مساوية في التأثير لما تلقاها المحور الإيراني فإن هذا مؤشر قوي على تراجع المشروع والانزواء على نفسه، لكنه لن يختفي أبدًا وإنما سيعمل على ما حماية تبقى من نفوذه حتى ينتهز أي فرصة إقليمية للعودة مجددًا.

"المشروع الذي جرى ترسيخه على مدار عقود في المنطقة، يحتاج إلى عقودٍ أخرى للخلاص منه بشكلٍ كامل"، يقول سلطان.

ومن ناحيته، فسّر منسي تأخر الدعم الإيراني لحزب الله أن طهران لا يهمهما كثيرًا الدفاع عنه بل العكس، فهي صنعته حتى يكون خط دفاع أول لحمايتها ويتلقى الضربات بدلاً منها وعوضًا عنها وليس العكس، لذا توقّع ألا تسخّر إيران قواها للدفاع عنه.

في المقابل، فإن أستاذة النظم السياسية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، نيفين مسعد، قالت لموقع "الحرة" إنها لا تعتبر أن الضعف تسلّل إلى المحور الإيراني، لكنها مجرد جولة من ضمن جولات أخرى حققت فيها إسرائيل تقدمًا ستتلوها جولات أخرى.

ومن جانبه، اعتبر المحلل السياسي الإيراني، محمد سهيمي، في حديثه لموقع قناة الحرة، أنه ليس من مصلحة إيران اتخاذ المزيد من الخطوات التصعيدية لأنه ليس منطقيًا التورط في حربٍ مباشرة مع إسرائيل بدلاً من الفلسطينيين والعرب.

وحول ما إذا كانت إيران قادرة عسكريًا على مواجهة إسرائيل في ضوء الضربات الأخيرة لحزب الله، أجاب "تستطيع إيران الدفاع عن نفسها بشكلٍ جيد، لكن الحرب المباشرة مع إسرائيل ستشهد هجمات متبادلة بالصواريخ والمسيّرات، ولن ينتصر فيها كلا الجانبين".

رغم ذلك رفض سهيمي اعتبار أننا قد نشهد تحقيق السلام قريبًا بقوله "لا أمل في تحقيق ذلك".

مصر و"عٌقدة" الأحزاب الدينية

رغم مرور وقتٍ طويل على الحادث، فإن مصر حتى الآن لم تعلن موقفًا واضحًا من اغتيال نصر الله مكتفية بالكشف عن اتصال هاتفي أجراه الرئيس عبدالفتاح السيسي برئيس الحكومة اللبناني نجيب ميقاتي، أكد خلاله السيسي "دعم مصر الكامل للبنان، ورفضها المساس بسيادته ووحدة أراضيه".

وهو ما فسّره أستاذ العلوم السياسية، رامي عاشور، بأن مصر تعتبر مجرد وجود جماعات مسلحة خارجة عن نطاق الدولة هو تهديد للدولة نفسها، لذا فإنها كانت ضد الحالة التي أصبح عليها حزب الله داخل لبنان بعدما استشرت قوته بشكلٍ عطّل أجهزة الدولة عن فرض سيادتها وممارسة صلاحياتها.

الميليشيات تلعب دوراً محورياً في تنفيذ أوامر طهران
"عربة تجرها خيول جامحة".. مؤشرات على تصدع "أذرع إيران"
على مدار سنوات، انتهجت إيران استراتيجية تعتمد على دعم ميليشيات مسلحة للقتال بالوكالة عنها في مواجهة إسرائيل، الولايات المتحدة، والمصالح الغربية الأخرى. عبر هذه الاستراتيجية، سعت طهران إلى تفادي تحمل المسؤولية المباشرة عن النزاعات، مع تعزيز نفوذها الإقليمي دون التورط في صراعات عسكرية مباشرة.

"لا تنسى إن مصر عندها (عُقدة) من أي جماعات دينية مسلحة، لذا فإن موقفها الرسمي يكون داعم للدول والحكومات الرسمية وليس أي جماعات أو فصائل بعينها"، يقول عاشور.

من ناحيته، قلّل السفير رخا من طبيعة الخلاف بين الجانبين، قائلاً إنه صحيح لم يوجد توافق كبير في الفترة الأخيرة لكن مصر لا تصنفه كمنظمة إرهابية مثل دول عربية أخرى، وإنما كانت تعتبره جزءًا من التركيبة السياسية في لبنان يجب التعامل معه.

وشدّد رخا أن حزب الله لم يمارس عملاً عدائيًا ضد مصر بعكس إسرائيل التي لا تحترم تعهداتها الدولية وتهدد الأمن والاستقرار في المنطقة، وتنفذ عمليات عسكرية تعتبرها مصر مخالفة للقانون الدولي.

وهو نفس ما تطرّق إليه منسي، في معرض حديثه عن رؤية مصر لمثل هذه العمليات، قائلاً "مصر ليس من مصلحتها تصعيد العدوان والتوتر في المنطقة، استمرار الحرب يخلف تداعيات كبرى على الاقتصاد المصري".

وضرب منسي مثلاً بعمليات جماعة أنصار الله الحوثية ضد السفن الأجنبية والتي تسبّبت في إضعاف حركة مرور السفن التجارية في قناة السويس وحرمانها من العوائد المالية التي كانت تجنيها نظير هذا المرور، بجانب ذلك انقطع الحديث عن مشاريع اقتصادية كبرى جرى إعلانها سابقًا مثل مد خط الغاز المصري إلى لبنان.

المشروعات العربية البديلة

في مارس 2016، بلغت الخلافات بين عددٍ من الدول العربية وحزب الله ذروتها فأصدرت جامعة الدول العربية قرارها بتصنيف الحزب "منظمة إرهابية" رغم تحفظ لبنان والعراق.

وفي العام نفسه، أصدر مجلس التعاون الخليجي "القائمة الإرهابية الموحدة" التي وضعت حزب الله جنبًا إلى جنب مع تنظيم القاعدة وتنظيم "داعش" وحركة طالبان الباكستانية.

على وقع هذه القرارات انقطعت الاتصالات الرسمية المعلنة بين حزب الله والأنظمة الخليجية، يقول سُلطان "بعض الدول العربية ستدين الاعتداء على لبنان لكنها ستكون راضية عن التخلص من نصر الله".

قال عاشور إن كثيرًا من الدول العربية تعتبر حزب الله "مجرد خادم للأجندة الإيرانية"، لذا فإن أي تقويض له ولأيٍّ من أذرع إيران في المنطقة سيكون في صالح الدول العربية بالطبع.

هذا الطرح رفضه منسي، خلال حديثه لموقع الحرة، واصفًا إياه بأنه أمر "يُمكن تصوره نظريًا"، لكن في بيئة سياسية معقدة مثل الشرق الأوسط فمن الوارد وقوع احتمالات كثيرة ليست في مصلحة الدول العربية كظهور ميليشيات أخرى أكثر تطرفًا أو زيادة أكبر في النفوذ الإسرائيلي قد يخلق لنفسه تواجدًا على الأرض عبر خلق ميليشيات تابعة لها مثلما فعلت قديمًا مع جيش لبنان الجنوبي إبان احتلال جنوب لبنان.

بشكلٍ عام فإن الأنظمة العربية لا تُرحب باستمرار الحرب لمدى أطول، لأن بيئة الشرق الأوسط غير مستقرة أمنيًا، وهي منطقة تعيش بالفعل أوضاعًا صعبة لا تحتاج إلى إضافة المزيد من التعقيد إليها بإضافة حروبٍ أكثر تنتج عنها موجات إضافية من اللاجئين وهي مشكلات أرّقت العالم بأسره طيلة السنوات الفائتة.

وعن إمكانية استغلال الدول العربية في المنطقة الارتباك الذي يعيشه المحور المدعوم من إيران للخلاص من تغلغله وإحكام نفوذه على دول في المنطقة، أجاب سلطان "لا أحد لديه مشروع حقيقي مضاد، ولا حتى مصر أو السعودية"، وهو ما وافقه فيه عاشور مشددًا على أن الدول الوحيدة التي تملك مشروعًا سياسيًا في المنطقة هي إيران وتركيا وإسرائيل، أما الدول العربية فهي مشغولة دائمًا بحالة الدفاع عن بقائها، إما بسبب ظروف اقتصادية صعبة مثل مصر أو بسبب عدم قدرتها على حماية نفسها حال تعرضت لغزو خارجي مثل دول الخليج.

هذه الآراء عارضها المحلل السياسي السعودي، محمد بن صالح الحربي، في حديثه لموقع "الحرة"، معتبرًا أن الرياض تتزعم مشروعًا عربيًا ضخمًا لإرساء السلام في المنطقة ينسجم مع التغيرات الدولية الأخيرة في ضوء اعتراف 149 دولة حول العالم بإقامة دولة فلسطينية، وهو ما وصفه بأن "البيئة الاستراتيجية مهيئة لمشروع عربي لإحلال السلام".

وبحسب الحربي فإن الرياض تتبنّى مبادرة لإقرار حل الدولتين والسماح بإقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، هذه المبادرة تلقى دعمًا من تركيا ومصر والأردن، وفقًا لها فإن العرب مستعدون لتمويل جهود إعمار قطاع غزة وتحويله إلى منطقة صناعية واقتصادية متطورة بشرط الحصول على ضمانات دولية وأممية بأن يكون نواة لدولة فلسطينية مستقلة.

وأضاف: "بعدها يُمكن الانتقال إلى الضفة وجنوب الضاحية لتطويرها وتحسين سُبل الحياة والعمل بها ما يدعّم الاقتصاد اللبناني المنهار".

وتوقع المحلل السياسي السعودي أن تحظى هذه المبادرة بقبولٍ من إيران بعد الضربات المميتة التي تعرض لها حزب الله أهم الأذرع الإيرانية في المنطقة، والذي خسر كثيرًا من حاضنته الشعبية في الجنوب بعدما هُجر مليون من سكانها فرارًا من الحرب.

واعتبر أستاذ علم الاجتماع في جامعة كاليفورنيا، على أكبر مهدي، أن القصف الإسرائيلي للبنان "خطوة تكتيكية" سعت لتحقيق 3 أهداف هي: قطع رأس حزب الله، وإضعاف بنيته التحتية العسكرية، وتوجيه رسالة واضحة إلى إيران أن إسرائيل لن تتقيد بأي خطوط حمراء عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن النفس. 

وأضاف: ليس من المتوقع التوصل لاتفاقات سلام مع إسرائيل في المستقبل القريب، ورغم أن قادة الدول العربية لن يبكوا على حزب الله لكنهم لا يستطيعون تجاهل الآلام التي يشعر بها مواطنوها بسبب الحرب. 

وفيما يخصُّ الدخول في مواجهة مباشرة مع إسرائيل، أكد عالم الاجتماع الإيراني أن إيران لا تسعى للمزيد من التصعيد فهي حتى الآن حذرة في تفاعلها مع الصراع في غزة وأيضًا في لبنان. ورغم أن إسرائيل تحاول استفزاز إيران فإن طهران لا تسعى لحرب مباشرة لا رابح فيها وهو ما تدركه إسرائيل أيضًا. 

وتابع: لا شك أن إسرائيل تتمتع بتفوق عسكري لكنها تظلُّ دولة ذات عدد سكان صغير تحيط بها أغلبية مسلمة وهو أمر جعلها لم تشهد استقرارًا سياسيًا ولا سلامً مستدامًا منذ تأسيسها. 

واختتم حديثه بالقول: "يتعين على إسرائيل وإيران التوقف عن شيطنة بعضهما البعض والعمل على تعزيز الاستقرار السياسي في المنطقة، وهو أمر يرتبط بإنهاء احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية ومنح حل الدولتين فرصة حقيقية". 

مصارف لبنان

في تحول تاريخي لعمل القطاع المصرفي اللبناني، أقرّ مجلس النواب الخميس تعديلات على قانون السرية المصرفية تسهّل للهيئات الناظمة الحصول على كامل المعلومات المتعلّقة بالحسابات.

جاءت الخطوة تلبية لمطلب رئيسي من مطالب صندوق النقد الدولي.

واعتبر رئيس الوزراء اللبناني، نواف سلام، القرار "خطوة ضرورية نحو الإصلاح المالي المنشود وركيزة أساسية لأي خطة تعافٍ، ولكشف الحقائق" بشأن الأزمة المالية التي بدأت عام 2019.

والجمعة، نُشر في الجريدة الرسمية اللبنانية قانون تعديل بعض المواد المتعلقة بسرية المصارف في لبنان، بما في ذلك تعديل المادة 7 (هـ) و (و) من القانون المتعلق بسرية المصارف الذي أقرّ عام 1956، وكذلك تعديل المادة 150 من قانون النقد والتسليف الصادر في عام 1963، بموجب القانون رقم 306 الصادر في 28 تشرين الأول 2022.

وينص التعديل الجديد على تعديل المادة 7 (هـ) من القانون المتعلق بسرية المصارف بما يسمح بمشاركة معلومات مصرفية بين مصرف لبنان، ولجنة الرقابة على المصارف، والمؤسسة الوطنية لضمان الودائع، في إطار تعزيز مراقبة القطاع المصرفي وحماية النظام المالي. 

ويشمل التعديل أيضا صلاحيات تعديل وإنشاء مؤسسة مختلطة لضمان الودائع المصرفية.

أما المادة 7 (و) فتتيح للجهات المعنية، مثل مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف، طلب معلومات مصرفية محمية بالسرية دون تحديد حساب أو عميل معين. ويتيح التعديل إصدار طلبات عامة للحصول على معلومات عن جميع الحسابات والعملاء، إلا أن هذه الطلبات يمكن أن تكون قابلة للاعتراض أمام قاضي الأمور المستعجلة، ويخضع الاعتراض للأصول القانونية المتعلقة بالاعتراض على العرائض.

وفي ما يتعلق بالمادة 150 من قانون النقد والتسليف، تضمن التعديل رفع السرية المصرفية بشكل كامل وغير مقيد أمام مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف، بالإضافة إلى المدققين والمقيمين المعينين من قبل مصرف لبنان أو اللجنة.

وتشمل التعديلات الحسابات الدائنة والمدينة، سواء كانت ضمن أو خارج الميزانية، كما تتيح رفع السرية المصرفية عن سجلات ومستندات ومعلومات تعود إلى أشخاص معنويين أو حقيقيين يتعاملون مع المصارف أو المؤسسات المالية الخاضعة للرقابة. ويشمل تطبيق هذا التعديل بأثر رجعي لمدة عشر سنوات من تاريخ صدور القانون.

وقد شهد لبنان خلال الأسابيع الماضية نقاشات حادة، رأى فيها معارضون للخطوة أن هذا القانون ورفع السرية المصرفية طي لصفحة من تاريخ لبنان المالي العريق من خلال "إلغاء ميزة تفاضلية،" وبأن كشف الفساد ليس معطلاً بسبب السرية المصرفية.

ويرى المتحمسون للقانون أن من شأن التعديلات الجديدة تعزيز الشفافية في القطاع المصرفي في لبنان وتحسين مراقبة ومراجعة العمليات المصرفية، في وقت يشهد فيه القطاع المصرفي تحديات كبيرة في ظل الأزمة المالية المستمرة.

وأوضحت "المفكرة القانونية" وهي منظمة حقوقية غير حكومية، في بيان أصدرته أن التعديل يخوّل "الهيئات الرقابيّة والهيئات النّاظمة للمصارف، وتحديدًا مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف والمؤسسة الوطنية لضمان الودائع، طلب الحصول على جميع المعلومات المصرفية، من دون أن يربط طلب المعلومات بأيّ هدف معيّن، وإمكانية التدقيق في الحسابات بالأسماء، تصحيحا لقانون 2022" والذي تضمن بعض التعديلات.

يعتمد لبنان السرية المصرفية منذ عام 1956، وكان لذلك أثر كبير في جذب رؤوس الأموال والودائع وتوفير مناخ الاستقرار الاقتصادي. وبموجب هذا القانون تلتزم المصارف الخاضعة لأحكامه السرية المطلقة، إذ لا يجوز كشف السر المصرفي سواء في مواجهة الجهات الخاصة أو السلطات العامة، وسواء كانت قضائية أو إدارية أو مالية، إلا في حالات معينة في القانون وردت على سبيل الحصر، وهي:

1- إذن العميل او ورثته خطيًا.
2- صدور حكم بإشهار افلاس العميل.
3- وجود نزاع قضائي بينه وبين البنك بمناسبة الروابط المصرفية. 
4- وجود دعاوى تتعلق بجريمة الكسب غير المشروع. 
5- توقف المصرف عن الدفع، إذ ترفع في هذه الحالة السرية المصرفية عن حسابات أعضاء مجلس الإدارة والمفوضين بالتوقيع ومراقبي الحسابات. 
6- الاشتباه في استخدام الأموال لغاية تبييضها، وعندها ترفع السرية المصرفية بقرار من هيئة التحقيق الخاصة لمصلحة المراجع القضائية المختصة والهيئة المصرفية العليا، وذلك عن الحسابات المفتوحة لدى المصارف أو المؤسسات المالية.

وبالفعل ومنذ إقرار هذا القانون ازدهر القطاع المصرفي اللبناني واستطاع جذب رؤوس أموال، لكن كل ذلك تغير مع اندلاع الحرب الأهلية في منتصف السبعينيات، وبدأت الليرة اللبنانية رحلة الانهيار. خمسة عشر عاما من الاقتتال، انتهت بتسويات سياسية، تبعها نظام اقتصادي جديد، قاده منذ عام 1993 الراحل رفيق الحريري رئيسا للحكومة، ورياض سلامة حاكما لمصرف لبنان المركزي، سعيا وراء الاستقرار. 

وبعد أربع سنوات من استلام منصبه، نجح سلامة في تثبيت سعر العملة اللبنانية، عند 1500 مقابل الدولار الأميركي.

استمرت تلك المعادلة أكثر من عقدين، لكنها كانت تحتاج إمدادات لا تنقطع من العملة الصعبة للمحافظة على استمرارها. وفي محاولة لسد العجز، سعت المصارف اللبنانية لجذب حصيلة كبيرة من العملة الخضراء عبر تقديم فوائد مرتفعة على الودائع الدولارية، فوائد تراوحت بين 15 و 16 في المئة.

نتيجة للفوائد البنكية المرتفعة، شهدت ودائع القطاع المصرفي اللبناني نمواً سنوياً وصل ذروته بقرابة 12 مليار دولار خلال عام 2009.

أغرت الفوائد العالية المقيمين والمغتربين، ليصل إجمالي الودائع في المصارف اللبنانية إلى أكثر من 177 مليار دولار في نهاية نوفمبر عام 2018. 

منذ عام 2017، تراجع الاحتياطي في خزينة مصرف لبنان، رغم محاولات جذب الدولار. وفي صيف عام 2019، لاحت بوادر صعوبة في توافر الدولار في الأسواق اللبنانية، فارتفع سعر صرفه مقابل الليرة للمرة الأولى منذ أكثر من 20 عاما، ما دفع الحكومة لاتخاذ إجراءات استثنائية. لكن البعض يرى أن تلك القرارات جاءت متأخرة.

في أكتوبر 2019، انفجر الشارع اللبناني مطالبا بإسقاط السلطة السياسية، وأغلقت المصارف أبوابها، لكن تقارير صحفية تحدثت عن عمليات تحويل لأرصدة ضخمة الى خارج البلاد.

في تقرير لصحيفة فاينانشال تايمز البريطانية، نُشر في صيف 2020، فإنه، وفقا لكبير موظفي الخدمة المدنية المالية السابق في لبنان ومدير عام وزارة المالية السابق ألان بيفاني، قام مصرفيون بتهريب ما يصل إلى 6 مليارات دولار من لبنان منذ  أكتوبر 2019، في تحايل على الضوابط التي تم إدخالها لوقف هروب رأس المال، مع غرق البلاد في أسوأ أزمة مالية منذ ثلاثين 30 عاما، بينما بات مصير مليارات الدولارات مجهولًا. 

بدأت الأزمة المالية بالظهور تدريجيا، لكنها انفجرت حرفيا منذ اندلاع الاحتجاجات في شهر أكتوبر عام 2019. وتشير تقارير رسمية إلى أن أموالا طائلة تصل إلى مليارات الدولارات تم تحويلها إلى الخارج، بينما تم حجز ودائع صغار زبائن البنوك، من دون ضمانات لحماية ودائع المواطنين، ولا سيولة نقدية.

وتقدر تقارير دولية والمصرف المركزي اللبناني أن ودائع صغار زبائن البنوك بحوالي 121 مليار دولار منها ودائع لغير المقيمين تُقدّر بـ20 مليار دولار، وأصحابها لبنانيون وعراقيون ويمنيون وليبيون ومصريون ومن دول الخليج، إضافة لودائع للسوريين، يقدر المصرفيون بأنها أكثر من 3 مليارات دولار.

وفيما تجري التحقيقات حول آلية تهريب الأموال، لم يصل المحققون المحليون ولا حتى الدوليون إلى جواب شاف، لكن كانت دائما "المصالح المتشابكة داخل النظام اللبناني" جزءا من الجواب.

وتعتبر البنوك اللبنانية مرآة للنظام من حيث التقسيم الطائفي، فغالبيتها تابعة لجهات سياسية ومقربين منها، الأمر الذيث كان واضحا في انعدام الرقابة على عمليات إدخال أموال حزب الله المهربة أو غير الشرعية إلى هذه البنوك، مما يعني عمليات تبييض وشرعنة لهذه الأموال.

منذ منذ عام 2001، وضعت الولايات المتحدة حزب الله على قائمة المنظمات الإرهابية، وفرضت عليه عقوبات ضمن خطة لمكافحة تمويل الإرهاب. وفي هذا الإطار صدر قانون مكافحة تبييض الأموال رقم 44، عام 2015، والذي لم يتم تعطبيقه، واكتفى مصرف لبنان بتعاميم، لم تغير واقع الحال.

بدأ لبنان في يناير 2022 مفاوضات رسمية مع صندوق النقد الذي طالما شدد على أنه لن يقدم أي دعم طالما لم تقرّ الحكومة إصلاحات على رأسها تصحيح الموازنة وإعادة هيكلة القطاع المصرفي وإصلاح المؤسسات العامة والتصدي للفساد المستشري.

وأعلن الصندوق في أبريل من العام ذاته اتفاقا مبدئيا على خطة مساعدة بقيمة ثلاثة مليارات دولار على أربع سنوات، لكنّ تطبيقها كان مشروطا بإصلاحات لم يتم تنفيذ معظمها.

في سبتمبر عام 2024، أوقف الحاكم السابق لمصرف لبنان، رياض سلامة، وهو حتى اليوم قيد التحقيق في اتهامات بغسيل الأموال وشراء وبيع سندات خزينة الحكومة اللبنانية. ومنذ انهيار حزب الله اللبناني، في حربه مع إسرائيل، وصعود ما سمي بالعهد الجديد، أقرت حكومة نواف سلام مشروع قانون لإعادة هيكلة المصارف، استجابةً لمطالب صندوق النقد الدولي، الذي اشترط تنفيذ إصلاحات جذرية، بينها رفع السرية المصرفية، كشرط أساسي لأي دعم مالي للبنان، كما تأتي في ظل إدراج مجموعة العمل المالي (FATF) لبنان على اللائحة الرمادية بسبب ثغرات خطيرة في مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.

من المتوقع أن تسهم هذه التعديلات في تعزيز الشفافية المالية، ومكافحة الفساد وتبييض الأموال والتهرب الضريبي، كما يُتوقع أن تفتح الباب أمام إعادة هيكلة النظام المالي اللبناني بالكامل، واستعادة ثقة المجتمع الدولي، وتأمين الدعم المالي اللازم من الجهات المانحة.

إلا أن نجاح هذه الخطوة لا يقاس فقط بالكشف عن الحسابات، بل العبرة في التنفيذ في ظل نظام قضائي شبه مهترئ وتورط بعض من أصحاب النفوذ السياسي والمالي أنفسهم.

لبنان اليوم أمام مفترق طرق، فإما أن يسلك طريق العهد الجديد الذي وعد به اللبنانيون، أو يظل الفساد العنوان الأبرز في سياسات لبنان المالية المقبلة.