قتل 7 أشخاص وأصيب 17 آخرين ودمرت العديد من المباني في مدينة صور جراء غارات إسرائيلية الاثنين - فرانس برس
قتل 7 أشخاص وأصيب 17 آخرين ودمرت العديد من المباني في مدينة صور جراء غارات إسرائيلية الاثنين - فرانس برس

من بين بيوت مأهولة وأسواق فارغة وشوارع عبرها النازحون بعد سماع أوامر إخلاء مدينتهم المحاذية للبحر الأبيض المتوسط، يعلو دخان الغارات الإسرائيلية، ويتمدد في سماء زرقاء ليست صافية، حتى يصل أعلى الموج الذي يضرب شاطئ صور في جنوب لبنان، وتصبح رائحة البارود نسيم البحر الجديد الذي يخنق المدينة.

مشهد تصوّره عدسات الصحفيين الذين يراقبونه من الضفة الأخرى، بينهم والأبنية التي تتعرض للقصف أمام أعينهم، بحر وصلته آثار الغارة كأن طفلاً ما يلقي حجراً في ماء، لكن لا أطفال هنا، إنما فراغ كبير وبعض أشجار النخيل.

 يرتدي الصحفيون ستراتهم الزرقاء الواقية من الرصاص، لعلّها تحميهم من غارة محتملة، كتلك التي قتلت 4 من زملائهم منذ بداية اندلاع المعارك بين الجيش الإسرائيلي ومسلحي حزب الله، قبل عام.

ووفق وزارة الصحة اللبنانية، الاثنين، قتلت غارة إسرائيلية استهدفت مبنى سكنياً في حي "الرمل"، سبعة أشخاص، الاثنين، وأصابت 17 آخرين بجراح. 

وبعد الظهر، استؤنفت الغارات إثر وصول أوامر إخلاء من الجيش الإسرائيلي لمبانٍ في شوارع عدة في مدينة صور، نقلتها مكبرات الصوت في مركبات الدفاع المدني للسكان.

يقول الجيش الإسرائيلي إنه "يهاجم أهدافاًُ إرهابية لحزب الله، ومستودعات أسلحة وصواريخ مضاّدة للدروع ومبان عسكرية ومواقع استطلاع لوحدات عسكرية إحداها عن عمليات الإطلاق من منطقة جنوب غرب لبنان نحو الأراضي الإسرائيلية" بحسب الناطق الإعلامي أفيخاي أدرعي.

وبالنسبة لأهالي المدينة، فإن الغارات تقتل أحباءهم وتستهدف ذكرياتهم بتدمير الأماكن التي ولدوا وكبروا فيها ورأوا فيها تاريخهم وحضارة البلاد الملاصقة للبحر، على أرض عمرها أكثر من أربعة آلاف سنة، أدرجتها اليونسكو على قائمة التراث العالمي عام 1984.

صور مدينة تسكننا رائحتها مهما ابتعدنا عنها... احتوت أجمل ذكرياتنا وكل اللقاءات الجميلة... صور الحلم...صور الشاطئ الذي...

Posted by Dania Youssef on Monday, October 28, 2024

وفي حسابها على منصة إكس، اتهمت النائبة اللبنانية حليمة القعقور  الجيش الإسرائيلي بأنه يستهدف "المدنيين وكل إرث إنساني أو اجتماعي أو تاريخي" يربط اللبنانيين بتراثهم وتاريخهم. 

 

الصحفي نبيل مملوك، وهو ابن مدينة صور، نشر على صفحته في فيسبوك صوراً لتدمير طال منزله من جرّاء الغارات، مبيناً أن كثافتها أدت لصعوبة كبيرة في حركة الإخلاء، كما أن العديد من الشوارع أغلقها ركام المباني المدمرة.

وهو يواظب على كتابة يومياته من داخل صور التي رفض أن يغادرها، قائلاً في أحد منشوراته " بدأنا نخاف من سيناريو غزة، بات النوم أصعب سلوك نقوم به كل ليلة.. نخشى أن تخطفنا غارة ليلاً.."، واصفاً مدينته وقد بدت فارغة كأنهم في عام 2020 حين أعلنت الطوارئ حول العالم، وفرغت الشوارع من المارّة خوفاً من الوباء القاتل: كوفيد- 19.

ولكن، ماذا نعرف عن تاريخ المدينة التي تُلقّب بـ"سيدة البحار" ويعتبرها المؤرخون "ابنة الآلهة" ومخزن اللون الأورجواني المحبب لدى الملوك والأثرياء في عصور غابرة. 

صورة لشاطئ مدينة صور على ساحل البحر الأبيض المتوسط- أغسطس 2024

 

ابنة الآلهة ومسقط رأس أوروبا

تقع مدينة صور القديمة على الساحل الجنوبي للبنان، على بُعد 83 كم جنوب بيروت. وبحسب اليونسكو فإنها "مدينة فينيقية عظيمة حكمت البحار وأسست مستعمرات مزدهرة مثل قادس وقرطاج. وفيها اكتُشف اللون الأرجواني، كما تقول الأسطورة".

وكتبت اليونسكو في ملف المدينة على موقعها الإلكتروني: "منذ القرن الخامس قبل الميلاد، عندما زارها المؤرخ هيرودوت الهاليكارناسي، تم بناء صور في الغالب على جزيرة اعتُبرت حصينة، وتعد واحدة من أقدم المدن الكبرى في العالم. وتقول التقاليد إنها تأسست عام 2750 قبل الميلاد، لكنها سقطت أمام هجوم الإسكندر المقدوني الذي أغلق المضيق بسد. أُنشئت بعده مدينة يونانية ثم رومانية، لتتحول صور إلى شبه جزيرة".

وفي الأساطير فقد تأسست صور على يد الإله العظيم "ملقرت" (يعني اسمه ملك المدينة)، وكانت المدينة عبارة عن ميناء ومركز صناعي عُرف في الأساطير اليونانية بأنه "مسقط رأس أوروبا". وأوروبا هي ابنة آجينور ملك صور الفينيقي، ومنها حملت القارة اسمها الذي يعني باليونانية (الوجه العريض)، كما يقول أستاذ الفلسفة والتاريخ السابق، مدير محتوى موقع "موسوعة تاريخ العالم"، جوشوا جيه مارك.

صورة أرشيفية لأحد المواقع الأثرية الرومانية في مدينة صور- فرانس برس 2016

ويشرح مارك "تتألف المدينة من جزأين: المركز التجاري الرئيسي على جزيرة  و"صور القديمة" على بعد حوالي نصف ميل مقابل البر الرئيسي. تأسست المدينة القديمة المعروفة باسم أوشو (اسم سابق لملقرت) عام 2750 قبل الميلاد، ونشأ المركز التجاري بعد فترة وجيزة".

 وبمرور الوقت أصبح مجمع الجزيرة أكثر ازدهارا واكتظاظا بالسكان من أوشو، وكان محصّناً بشدة، الأمر جذب انتباه الملك نبوخذ نصر الثاني ملك بابل (حكم 604-562 قبل الميلاد) الذي حاصر المدينة لمدة 13 عاما في القرن السادس قبل الميلاد دون كسر دفاعاتهم. 

ربما كانت أشهر حادثة في تاريخ مدينة صور، بحسب مقال تأريخي على موقع "بريتانيكا"، مقاومتها لجيش الإسكندر المقدوني  الذي استولى عليها بعد حصار دام سبعة أشهر عام 332. دمر آنذاك الجزء الرئيسي من المدينة بالكامل واستخدم أنقاضها لبناء جسر ضخم للوصول إلى قسم الجزيرة (السدّ).

بعد الاستيلاء على صور، أُعدم 10 آلاف من سكانها، وتم بيع 30 ألفاً منهم كعبيد، وحوّل جسر الإسكندر، الذي لم تتم إزالته أبداً، الجزيرة إلى شبه جزيرة.

يشار إلى صور أيضاً في الكتاب المقدس (العهد الجديد)، وبحسب ما كتب فيه، فقد زارها المسيح، والقديس بولس الرسول. 

أهميتها التاريخية

تبياناً لأهميتها التاريخية وقيمة الآثار التي عُثر عليها في المدينة الساحلية، قالت اليونسكو إن صور ارتبطت مباشرة بمراحل عدة هامة من التاريخ الإنساني، مثل إنتاج الصبغة الأرجوانية المخصصة للملوك والنبلاء، وبناء معبد سليمان في القدس بمساهمة مهندس معماري ومواد أرسلهم الملك حيرام ملك صور؛ واستكشاف البحار من قبل الملاحين الشجعان الذين أسسوا مراكز تجارية مزدهرة حتى غرب البحر المتوسط، ما يعني شبه احتكارها للتجارة البحرية الهامة، إلا أن دورها التاريخي تراجع في نهاية فترة الحملات الصليبية.

وتقع المنطقة الأثرية في صور ضمن موقعين، وفق اليونسكو، أحدهما المدينة الواقعة على الرأس، والآخر هو مقبرة البص الواقعة على البر الرئيسي. ويشمل موقع المدينة بقايا أثرية مهمة، معظمها مغمور. 

من أبرز البنى الأثرية التي ما زالت شاهدة على حضارة صور القديمة بقايا الحمامات الرومانية، والميادين الرياضية، ومدرج روماني يعود للقرن الميلادي الثاني، وطريق محاط بالأعمدة الرومانية وقناة مائية، وغيرها من المواقع.

صورة أرشيفية لأحد المواقع الأثرية الرومانية في مدينة صور- فرانس برس 2016

وخلال سيطرة الصليبيين على صور، واصل أبناؤها إنتاج الصبغة الأرجوانية الشهيرة، وازدهرت كمقر لأساقفة الكنيسة وأحد أهم دفاعات مملكة القدس في الحفاظ على الوجود المسيحي في المنطقة. وفي عهد المماليك، سيطر المسلمون على صور (1291 ميلادي)، ليتوقف بعدها إنتاج الصبغة الأرجوانية والملابس مع توفر الأصباغ الرخيصة، كما يقول جوشوا مارك في مقاله.

وفي عام 1516، أصبحت المدينة جزءاً من الإمبراطورية العثمانية التي احتفظت بها حتى عام 1918، وبعد نجاح ما عُرف بـ"الثورة العربية" ضد العثمانيين، أصبحت صور جزءاً من سوريا الكبرى، وكان أهلها يعتمدون إلى حد كبير على صيد الأسماك، التي شكلت جانبا مهما من اقتصاد المدينة، وفي الوقت نفسه تراجعت المهن والحرف التقليدية التي عُرفوا بها قديما.

في الوقت الحاضر، تعتمد صور بشكل أساسي على السياحة لدعم اقتصادها، حيث بدأت الحفريات الأثرية هناك بشكل جدي عام 1946 واستمرت بشكل متقطع، لكن الصراعات السياسية وغياب الاستقرار الأمني لفترات خلال القرن العشرين وحتى الوقت الحاضر، أعاق عمليات التنقيب الأثري.

وختم مارك التأريخ لصور بالقول "في بعض الأحيان توقف السياحة تماماً، ما أدى لتراجع اقتصادها ومنع المزيد من الاستكشاف لواحدة من أعظم المدن في العصور القديمة" كأنه يكتبها اليوم أمام مشهد الدخان الذي يلتهم سماء المدينة.

من أثر الغارات الإسرائيلية الاثنين 28 أكتوبر 2024 على مدينة صور اللبنانية

ماذا يحمل المستقبل لنبيه بري؟
ماذا يحمل المستقبل لنبيه بري؟

مع تصاعد التوترات في لبنان واستمرار المواجهات بين حزب الله وإسرائيل، تتزايد التحديات داخل الطائفة الشيعية في البلاد، فقد أدت هذه المواجهات إلى تراجع حزب الله عسكرياً، خاصة بعد اغتيال أمينه العام حسن نصر الله وعدد من قياداته، وذلك في ظل تزايد الضغوط الاقتصادية والاجتماعية على قاعدته الشعبية، وتصاعد الانتقادات من الداخل والخارج ضده، إذ تتهمه جهات محلية وإقليمية ودولية بدوره في زعزعة الاستقرار والأمن في لبنان والمنطقة.

أمام هذا الوضع، تبرز تساؤلات بشأن إمكانية أن يستغل رئيس مجلس النواب اللبناني وزعيم حركة أمل، نبيه بري، هذه الظروف لإعادة التوازن داخل الطائفة الشيعية، خاصة بعد تراجع دوره لصالح حزب الله في السنوات الأخيرة، وذلك من خلال السعي إلى استعادة مكانته عبر اتخاذ مواقف أكثر استقلالية عن الحزب.

ويرى مراقبون للشأن اللبناني أن نفوذ بري، شهد تراجعاً ملحوظاً منذ ربط سياساته بسياسات حزب الله، سواء على الصعيد الداخلي أو الإقليمي.

هذا التراجع تعمّق مع تصاعد دور حزب الله بعد حرب 2006، وتوسّع نفوذه الإقليمي إثر تدخله في الحرب السورية، مما رسّخ مكانة الحزب كقوة بارزة في المشهد الشيعي واللبناني، حتى بات ينظر إلى بري من قبل شريحة واسعة كـ"ملحق سياسي" للحزب.

وعقب اغتيال نصر الله، برز بري، كمرجعية سياسية محورية للطائفة الشيعية، لاسيما بعد تكليفه من قبل الأمين العام الجديد لحزب الله، نعيم قاسم، بقيادة جهود التوصل إلى وقف إطلاق النار، ليعلق بري على ذلك في حديث صحفي بالقول إن تفويض حزب الله له بالمفاوضات السياسية "ليس جديداً، وإن كان تم تجديد تأكيده".

مشهد ضبابي؟

رغم أن "حزب الله أصابه الوهن الشديد بعد تمكن إسرائيل من اغتيال أمينه العام حسن نصر الله، وغالبية من قادته، وكلّ الخسائر التي أصابته، وعدم تراجع الجيش الاسرائيلي عن استهداف بنيته التحتية"، لكنّه كما يقول الكاتب والصحفي مجد بو مجاهد "لم ينتهِ حتى الآن ولا يزال قادراً على تنظيم حضوره سياسيّاً ومواصلة القتال عسكريّاً، بما تبقى من قدرات قتالية مع قيام إيران مباشرةً بإدارة مفاصله السياسية والعسكرية في هذه المرحلة".

ويعتبر بو مجاهد أن إبقاء حزب الله على هيمنته على القرار السياسي داخل الطائفة الشيعية، كما على القرار الاستراتيجي في لبنان أو عدمه، "مسألة ستقرّرها المفاوضات الدبلوماسية التي على أساسها ستنتهي الحرب مهما طالت، والكيفية لإنهائها وأمدها الزمنيّ، لكن يتبيّن أن إسرائيل لا تكتفي باتفاق يضمن المنطقة الخالية من السلاح جنوبي الليطاني فقط، وتسعى إلى ما هو أكثر من تطبيق القرار الدوليّ 1701، إذ انتقد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو الضغط لتحقيق تسوية قبل الأوان، وقوله إنه لا يحدّد موعداً لنهاية الحرب، بل أهدافاً".

وفي سياق حديثه عن إمكانية إعادة تشكيل التوازنات السياسية داخل الطائفة الشيعية يعتبر بو مجاهد، في حديث لموقع "الحرة"، أن ذلك "سيكون بعد انتهاء الحرب"، ويوضح "إذا تلاحقت خسائر حزب الله أكثر على النحو الذي عرفته الأسابيع الماضية وصيغ أي اتفاق على حسابه، ذلك سيغيّر طبعاً في التوازنات، حتى إن بقي حزب الله سياسيّاً، وذلك مرجّح، لكن يمكن لتغيير التوازنات أن يفسح المجال أمام قوى وأحزاب سياسية ناشئة وتغييرية لدى الطائفة الشيعية، خصوصاً أن هناك فئات منها تسعى للتغيير ويمكن للمشاريع السياسية التغييرية أن تحصل على جزء من التأييد الشعبي إن تغيّرت المعادلات السياسية وتراجعت هيمنة حزب الله".

من جانبه، يكشف الصحفي علي الأمين، عن قلق كبير يشعر به بري تجاه وضع حزب الله الحالي، مشيراً إلى أن هذا القلق "يأتي من الارتباط العميق الذي نشأ بين بري وحزب الله على مدار أكثر من عشرين عاماً، إذ بنى بري نظام مصالحه السياسية على أساس التحالف مع الحزب وتبنّيه الخيار الإيراني".

ويوضّح الأمين في حديث لموقع "الحرة" أن بري "أسس منذ عام 1992 نفوذه السياسي على التحالف مع حزب الله برعاية إيرانية- سورية، مما أدى إلى تشابك المصالح بين الطرفين، وجعل فكّ هذا التحالف أمراً بالغ الصعوبة، وبالتالي أي تراجع في نفوذ حزب الله سيؤثر سلباً على بري".

ويتابع الأمين مشيراً إلى أنه "رغم سعي بعض القيادات والعناصر داخل حركة أمل لإظهار نوع من التمايز عن حزب الله، إلا أن أي ضعف يصيب الحزب يثير القلق داخل الحركة، من احتمال تأثرها به أو عدم قدرتها على سد الفراغ الذي قد يخلّفه".

لذلك يرى الأمين أن بري لن يقدم على "خطوة تعديل التوازنات داخل الطائفة الشيعية، وإعادة صياغة دوره، لكنه، في ظل الضغوط المحلية والدولية المتزايدة، قد يجد نفسه مضطراً للمضي قدماً في ملفات حساسة، مثل انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة"، مؤكداً أن هذه التنازلات، إن حصلت "لن تكون خياراً طوعياً، بل استجابة لهذه الضغوط".

تباينات جوهرية

و"تحمل الثنائية الشيعية القائمة منذ أوائل التسعينيات بعد حرب دموية بين الطرفين ومن جراء اتفاق إيراني – سوري، في طياتها تباينات عميقة"، كما يقول الباحث السياسي جورج العاقوري.

ويوضح العاقوري في حديث لموقع "الحرة" أن "مشروع حركة أمل بقيادة بري سياسي، محوره لبنان وحدوده، بينما يتبنى حزب الله مشروعاً أيديولوجياً دينياً يتجاوز لبنان إلى الأمة الإسلامية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهو جزء من تصدير الثورة. هذا التباين الكبير، لا بدّ ان يطفو إلى العلن، نظراً لخطورة المرحلة الراهنة التي تهدد هوية لبنان، وتضعه أمام تحديات وجودية تمسّ كافة مكوناته".

يذكر أنه، عام 1982، نشأ حزب الله من رحم حركة أمل (التي أسسها موسى الصدر عام 1974)، وذلك بالتزامن مع تولي بري رئاسة الحركة. ومع صعود حزب الله، برزت بين الطرفين توترات متزايدة، إذ رأت حركة أمل في الحزب قوة منافسة تسعى إلى السيطرة على الساحة السياسية والطائفية في لبنان. وقد أدى هذا التنافس واختلاف الرؤى والأهداف إلى مواجهات مسلحة بينهما خلال ثمانينيات القرن الماضي وذلك في سياق الحرب الأهلية اللبنانية.

ومع مرور الوقت، توصل الحزب والحركة، اللذان كان يطلق عليهما "الإخوة الأعداء"، إلى ما يصفه البعض بـ"زواج الضرورة"، وأصبحا بعدها يعرفان بالثنائي الشيعي، وفي حين يظهر أن الطرفين متماسكان، لكن الواقع يشير إلى أن حركة أمل تدرك قوة حزب الله، في حين يعي الحزب دور حركة أمل كطرف رئيسي في التوازنات الداخلية ضمن الطائفة الشيعية، ومن هنا تشابكت مصالحهما.

وفي الثامن من أكتوبر 2023، فتح حزب الله جبهة جنوب لبنان في إطار ما وصفه بـ "الدعم والإسناد" لحركة حماس في حرب غزة، وفي 23 سبتمبر الماضي، بدأت إسرائيل بغزو بري لجنوب لبنان، مع الاستمرار باستهداف المنشآت العسكرية والمالية لحزب الله واغتيال كوادره البشرية أينما جدت في مختلف أنحاء الأراضي اللبنانية وحتى السورية.

هذه التطورات زادت من تعقيد الوضع في لبنان الذي يعاني منذ نحو 5 سنوات من أزمة اقتصادية خانقة، إذ أدت "جبهة الإسناد" إلى دخول البلاد في دوامة جديدة من الأزمات تشمل القصف والدمار والنزوح، إضافة إلى المعاناة الإنسانية التي تتفاقم مع تصاعد التوترات السياسية والانقسامات الداخلية.

استمرار حزب الله في الحرب الحالية، كما يصف العاقوري "طقوس انتحار جماعي للشعب اللبناني عامة، وذلك نظراً لعدم التكافؤ الكبير في القوى بينه وبين إسرائيل"، ويشدد على ضرورة "تدخل جهة لإنقاذ لبنان وهذا المكوّن الذي يتعرض لهجمات إسرائيلية ممنهجة، تستهدف ليس فقط كوادر حزب الله، بل تضرب البيئة الشيعية ومقومات حياتها بأسرها".

ويرى العاقوري أن "الشخص الوحيد القادر على اتخاذ خطوات إنقاذيه للمكوّن الشيعي خاصة واللبنانيين عموماً هو بري، الذي يتحمل مسؤولية تاريخية ووجدانية في هذا السياق، لاسيما بعد تصريحات أمين عام حزب الله نعيم قاسم، بأن القتال سيستمر حتى آخر نفس، مع إضفاء قداسة دينية على الحرب التي يعتبرها الحزب مقدسة، ومع وضع المرشد الأعلى للثورة الإسلامية علي خامنئي الحرب في هذا الإطار".

من الثنائي إلى التنوع السياسي؟

التحدي الآن كما يعتبر العاقوري، يكمن "فيما إذا كان بري سيجرؤ على اتخاذ خطوة إنقاذ، وما إذا كان سيسلط الضوء على الحقائق بوضوح أو يستمر في صمته المريب أمام إنكار حزب الله لحجم الخسائر التي تتكبدها البلاد والمكوّن الشيعي تحديداً".

ومنذ توليه رئاسة مجلس النواب اللبناني عام 1992، عرف عن بري تمكّنه من بناء شبكة واسعة من العلاقات السياسية، مما ساعده على تشكيل مسار الأحداث السياسية والاجتماعية في البلاد، حتى أنه بات يعرف بـ"رجل المهمات الصعبة"، نظراً لقدرته على التوفيق بين الأطراف المتنازعة وحل الخلافات المعقدة.

ورغم ذلك، يعتبر بري واحداً من الشخصيات السياسية الأكثر إثارة للجدل في لبنان، إذ يتهمه البعض بالضلوع في الفساد، وبكونه شريكاً في المسؤولية عن الأزمات المتتالية التي هزّت البلاد ولا تزال، وعن عرقلة التحقيقات في ملف انفجار مرفأ بيروت عام 2020.

وبعد أن تضع الحرب أوزارها في لبنان، "لن يكون بري فقط من سيشارك في إعادة تشكيل التوازنات رغم مرونته السياسية وقدرته على التكيّف مع التحولات الإقليمية" كما يشدد مجاهد، مؤكداً أن "القرار الأخير هو للمواطنين الشيعة الذين يمكن أن تتاح أمامهم مشاريع سياسية متنوعة ومنها حديثة في مرحلة لاحقة، إضافة إلى الأحزاب التقليدية، لكنّ خاصيّة الحضور الحاليّ لبري، في أنه جزء من سلطة رسمية لبنانية لإدارة المرحلة الانتقالية نحو إنهاء الحرب، من دون أن يلغي ذلك قدرة حركته السياسية على المشاركة في ترتيبات سياسية خلال مراحل لاحقة".