من بين بيوت مأهولة وأسواق فارغة وشوارع عبرها النازحون بعد سماع أوامر إخلاء مدينتهم المحاذية للبحر الأبيض المتوسط، يعلو دخان الغارات الإسرائيلية، ويتمدد في سماء زرقاء ليست صافية، حتى يصل أعلى الموج الذي يضرب شاطئ صور في جنوب لبنان، وتصبح رائحة البارود نسيم البحر الجديد الذي يخنق المدينة.
مشهد تصوّره عدسات الصحفيين الذين يراقبونه من الضفة الأخرى، بينهم والأبنية التي تتعرض للقصف أمام أعينهم، بحر وصلته آثار الغارة كأن طفلاً ما يلقي حجراً في ماء، لكن لا أطفال هنا، إنما فراغ كبير وبعض أشجار النخيل.
يرتدي الصحفيون ستراتهم الزرقاء الواقية من الرصاص، لعلّها تحميهم من غارة محتملة، كتلك التي قتلت 4 من زملائهم منذ بداية اندلاع المعارك بين الجيش الإسرائيلي ومسلحي حزب الله، قبل عام.
ووفق وزارة الصحة اللبنانية، الاثنين، قتلت غارة إسرائيلية استهدفت مبنى سكنياً في حي "الرمل"، سبعة أشخاص، الاثنين، وأصابت 17 آخرين بجراح.
وبعد الظهر، استؤنفت الغارات إثر وصول أوامر إخلاء من الجيش الإسرائيلي لمبانٍ في شوارع عدة في مدينة صور، نقلتها مكبرات الصوت في مركبات الدفاع المدني للسكان.
يقول الجيش الإسرائيلي إنه "يهاجم أهدافاًُ إرهابية لحزب الله، ومستودعات أسلحة وصواريخ مضاّدة للدروع ومبان عسكرية ومواقع استطلاع لوحدات عسكرية إحداها عن عمليات الإطلاق من منطقة جنوب غرب لبنان نحو الأراضي الإسرائيلية" بحسب الناطق الإعلامي أفيخاي أدرعي.
وبالنسبة لأهالي المدينة، فإن الغارات تقتل أحباءهم وتستهدف ذكرياتهم بتدمير الأماكن التي ولدوا وكبروا فيها ورأوا فيها تاريخهم وحضارة البلاد الملاصقة للبحر، على أرض عمرها أكثر من أربعة آلاف سنة، أدرجتها اليونسكو على قائمة التراث العالمي عام 1984.
وفي حسابها على منصة إكس، اتهمت النائبة اللبنانية حليمة القعقور الجيش الإسرائيلي بأنه يستهدف "المدنيين وكل إرث إنساني أو اجتماعي أو تاريخي" يربط اللبنانيين بتراثهم وتاريخهم.
الصحفي نبيل مملوك، وهو ابن مدينة صور، نشر على صفحته في فيسبوك صوراً لتدمير طال منزله من جرّاء الغارات، مبيناً أن كثافتها أدت لصعوبة كبيرة في حركة الإخلاء، كما أن العديد من الشوارع أغلقها ركام المباني المدمرة.
وهو يواظب على كتابة يومياته من داخل صور التي رفض أن يغادرها، قائلاً في أحد منشوراته " بدأنا نخاف من سيناريو غزة، بات النوم أصعب سلوك نقوم به كل ليلة.. نخشى أن تخطفنا غارة ليلاً.."، واصفاً مدينته وقد بدت فارغة كأنهم في عام 2020 حين أعلنت الطوارئ حول العالم، وفرغت الشوارع من المارّة خوفاً من الوباء القاتل: كوفيد- 19.
ولكن، ماذا نعرف عن تاريخ المدينة التي تُلقّب بـ"سيدة البحار" ويعتبرها المؤرخون "ابنة الآلهة" ومخزن اللون الأورجواني المحبب لدى الملوك والأثرياء في عصور غابرة.
ابنة الآلهة ومسقط رأس أوروبا
تقع مدينة صور القديمة على الساحل الجنوبي للبنان، على بُعد 83 كم جنوب بيروت. وبحسب اليونسكو فإنها "مدينة فينيقية عظيمة حكمت البحار وأسست مستعمرات مزدهرة مثل قادس وقرطاج. وفيها اكتُشف اللون الأرجواني، كما تقول الأسطورة".
وكتبت اليونسكو في ملف المدينة على موقعها الإلكتروني: "منذ القرن الخامس قبل الميلاد، عندما زارها المؤرخ هيرودوت الهاليكارناسي، تم بناء صور في الغالب على جزيرة اعتُبرت حصينة، وتعد واحدة من أقدم المدن الكبرى في العالم. وتقول التقاليد إنها تأسست عام 2750 قبل الميلاد، لكنها سقطت أمام هجوم الإسكندر المقدوني الذي أغلق المضيق بسد. أُنشئت بعده مدينة يونانية ثم رومانية، لتتحول صور إلى شبه جزيرة".
وفي الأساطير فقد تأسست صور على يد الإله العظيم "ملقرت" (يعني اسمه ملك المدينة)، وكانت المدينة عبارة عن ميناء ومركز صناعي عُرف في الأساطير اليونانية بأنه "مسقط رأس أوروبا". وأوروبا هي ابنة آجينور ملك صور الفينيقي، ومنها حملت القارة اسمها الذي يعني باليونانية (الوجه العريض)، كما يقول أستاذ الفلسفة والتاريخ السابق، مدير محتوى موقع "موسوعة تاريخ العالم"، جوشوا جيه مارك.
ويشرح مارك "تتألف المدينة من جزأين: المركز التجاري الرئيسي على جزيرة و"صور القديمة" على بعد حوالي نصف ميل مقابل البر الرئيسي. تأسست المدينة القديمة المعروفة باسم أوشو (اسم سابق لملقرت) عام 2750 قبل الميلاد، ونشأ المركز التجاري بعد فترة وجيزة".
وبمرور الوقت أصبح مجمع الجزيرة أكثر ازدهارا واكتظاظا بالسكان من أوشو، وكان محصّناً بشدة، الأمر جذب انتباه الملك نبوخذ نصر الثاني ملك بابل (حكم 604-562 قبل الميلاد) الذي حاصر المدينة لمدة 13 عاما في القرن السادس قبل الميلاد دون كسر دفاعاتهم.
ربما كانت أشهر حادثة في تاريخ مدينة صور، بحسب مقال تأريخي على موقع "بريتانيكا"، مقاومتها لجيش الإسكندر المقدوني الذي استولى عليها بعد حصار دام سبعة أشهر عام 332. دمر آنذاك الجزء الرئيسي من المدينة بالكامل واستخدم أنقاضها لبناء جسر ضخم للوصول إلى قسم الجزيرة (السدّ).
بعد الاستيلاء على صور، أُعدم 10 آلاف من سكانها، وتم بيع 30 ألفاً منهم كعبيد، وحوّل جسر الإسكندر، الذي لم تتم إزالته أبداً، الجزيرة إلى شبه جزيرة.
يشار إلى صور أيضاً في الكتاب المقدس (العهد الجديد)، وبحسب ما كتب فيه، فقد زارها المسيح، والقديس بولس الرسول.
أهميتها التاريخية
تبياناً لأهميتها التاريخية وقيمة الآثار التي عُثر عليها في المدينة الساحلية، قالت اليونسكو إن صور ارتبطت مباشرة بمراحل عدة هامة من التاريخ الإنساني، مثل إنتاج الصبغة الأرجوانية المخصصة للملوك والنبلاء، وبناء معبد سليمان في القدس بمساهمة مهندس معماري ومواد أرسلهم الملك حيرام ملك صور؛ واستكشاف البحار من قبل الملاحين الشجعان الذين أسسوا مراكز تجارية مزدهرة حتى غرب البحر المتوسط، ما يعني شبه احتكارها للتجارة البحرية الهامة، إلا أن دورها التاريخي تراجع في نهاية فترة الحملات الصليبية.
وتقع المنطقة الأثرية في صور ضمن موقعين، وفق اليونسكو، أحدهما المدينة الواقعة على الرأس، والآخر هو مقبرة البص الواقعة على البر الرئيسي. ويشمل موقع المدينة بقايا أثرية مهمة، معظمها مغمور.
من أبرز البنى الأثرية التي ما زالت شاهدة على حضارة صور القديمة بقايا الحمامات الرومانية، والميادين الرياضية، ومدرج روماني يعود للقرن الميلادي الثاني، وطريق محاط بالأعمدة الرومانية وقناة مائية، وغيرها من المواقع.
وخلال سيطرة الصليبيين على صور، واصل أبناؤها إنتاج الصبغة الأرجوانية الشهيرة، وازدهرت كمقر لأساقفة الكنيسة وأحد أهم دفاعات مملكة القدس في الحفاظ على الوجود المسيحي في المنطقة. وفي عهد المماليك، سيطر المسلمون على صور (1291 ميلادي)، ليتوقف بعدها إنتاج الصبغة الأرجوانية والملابس مع توفر الأصباغ الرخيصة، كما يقول جوشوا مارك في مقاله.
وفي عام 1516، أصبحت المدينة جزءاً من الإمبراطورية العثمانية التي احتفظت بها حتى عام 1918، وبعد نجاح ما عُرف بـ"الثورة العربية" ضد العثمانيين، أصبحت صور جزءاً من سوريا الكبرى، وكان أهلها يعتمدون إلى حد كبير على صيد الأسماك، التي شكلت جانبا مهما من اقتصاد المدينة، وفي الوقت نفسه تراجعت المهن والحرف التقليدية التي عُرفوا بها قديما.
في الوقت الحاضر، تعتمد صور بشكل أساسي على السياحة لدعم اقتصادها، حيث بدأت الحفريات الأثرية هناك بشكل جدي عام 1946 واستمرت بشكل متقطع، لكن الصراعات السياسية وغياب الاستقرار الأمني لفترات خلال القرن العشرين وحتى الوقت الحاضر، أعاق عمليات التنقيب الأثري.
وختم مارك التأريخ لصور بالقول "في بعض الأحيان توقف السياحة تماماً، ما أدى لتراجع اقتصادها ومنع المزيد من الاستكشاف لواحدة من أعظم المدن في العصور القديمة" كأنه يكتبها اليوم أمام مشهد الدخان الذي يلتهم سماء المدينة.