من مظاهرة سابقة في لبنان ضد الفساد - AFP
من مظاهرة سابقة في لبنان ضد الفساد - AFP

بعد سنوات من التحذيرات والتوصيات الدولية، تحول هاجس دخول "اللائحة الرمادية لغسل الأموال" إلى واقع في لبنان. فقد أدرجت مجموعة العمل المالي الدولية (FATF) لبنان رسمياً على قائمتها الرمادية في ختام اجتماعاتها الأخيرة في باريس.

ويأتي هذا الإدراج في سياق الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعاني منها البلد، وليسلط الضوء على رهان مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب في البلاد، وسط تساؤلات على كلفته المحتملة وتداعيات على اقتصاد البلاد.

ويعتبر خبراء اقتصاديون أن إدراج لبنان على "اللائحة الرمادية" جاء "نتيجة حتمية لسنوات من الفساد والإهمال، الأمر الذي ساهم في تفاقم الأزمات الاقتصادية والمالية للبلاد".

وفي المقابل، يرى آخرون أن "هذه الأزمة قد تمثل فرصة سانحة للإصلاح، وحافزاً لاتخاذ خطوات عاجلة لمعالجة الثغرات في النظام المالي وتعزيز الشفافية والمساءلة".

وتقود مجموعة العمل المالي التحركات الدولية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وانتشار الأسلحة، إذ تُقيّم تحركات الدول لمواجهة استعمال الأموال في أنشطة غير مشروعة وجرائم بينها الإرهاب.

دائرة الضغوط

في هذا السياق، تشير الباحثة في القانون المالي الدولي والجرائم المالية، محاسن مرسل، في حديث لموقع "الحرة"، إلى أن إدراج لبنان على اللائحة الرمادية "جاء نتيجة ضغوط دولية مكثفة، خاصة في ظل الحرب بين لبنان وإسرائيل، والتي تزامنت مع محاولات حثيثة من قبل إسرائيل وبعض الدول الغربية للدفع نحو اتخاذ هذا القرار"، مستندة إلى ما وصفته بـ"ضعف الإجراءات التي تتبعها الحكومة اللبنانية في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب".

الولايات المتحدة تفرض عقوبات على مبيعات النفط الإيراني
يعتمدان طرقا "غامضة ومعقدة".. إيران وكوريا الشمالية بالقائمة السوداء لغسل الأموال
وضع تقرير "مجموعة العمل المالي" (FATF)، صادر الجمعة، إيران وكوريا الشمالية في القائمة السوداء في مكافحة الأموال، معتبرا أنهما من الدول "ذات المخاطر العالية" بسبب غسل الأموال، كاشفا وجود "أوجه قصور استراتيجية كبيرة" في أنظمتهما لمكافحة تمويل الإرهاب وانتشار التسلح.

وفي السياق، تؤكد مرسل أن مصرف لبنان والقطاع المصرفي اللبناني "ملتزمان بمعايير الشفافية الدولية"، لكن "بعض الأزمات الداخلية ساهمت في إدراج لبنان على اللائحة الرمادية"، مشيرة إلى أن "التحديات السياسية، مثل الفراغ الرئاسي وعدم انتظام العمل في بعض المؤسسات، كان لها دور بارز في لفت الأنظار الدولية نحو لبنان، إضافة إلى أن الضغوط المتزايدة نتيجة الحرب القائمة دفعت المجتمع الدولي للمطالبة بإصلاحات شاملة وملموسة من الجانب اللبناني".

كما تشير المتحدثة إلى أن محادثات مجموعة العمل المالي كشفت عن "تحفظات" عدة تتعلق بأداء الحكومة اللبنانية في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، شارحة أن "التحفظ الأول" يتمثل في "غياب الشفافية" في الملاحقات القضائية، خاصة في قضايا التهرب الضريبي وجرائم الاتجار بالمخدرات والتهريب.

أما التحفظ الثاني فيتعلق بـ"عدم تبني" الحكومة اللبنانية "سياسات فعالة" لملاحقة الأموال الناتجة عن الفساد، لا سيما تلك التي "يتم تهريبها" إلى ولايات قضائية خارجية.

وفيما يخص التحفظ الثالث، تسجل الباحثة في القانون المالي الدولي والجرائم المالية "غياب تحقيقات جدية" في القضاء اللبناني بخصوص التهديدات المرتبطة بالجماعات المسلحة الكبرى، "الأمر الذي يضع علامات استفهام حول مدى التزام لبنان بالمعايير الدولية المطلوبة لتحقيق الشفافية والأمان المالي"، وفقها.

بين القديم والجديد

في المقابل، يقلل الباحث في المعهد اللبناني لدراسات السوق، خالد أبو شقرا، في حديث لموقع "الحرة"، من تأثيرات التصنيف لبنان في القائمة الرمادية لغسل الأموال، معتبرا أن القرار يهدف إلى مراقبة مدى التزام البلد بتطبيق المعايير والشروط الدولية لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب "دون أن يؤدي ذلك إلى عزله مالياً أو فصله عن النظام المالي العالمي كما يخشى البعض".

ولتوضيح وجهة نظره، يعود المتحدث إلى قصة ورود لبنان في تصنيفات مكافحة غسل الأموال، آخرها تقرير سابق لمجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا صدر في ديسمبر 2023 ورد تقييم للتدابير التي اتخذها لبنان لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وذلك بعد زيارة ميدانية للمجموعة إلى البلد بين 18 يوليو و3 أغسطس 2022.

التقرير تعقب، وفق أبو شقرا، مدى التزام لبنان بـ"التوصيات الأربعين" التي طالبته مجموعة العمل المالي باتباعها، وبيّن أن لبنان "ملتزم كلياً بتسع توصيات، وجزئياً بست توصيات، بينما يظهر التزاماً كبيراً بـ 25 توصية أخرى".

قبل ذلك، جرى إدراج لبنان على اللائحة الرمادية. حدث ذلك لأول مرة عام 2000، قبل أن يزال من تلك اللائحة عام 2002. ويرجع أبو شقرا هذا التطور آنذاك إلى "التزام لبنان الجاد" بقوانين مكافحة تبييض الأموال، مشيراً إلى إقرار قانون مكافحة تبييض الأموال عام 2001، الذي "استوفى 23 معياراً من أصل 24 مطلوباً لمكافحة هذا النوع من الجرائم".

ويوضح أبو شقرا أن التهرب الضريبي كان أحد المعايير غير المستوفاة حينها، مستدركا "إلا أن ذلك لم يمنع من إزالة لبنان من اللائحة، وقد ساعد في هذه الخطوة إنشاء هيئة تحقيق خاصة بموجب قانون مكافحة تبييض الأموال، مهمتها التحقيق في العمليات المشبوهة، إضافة إلى رفع التحفظات عن انضمام لبنان إلى اتفاقية فيينا لعام 1988، الأمر الذي دعم جهود البلاد في مكافحة تبييض الأموال وسمح بإزالته من اللائحة".

وفي عام 2015، أقر لبنان سلسلة من القوانين الرامية لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، من بينها وفق ما يقوله أبو شقرا، قانون انضمام لبنان إلى اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة تمويل الإرهاب، وتعديلات على قوانين مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، إضافة إلى قانون التصريح عن نقل الأموال عبر الحدود وقانون تبادل المعلومات الضريبية.

ونجحت هذه التدابير، وفق أبو شقرا، في "تجنيب" لبنان اتهامات تبييض الأموال حتى عام 2019، "لكن التحديات الاقتصادية الراهنة باتت تتطلب إجراءات أوسع"، وفق قوله.

تأثيرات القرار

بدوره، يرى الخبير الإستراتيجي في المخاطر المصرفية والاقتصادية، محمد فحيلي، في تصريحه لموقع "الحرة"، أن قرار إدراج لبنان في اللائحة الرمادية لغسل الأموال دليل على أن البلد "يعتبر متعاوناً جزئياً في مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب".

وحتى لو تم تصنيف لبنان كدولة غير متعاونة في مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب فسيكون لذلك "تأثير محدود على القطاع المالي"، وفقاً لما يشير إليه فحيلي، الذي يعزو منظوره إلى "التداعيات التي ظهرت منذ إعلان حكومة حسان دياب التوقف عن سداد الدين العام في مطلع عام 2020".

ويشرح فكره قائلا "قرار حجوم دياب أدى إلى تصنيف لبنان كدولة متعثرة، مما انعكس سلباً على القطاع المصرفي والشركات المالية، فقد تضررت علاقات المصارف المحلية مع البنوك المراسلة، بالإضافة إلى تراجع التحويلات المالية، خاصة تلك ذات القيمة العالية، مما فاقم من أزمة السيولة التي يعاني منها الاقتصاد اللبناني".

ويوضح فحيلي أنه "من أصل 54 مصرفاً تجارياً و13 شركة مالية في لبنان، لم تستطع سوى قلة من المصارف الحفاظ على علاقات قوية مع المصارف المراسلة بفضل التزامها الصارم بإجراءات مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب وإدارة المخاطر الائتمانية".

بناءً على هذا الواقع، فإن إدراج لبنان على اللائحة الرمادية "لن يفاقم الأزمة المالية بشكل كبير"، وفق فحيلي، "لا سيما أن المصارف اللبنانية التي نجت من تأثيرات 2020 ما زالت تحتفظ بعلاقات جيدة مع المصارف المراسلة، مما يعزز قدرتها على التكيف مع الظروف الراهنة، كما أن المصارف اللبنانية التي تتعامل بأموال نظيفة لن تتأثر كثيراً بهذا الإدراج، إذ يمكنها إثبات أن مصادر أموالها مشروعة".

ويشدد فحيلي على أن "هذا التصنيف يجنّب المصارف المراسلة اتخاذ إجراءات متشددة مثل قطع العلاقات نهائياً"، مشيراً إلى أن "التحديات التي ستواجه المصارف اللبنانية ستنحصر في تعزيز إجراءات مكافحة تبييض الأموال وليس في زيادة المخاطر الائتمانية، مما يعني أن التحويلات والاستثمارات النزيهة ستظل محمية من التأثيرات السلبية للإدراج على اللائحة الرمادية".

وفيما يتعلق بتأثير هذا الإدراج على سعر صرف الليرة اللبنانية، يؤكد فحيلي أن "الانكماش الاقتصادي الذي يشهده لبنان حالياً نتيجة الأزمة الراهنة ساهم في تقليل الطلب على العملات الأجنبية، والسيولة المتوفرة من العملة الأجنبية تكفي حالياً لدعم استقرار سعر الصرف".

وعن التحويلات المالية، يشير إلى أن "لبنان سيظل مرتبطاً بالعالم الخارجي وسيستمر في استقبال الأموال الأجنبية من عملات مثل الدولار واليورو، خاصة من مصادر نظيفة تلتزم بالمعايير المطلوبة. ومع ذلك، قد تصبح التحويلات المالية أكثر تشدداً من حيث الإجراءات، حيث قد تتطلب مستندات إضافية وقد تستغرق بعض التحويلات المالية وقتاً أطول، مع ارتفاع طفيف في الرسوم".

وحول ما إذا كان وضع لبنان على هذه اللائحة سيعرقل جهود إعادة الإعمار بعد الحرب، يجيب الباحث في المعهد اللبناني لدراسات السوق، خالد أبو شقرا بالنفي، شارحاً أن "هذه اللائحة تضع البلاد تحت رقابة مشددة، حيث يتعهد لبنان كتابياً بتنفيذ الإصلاحات المطلوبة خلال فترة زمنية تمتد لعامين حتى عام 2026".

ويؤكد أبو شقرا أنه "خلال هذه الفترة، لن يتم قطع العلاقات مع المصارف المراسلة، ولن تمنع تحويلات الأموال من الداخل إلى الخارج، كما لن يتوقف فتح الاعتمادات المستندية لأغراض التجارة الخارجية".

ومع ذلك، يوضح أن هناك تدقيقاً إضافياً على التحويلات المالية عبر الشركات المالية أو المصارف، مما يؤدي إلى زيادة تكلفة هذه العمليات.

كما يشير إلى أن المساعدات المالية إلى لبنان، التي تُعرف مصادرها، ستستمر في الوصول إلى البلاد، رغم وجود تدقيق أكبر على كيفية صرفها داخل لبنان، كذلك يشير فحيلي إلى أن إدراج لبنان على هذه اللائحة لن يؤثر على المساعدات الخارجية مشيراً إلى أن "مبلغ الـ 800 مليون دولار الذي تم التعهد به في مؤتمر باريس لدعم لبنان سيصل بشكل نقدي، ولا يرتبط بهذا القرار".

موقف مشابه تتبناه الباحثة في القانون المالي الدولي والجرائم المالية، محاسن مرسل، معتبرة أن قرار إدراج لبنان على اللائحة الرمادية "لا يحدث تأثيراً فورياً"، لكنه "يمثل تحذيراً للحكومة اللبنانية ودعوة للإصلاح"، وتوضح أنه "في حال عدم اتخاذ خطوات فعلية، قد يتزايد الضغط الدولي، مما قد يؤدي إلى إدراج لبنان في القائمة السوداء، وهو سيناريو قد يعمق الأزمة الاقتصادية ويهدد بقطع العلاقات المالية بين لبنان والدول الأخرى".

لكن مرسل تعتبر في المقابل أن قرار مجموعة العمل المالي يمثل "نقطة تحول حاسمة" في مسار الاقتصاد اللبناني، مشيرة إلى أنه يوفر فرصة للحكومة لاتخاذ إجراءات جادة لإنقاذ الاقتصاد وفتح صفحة جديدة في علاقتها مع المجتمع الدولي، مؤكدة أن الوقت لا يزال في صالح لبنان، لكن "تبقى القرارات السياسية العامل الحاسم في ظل الأزمات المتفاقمة وضغوط الإصلاحات الدولية".

A woman mourns over the coffin of a relative during the funeral of victims of an Israeli airstrike a week earlier in the…
لبنانية تنعى أحد أقاربها خلال تشييع ضحايا غارة جوية إسرائيلية في قرية علمات، في حوش الرفقا في سهل البقاع اللبناني

لا تفارق مخيلة هدى، المرأة الأربعينية، مشاهد الغارات الإسرائيلية التي طالت مبان سكنية بسبب وجود كوادر من حزب الله فيها، وتقول "صوت صراخ الأم في بلدة عين يعقوب العكارية، وهي تردد 'ابني مات'، لا يغادر أذني. مشاهد الحطام والأشلاء عالقة في مخيلتي، ولا أريد أن أكون وأهلي الضحايا الجدد لهذه الغارات".

هذا الخوف بات مشتركاً بين اللبنانيين مع ازدياد استهداف إسرائيل لمسؤولي حزب الله داخل المنازل والأبنية السكنية. 

وأصبح اللبنانيون يخشون من وجود مسؤولين من الحزب في المباني أو الأحياء التي يقطنونها، ما يهدد حياتهم في أي لحظة، وما يزيد من مخاوفهم التهديدات الإسرائيلية المتكررة بمواصلة استهداف كوادر الحزب أينما وجدوا.

وأسفرت الغارات الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت منازل ومبانٍ تؤوي عائلات نازحة عن مقتل وإصابة عشرات المدنيين، وسط أنباء تشير إلى وجود مسؤولين من حزب الله داخل هذه المباني.

ففي بلدة عرمون (بمحافظة جبل لبنان)، استهدفت غارة جوية فجر اليوم الأربعاء شقة في مبنى سكني، مما أدى إلى سقوط ستة قتلى وفق حصيلة أولية، أما في بلدة بعلشميه (بمحافظة جبل لبنان)، فقد استهدفت غارة جوية أمس الثلاثاء منزلاً، ما أدى إلى مقتل ثمانية أشخاص، وفي اليوم ذاته، استهدفت غارة أخرى مبنى في بلدة جون بإقليم الخروب، ما أسفر عن مقتل 15 شخصاً.

تعيش هدى في حالة من القلق المستمر، خاصة في ظل الغموض حول أماكن وجود مسؤولي الحزب داخل المباني والأحياء السكنية، وتقول لموقع "الحرة" إنه "قبل شهر، تم تأجير شقة في الطابق العلوي في المبنى الذي أقطن فيه لنازحين لا نعرف عنهم شيئاً، كما أن عدداً كبيراً من النازحين سكنوا في المباني المجاورة. لا أعلم إذا كان بينهم أي مستهدف".

وتشدد قائلة "أخشى من غارة قد لا تبقينا على قيد الحياة أو تقلب حياتنا رأساً على عقب، وما يزيد من قلقي أن الصاروخ كما نشاهد لا يدمر المنزل المستهدف فحسب، بل يطال أيضاً الأبنية المحيطة به، لذلك كله بتنا محاصرين بالخوف. أصبحت أقصى أحلامنا أن نعيش بسلام وأمان، دون أن نكون مهددين بالموت والدمار".

بين إجراءات الأمان وغيابها

استقبلت بلدة برجا بإقليم الخروب حوالي 30,000 نازحاً كما يؤكد رئيس بلديتها العميد حسن سعد لموقع "الحرة"، وقد تعرضت للاستهداف مرتين، المرة الأولى في 5 أكتوبر حيث شن الجيش الإسرائيلي غارة على شقة سكنية فيها، ما أسفر عن مقتل 20 شخصاً، ولم تكد تمضي أيام قليلة حتى شهدت البلدة غارة أخرى في 12 أكتوبر، ما أدى إلى مقتل أربعة أشخاص.

يقول ابن البلدة الناشط جمال ترو، الذي ساهم في تأمين مأوى للنازحين إلى البلدة، سواء في منازل مجانية أو في مراكز ومدارس مخصصة للإيواء، إن "العمل الذي قمت به مع مجموعة من الناشطين، وما زلنا نقوم به، هو عمل إنساني واجتماعي ينبع من أخلاقنا وقيمنا وتربيتنا، ولا علاقة له بالسياسة. نحن نختلف سياسياً مع النظام اللبناني بشكل عام، وعلى رأسه حزب الله، ولكن ذلك لا يبرر تجاهل معاناة المواطنين، فلم نعتد أن نميز يوماً بين اللبنانيين على أساس مناطقي أو مذهبي أو سياسي".

ويشدد ترو على ضرورة "ابتعاد أي شخص يشعر أنه مستهدف عن الأماكن المأهولة بالسكان حفاظاً على سلامة المواطنين، وذلك من مبدأ ديني وأخلاقي وإنساني، فإسرائيل تحاول استغلال هذه الظروف لإثارة الفتنة والنعرات الطائفية".

ويضيف " من دون أدنى شك أخشى على عائلتي وأهلي وأبناء بلدتي من ضمن خوفي الكبير على لبنان، على هويتنا وانتمائنا وأرضنا، فنحن أمام حرب مدمرة يبدو أنها طويلة".

وفي أعقاب الاستهدافين الذين تعرضت لهما بلدة برجا، اتخذت البلدية سلسلة من الإجراءات لتعزيز الأمن، ويوضح رئيس البلدية، العميد حسن سعد، أن "البلدية أوعزت للنازحين بعدم استقبال أي شخص قد يكون عرضة للاستهداف"، ويشدد "كما أنه من واجب أي شخص يشعر بأنه قد يكون هدفاً للتهديد الابتعاد عن البلدة، حفاظاً على سلامة الجميع".

ويشير سعد إلى أن "البلدية ترسل دوريات لإبعاد أي شخص يثير الشبهات"، مشيراً إلى أن "المواطنين يتعاونون في هذا الجانب من خلال الإبلاغ فوراً عند الشك بشخص معين، كما تنظم البلدية دوريات ليلية لتعزيز شعور السكان بالأمان".

كذلك تعرضت بلدة عين يعقوب في عكار شمال لبنان، لغارة ليلية يوم الاثنين أسفرت عن تدمير مبنى من طابقين يقطنه نازحون لبنانيون ولاجئون سوريون، ما أدى إلى مقتل 17 شخصاً. ورغم الحادثة، يؤكد رئيس البلدية، ماجد درباس، أنه "لم تتخذ أي إجراءات جديدة للحد من تكرار مثل هذه الحوادث".

ويوضح درباس في حديث لموقع "الحرة" أن "الوضع لا يزال على حاله، ولدينا حوالي 370 نازحاً"، مشيراً إلى صعوبة التحقق من وجود أي مستهدفين بين النازحين أو من لديهم انتماءات حزبية معينة.

بين الاحتضان والريبة

"لطالما سادت المجتمع اللبناني الانقسامات العمودية والإصطفافات الطائفية بين مختلف فئاته وطوائفه ومذاهبه، ولقد ازدادت اليوم مع التصعيد الذي تشهده الساحة اللبنانية في ظل الحرب الدائرة بين إسرائيل وحزب الله"، كما تقول الأخصائية في علم الاجتماع الدكتورة هيفاء سلام.

وتضيف سلام في حديث لموقع "الحرة" أنه "بالرغم من أن بعض اللبنانيين لم يكونوا موافقين على الدخول في الحرب لاعتبارات عديدة، إلا أنهم وبمختلف طوائفهم سارعوا إلى احتضان إخوانهم النازحين من اللبنانيين وأبدوا تعاطفا وتكاتفا كبيرين تجاههم، ففتحوا لهم بيوتهم ومناطقهم وقدموا لهم المساعدات".

"لكن الإستهدافات الإسرائيلية المتكررة لعناصر موالية لحزب الله في المناطق التي تصنف آمنة ولّدت لدى أهالي هذه المناطق التي نزحت إليها بيئة الحزب الشعور بالقلق والخوف والهلع، من أن يستخدموا كدروع بشرية من قبل هؤلاء الكوادر الحزبية"، كما تقول سلام، مشيرة إلى أن ذلك "يفاقم النقمة الشعبية ضد الحزب وضد بيئته الحاضنة من النازحين، ويتسبب بخلق نوع من الحذر والريبة تجاههم عموما ويؤدي إلى شرخ بين اللبنانيين".

وتلفت سلام إلى أن "البعض من أبناء الأحياء عمدوا إلى الاستفسار عن هوية طالبي استئجار الشقق السكنية وعن سكنهم الأصلي ومهنتهم، للتأكد من عدم ارتباطهم بالحزب، في محاولة لدرء الخطر عنهم".

كذلك تؤكد الأخصائية في علم النفس، الدكتورة إيمان رزق، أن ما يحصل "دفع العديد من أصحاب المنازل إلى الامتناع عن تأجير عقاراتهم للنازحين خوفاً من احتمالية وجود كوادر تابعة لحزب الله بينهم، الأمر الذي يزيد من توتر العلاقات الاجتماعية بين اللبنانيين، ويدفع عدداً كبيراً من النازحين إلى اللجوء إلى مراكز الإيواء".

أما أكثر ما يخشى منه، وفق سلام "هو إطالة مدة هذه الحرب، لأن هناك حذرا وخوفا من تغير التوزيع الديمغرافي للمناطق ومن تزايد الاحتكاكات بين النازحين والأهالي، وإن لا زالت حتى الآن هذه المشكلات محدودة ومضبوطة وغير موسعة، ولكن ما يزيد من هذا الشعور هو أن الشعب اللبناني برمته يعيش ضائقة اقتصادية غير مسبوقة يمكن أن تنفجر وتتحول إلى صراع داخلي وتوترات أمنية متفرقة".

في المقابل، تعرب رزق عن تفاؤلها بأن التوترات الراهنة لن تؤدي إلى انقسامات أو كراهية بين اللبنانيين، قائلة "لا أعتقد أن هذا الوضع المؤقت سيخلق عداء بين اللبنانيين، فالجميع يشعر بالحزن لما يحدث في الوطن"، مشددة على أن "الأولوية الآن يجب أن تكون للتوصل إلى وقف إطلاق النار من أجل حماية سلامة اللبنانيين والحفاظ على استقرارهم النفسي والاجتماعي".

تداعيات نفسية

"الوضع النفسي للبنانيين يتأثر بشكل كبير نتيجة التصعيد الأمني الحالي"، كما تؤكد رزق، واصفة ما يجري بـ"حرب نفسية" تؤدي إلى "القلق المزمن، وقد تتطور الحالات إلى الاكتئاب والصدمات النفسية"، وتوضح أن "التوتر الناجم عن ترقب الأسوأ والمشاهد المروعة للدمار وسماع أصوات الانفجارات يضع المواطن اللبناني في حالة من الضغوط النفسية، قد تتحول إلى صدمة مجتمعية، حيث تنتقل تأثيرات هذه الصدمة من الأفراد إلى المجتمع".

من جانبها تقول مديرة جمعية "مفتاح الحياة"، الأخصائية النفسية والاجتماعية لانا قصقص إن "العيش تحت وطأة التوتر المستمر لفترات طويلة يؤدي إلى ارتفاع مستويات القلق".

وتوضح قصقص في حديث لموقع "الحرة" أن الآثار القريبة المدى لهذا التوتر تتمثل في "الاحتراق النفسي والإرهاق"، بينما تشمل الآثار البعيدة المدى "احتمالات الإصابة بالاكتئاب واضطرابات القلق واضطراب ما بعد الصدمة".

ومن الأعراض الأكثر شيوعاً "القلق المستمر، والخوف غير المبرر، والتوتر الدائم، واضطرابات النوم والطعام، والعصبية، وصعوبة التركيز، إلى جانب أعراض جسدية مثل تسارع دقات القلب، وتشنج العضلات، ومشاكل في الجهاز الهضمي، وصعوبة في التنفس".

وفيما يتعلق بسبل التعامل مع هذه التحديات النفسية، تنصح قصقص بضرورة تبني استراتيجيات للتكيف، "مثل الالتزام بروتين صحي، وممارسة التأمل، والاستماع إلى الموسيقى الهادئة، والتعبير عن المشاعر والمخاوف ضمن مساحة آمنة، سواء مع الأصدقاء والعائلة أو من خلال المبادرات المجتمعية"، مشيرة إلى أن جمعيتها توفر خطاً ساخناً متاحاً على مدار الساعة، لطلب استشارة مجانية من المتخصصين.

كذلك توصي "بممارسة الرياضة لتخفيف التوتر، والبحث عن لحظات صغيرة للشعور بالامتنان، ما يعزز السلام الداخلي ويحسن المزاج".

أما سلام فتعتبر أن الحد أو التخفيف من القلق لدى اللبنانيين، يتطلب من السلطة أن "تقوم بواجباتها تجاه مواطنيها، نازحين وغير نازحين"، وتشرح "عليها أن تتولى أمن المواطنين كافة وحمايتهم، وأن توكل هذه المهام إلى الجيش والقوى الأمنية في هذه الأوقات الحرجة، ما يعطي شعورا للمواطن اللبناني بشيء من الطمأنينة والأمان وبأن ما زال هناك دولة لبنانية يمكن أن يعول عليها وحدها حصراً في إعادة بناء الوطن والنهوض به في اليوم التالي لانتهاء الحرب".

المصدر: الحرة