النظام السياسي اللبناني يعتمد على مبدأ المحاصصة الطائفية
النظام السياسي اللبناني يعتمد على مبدأ المحاصصة الطائفية (afp)

منذ انتهاء ولاية رئيس الجمهورية الأسبق، ميشال عون، يعاني لبنان فراغا رئاسيا يتجلّى في أزمة سياسية مستمرة تفاقمت خلال فترة حكمه. وعلى رغم الجهود التي بذلت من أجل الاتفاق على انتخاب رئيس جديد، شهدت البلاد تصاعدا في الانقسامات السياسية التي أعاقت التوافق على تأمين هذا الاستحقاق الدستوري.

اليوم، وبعد عامين من الفراغ الرئاسي، لا يزال لبنان يواجه تحديات جمّة، ويعيق غياب التوافق السياسي جهود إعادة بناء المؤسسات، مما يؤدي إلى استمرار حالة العجز عن تلبية احتياجات المواطنين.

ويعود انعدام القدرة على انتخاب رئيس جديد حتى الآن إلى الصراعات السياسية الحادة، حيث تتنافس مجموعة من الأطراف على النفوذ، ما يمنع التوصل إلى توافق حول مرشح واحد أو الاتفاق على عقد جلسة انتخابية.

النائب في تكتل "الجمهورية القوية" برئاسة القوات اللبنانية، رازي الحاج، أكد في حديث لموقع "الحرة"، أن "الاستحقاق الرئاسي ينص عليه الدستور بشكل واضح، والآلية واضحة وضوح الشمس، وبالتالي لا لزوم لمبدأ التوافق الذي لا يتحدث عنه الدستور، بل ينص على دعوة لجلسة مفتوحة لانتخاب رئيس".

وأضاف الحاج: "للأسف، محور الممانعة الذي يمسك بالقرار السياسي في لبنان والذي لا يملك أصلا أكثرية نيابية كان يسعى إلى تعطيل الاستحقاق الرئاسي، من أجل محاولة فرض مرشحهم الرئاسي وعمدوا إلى تعطيل جميع الجلسات بعد الدورة الأولى".

وتابع قائلا: "تقدّمنا بأكثر من مسعى عبر السنتين الماضيتين من أجل انتخاب رئيس وفق الآلية الدستورية لكنهم أصروا على شرط الحوار، وعندما اشتدت الحرب قالوا إنهم يريدون التوافق المسبق، أي فرضيات غير قانونية وغير دستورية، يريدون أن يطبقوها على الاستحقاق الرئاسي. الفراغ الرئاسي قاتل ومدمر، لأن وجود رئيس الجمهورية مفتاح لإعادة انتظام الحياة السياسية".

وشد الحاج أنه "لا يمكن أن نقبل بعد الآن برئيس يستمر بالممارسات السابقة التي شهدناها، وبالتالي الرئيس الجديد عليه أن يكون سياديا إصلاحيا. لا نزال عند موقفنا، لن نقبل بنصف رئيس بنصف دولة، نريد رئيسا بكامل الصلاحيات".

وعلى مدى السنوات الماضية الماضية، بذلت العديد من القوى الدولية والإقليمية جهودا حثيثة لحلحلة الأزمة السياسية في لبنان. وقادت الولايات المتحدة وفرنسا تحديدا، إلى جانب دول عربية مساعي دبلوماسية مكثفة للتوسط بين الفرقاء السياسيين.

ويعتمد النظام السياسي اللبناني على مبدأ المحاصصة الطائفية، إذ يتم توزيع المناصب السياسية العليا بين الطوائف الدينية الرئيسية في البلاد. ووفقا لهذا النظام، يعود منصب رئيس الجمهورية للطائفة المسيحية.

ومنذ انتهاء ولاية الرئيس السابق، ميشال عون، في نهاية أكتوبر 2022، فشل البرلمان أكثر من مرة في انتخاب رئيس على وقع انقسام سياسي بين حزب الله وخصومه. ولا يحظى أي فريق بأكثرية تمكّنه منفرداً من إيصال مرشحه إلى المنصب. ويتهم كل فريق الآخر بمحاولة فرض مرشحه وبتعطيل انتخاب رئيس.

وتشهد البلاد حاليا أزمة أكثر خطورة تتمثل في تصاعد حدة النزاع بين حزب الله وإسرائيل منذ عدة أسابيع، مع تكثيف الأخيرة حملتها الجوية ضد مناطق لبنانية عدة خصوصا معاقل للحزب في الجنوب والشرق والضاحية الجنوبية لبيروت، وبدء عمليات برية "محدودة".

يقول النائب في كتلة "اللقاء الديمقراطي" برئاسة الحزب التقدمي الاشتراكي، هادي أبو الحسن، في حديث لموقع "الحرة" إن "الأولوية اليوم لوقف إطلاق النار، وفيما لو تم، يجب الشروع فورا بانتخاب رئيس وفاقي".

من جهته، يقول النائب في تكتّل "لبنان القوي" برئاسة التيار الوطني الحر، أسعد درغام، في حديث لموقع "الحرة"، إنه "وبعد الحرب التي حصلت في لبنان صار انتخاب الرئيس أولوية أكثر، ويجب أن يكون حافزًا لكي يحصل انتخاب رئيس الجمهورية، لأن التسوية آتية بعد الحرب، وبعد الحرب سيكون هناك اتفاق لوقف إطلاق النار، وسيكون هناك رئيس الجمهورية".

ورفض درغام أن "يكون وقف إطلاق النار مرهونا بانتخاب رئيس الجمهورية أو أن يكون انتخاب رئيس الجمهورية مرهونا بوقف إطلاق النار". 

وتابع درغام: "الآن لا توجد مساعٍ جدية. كانت هناك مساع جدية يقودها الرئيس نبيه بري، ويبدو أن هناك فرملة للرئيس بري من قبل جهات خارجية لا تريد أن تحصل عملية انتخاب رئيس للجمهورية".

أما النائب في كتلة "التنمية والتحرير" برئاسة حركة أمل، قاسم هاشم، فيشير إلى أنه "جرى رفض مبادرة بري التي أطلقها في 31 أغسطس 2022 للحوار والتشاور بين القوى السياسية".

وتابع أن بري "أعاد تكرار مبادرته وفق آلية مرنة في ضرورة الوصول إلى رئاسة الجمهورية، لكن للأسف وبالسياق نفسه، استمر البعض في رفض هذا التشاور والتواصل بين الكتل النيابية".

وفي السياق، أوضح المحلل السياسي ربيع الهبر، في حديث لموقع "الحرة"، أن "الأخطار المترتّبة عن استمرار الفراغ كبيرة"، وأكد أن "أولها هو سقوط السلطات الدستورية في لبنان".

وأشار الهبر إلى أن "ما يحدث حاليا هو أن السلطات التنفيذية الدستورية ليست معروفة بيد من، فمثلا، حزب الله يمنح الثقة لرئيس مجلس النواب للتفاوض باسمه، بينما مَن يجب أن يتولى مهمة التفاوض هو رئيس الجمهورية وليس رئيس مجلس النواب".

وتابع أن "هناك تغييرا في صلاحيات السلطة التنفيذية من دون أن يكون للسلطة هذه، أو لمجلس النواب، أو للدستور رأي في ذلك. وهذا أمر لا يجوز، حيث أن المفاوض باسم الدولة اللبنانية ليس من لديه هذا الحق وفقا للدستور".

وذكر الهبر أيضا أن "ما يعيق انتخاب رئيس جديد هو أنه لا توجد مهمة واضحة للرئيس. فعادة في لبنان، يتجاوز الرئيس نطاق الاستحقاقات الدستورية، ويجب أن يأتي الرئيس لتنفيذ مهمة معينة".

ويحتاج المرشح لمنصب رئيس الجمهورية في الدورة الأولى من التصويت إلى غالبية الثلثين أي 86 صوتا للفوز. وتصبح الغالبية المطلوبة إذا جرت دورة ثانية 65 صوتا من 128 هو عدد أعضاء البرلمان. لكن النصاب يتطلب الثلثين في الدورتين.
وفي عام 2016، وصل عون إلى رئاسة الجمهورية بعد عامين ونصف العام من شغور رئاسي واستنادا إلى تسوية سياسية بين الحزب وخصومه. وأقر الأمين العام السابق لحزب الله، حسن نصر الله، في حينه بأن حزبه وحلفاءه عطلوا حينها النصاب حتى انتخاب عون.

ومنذ أشهر، تدير البلاد حكومة تصريف أعمال عاجزة عن اتخاذ قرارات ضرورية، في وقت يشهد فيه لبنان منذ 2019 انهيارا اقتصاديا صنّفه البنك الدولي من بين الأسوأ في العالم منذ العام 1850، ويشترط المجتمع الدولي إصلاحات ملحة من أجل تقديم دعم مالي.
 

لبنان وسوريا

تحت أضواء ثريات ذهبية، وفي قمة حافلة باتفاقات تجارية، وبرمزية كبيرة، أدهش الرئيس الأميركي دونالد ترامب العالم من الرياض، بإعلان مفاجئ: الولايات المتحدة سترفع العقوبات عن سوريا.

تجمد الحاضرون لحظة، ثم ضجت القاعة بالتصفيق. 

لسنوات، عزلت العقوبات الأميركية نظام الأسد، ورسمت المعالم الجيوسياسية للمنطقة. لكن الآن، بإعلان واحد، بدأت الخريطة تتغير.

في بيروت، كان التأثير فوريا. إذ سارع رئيس الوزراء نواف سلام إلى إصدار بيان وصف فيه قرار ترامنب بأنه فرصة نادرة للبنان، البلد الذي ابتلعته دوامة الانهيار الاقتصادي، وحروب حزب الله. 

شكر سلام السعودية على دورها في التوسط في هذا الشأن.

في غضون ذلك، لمّح ترامب نفسه إلى رؤية أوسع.

"هناك فرصة في لبنان لتحرير نفسه من نفوذ حزب الله"، قال من على المنصة، "يمكن للرئيس جوزاف عون بناء دولة خالية من حزب الله".

كانت رسالة ترامب واضحة: تغيير واشنطن موقفها من سوريا له امتدادا تشمل لبنان أيضا.

ولكن ما الذي يعنيه هذا القرار حقا بالنسبة للبنان؟ 

رغم الأهمية البالغة لقرار الرئيس الأميركي، يشير الباحث في المعهد اللبناني لدراسات السوق، خالد أبو شقرا،أن ذلك "لا يعني بالضرورة رفع جميع العقوبات المفروضة على دمشق".

في حديث مع موقع "الحرة،" يوضح أبو شقرا أن العقوبات الأميركية تنقسم إلى نوعين "عقوبات تنفيذية يستطيع الرئيس إلغاؤها بقرار منه، وعقوبات تشريعية يفرضها الكونغرس، وأبرزها قانون قيصر الذي فرض على سوريا عام 2019".

"إلغاء قانون قيصر يتطلب تشريعا جديدا"، يضيف.

يعد قانون قيصر، وفق أبو شقرا، "من أشد القوانين تأثيرا على الاقتصاد السوري، إذ يمنع الاستيراد والتعامل بالعملة الصعبة، ويعزل سوريا عن نظام سويفت (SWIFT)، ما يعيق استيراد التقنيات المستخدمة في قطاعات حيوية مثل الطيران والصناعات العسكرية والكهرباء".

ويلفت أبو شقرا، من ناحية أخرى، إلى "معلومات تفيد بأن الرئيس الأميركي قد يتمكن من تجميد العقوبات المفروضة عبر قانون قيصر لفترة تصل إلى ستة أشهر، لكن رفعها بشكل نهائي يبقى من صلاحيات الكونغرس".

ويشير إلى أن "العقوبات الأوروبية المفروضة على النظام السوري، وشخصيات محددة، لا تزال قائمة، وتشمل أيضا شخصيات جديدة ظهرت في السلطة بعد سقوط نظام بشار الأسد".

تداعيات إيجابية

يرجح أبو شقرا أن يكون لقرار ترامب رفع رفع العقوبات عن سوريا تداعيات إيجابية على لبنان، على مستويات متعددة، أبرزها:

1-المساعدة في ما يتعلق باللاجئين السوريين في لبنان

يشير أبو شقرا إلى أن وجود حوالي مليون سوري في لبنان عبء اقتصادي كبير، تتراوحت كلفته السنوية بين مليار  و 1.3 مليار دولار سنويا، بينما كانت المساعدات الدولية أقل من ذلك بكثير. 

"عودة ولو جزء من هؤلاء اللاجئين إلى سوريا، ستخفف من الضغط على الاقتصاد اللبناني، وتسهم في تخفيف الأعباء المالية على الدولة اللبنانية.

2- تخفيف الضغط على العملة الصعبة

عاد السوريون إلى بلادهم، وتوقفت عمليات التحويل غير الرسمية، قد يتراجع الطلب على الدولار في السوق اللبنانية، ما يُسهم في استقرار سعر الصرف، ويخفف من الأعباء المالية على المواطنين اللبنانيين.

3- تسهيل استجرار الغاز المصري والكهرباء من الأردن

لطالما حالت العقوبات المفروضة على سوريا دون تفعيل مشروع استجرار الغاز المصري والكهرباء من الأردن. ومع رفع العقوبات، قد يعاد إحياء هذا المشروع الحيوي، ما سيتيح للبنان استجرار 300 ميغاوات من الكهرباء من الأردن، بالإضافة إلى تشغيل معمل دير عمار بقدرة 500 ميغاوات، ما سيرفع التغذية الكهربائية في البلاد إلى حوالي 800 ميغاوات.

4- مشروع خط النفط من العراق

ناقش الوفد الوزاري اللبناني، الذي زار دمشق حديثا، وضم وزير المالية ياسين جابر، إمكانية إعادة تفعيل مشروع خط النفط من كركوك إلى بيروت أو دير عمار. يتيح هذا المشروع للبنان في حال تنفيذه استيراد النفط الخام من العراق وتكريره في البلاد، ما سيعزز الإيرادات عبر تصدير النفط المكرر إلى الخارج، ويحقق إيرادات كبيرة لخزينة الدولة.

5- عودة الشركات اللبنانية للاستثمار في سوريا

هناك أيضأ إيجابيات تتعلق بإمكانية عودة الشركات اللبنانية للاستثمار في سوريا، إذ قد تستقطب سوريا الكفاءات اللبنانية من مهندسين ومحامين وغيرهم. العديد من هؤلاء اكتسبوا خبرات واسعة خلال فترة الأزمة السورية، ما قد يسهم في إعادة الإعمار في سوريا عند رفع العقوبات.

6- ازدهار العقارات في الشمال اللبناني

يُتوقع أن تشهد مناطق الشمال اللبناني ازدهارا بسبب زيادة الطلب على الإيجارات والعقارات. قد تختار بعض الشركات أن تتخذ لبنان مركزا لانطلاق عملياتها في سوريا، وتحديدا لاستقبال موظفيها وطواقمها التنفيذية، ما سيرتفع الطلب على العقارات والشقق الفندقية والمكاتب في هذه المناطق.

ووفقا لوزير المالية اللبناني ياسين جابر فإنّ "قرار رفع العقوبات عن سوريا يشكّل أيضاً دفعاً ايجابياً في انعكاساته على مستوى ما يقوم به لبنان من تحضيرات لتأمين عبور النفط العراقي الى مصفاة طرابلس وخط الفايبر أوبتيك وكذلك لخط الربط الكهربائي الخماسي وتأمين نقل الغاز والكهرباء من مصر والأردن إلى لبنان".

وأضاف جابر في بيان "سنستمر في اتصالاتنا مع الاشقاء العراقيين لإنجاز كل الاجراءات والاعمال للتعجيل في إتمام التجهيزات المطلوبة على هذا الصعيد، كما أننا سنعمل على تفعيل كل ما يخدم الاقتصاد اللبناني والإفادة من رفع الحصار عن سوريا من حركة نقل وترانزيت من لبنان نحو دول المشرق والخليج العربي وسواها، باعتبارها منفذاً حيوياً واساسياً مساعداً في عملية الإعمار والاستنهاض الاقتصادي ككل".

بين الإصلاح والإخفاق

قد يشكّل رفع العقوبات عن سوريا فرصة ذهبية للبنان، "لكن ذلك يتطلب إصلاحات جذرية في قطاعات حيوية ما زالت تحتكرها الدولة، مثل الاتصالات والكهرباء والمياه والنفايات، مما يعيق دخول القطاع الخاص ويحدّ من فرص الاستثمار".

ويشير أبو شقرا إلى أن "تحسين البنية التحتية في هذه المجالات يعدّ ضروريا لجذب الشركات الأجنبية، سواء للاستثمار في لبنان أو لاستخدامه كنقطة انطلاق نحو سوريا. من دون إصلاحات ملموسة، ستظل التكاليف مرتفعة والخدمات دون المستوى المطلوب، مما سيبعد المستثمرين الأجانب عن الساحة اللبنانية".

على صعيد القطاع المالي، يصف الباحث في المعهد اللبناني لدراسات السوق، الوضع بأنه شبه مشلول "بورصة بيروت، التي تعاني من غياب النشاط وتراجع عدد الشركات المدرجة فيها، باتت عاجزة عن جمع التمويل اللازم للشركات اللبنانية الراغبة في التوسع أو الاستثمار في إعادة الإعمار السوري. هذا الواقع يضعف من قدرة لبنان على المنافسة مع دول أخرى أكثر جاهزية مثل تركيا والسعودية والإمارات، التي تمتلك بنية تحتية متطورة وقدرة أعلى على جذب الاستثمارات".

في المحصلة، يرى أبو شقرا أن رفع  العقوبات عن سوريا يضع "لبنان أمام خيارين؛ إما أن يقتنص الفرصة ويبدأ بإصلاحات جذرية في قطاعاته الحيوية، أو يفوّتها ويبقى في أزمته".