جوزاف عون
الرئيس اللبناني جوزاف عون (رويترز)

شكّل انتخاب، العماد جوزاف عون، رئيسا للجمهورية اللبنانية منعطفاً مهماً في تاريخ البلاد، إذ جاء الاستحقاق الرئاسي في ظل تغيرات إقليمية ودولية أثرت على النفوذ التقليدي لحزب الله الذي كان اللاعب الأبرز في تحديد هوية الرؤساء.

وقد وجد ذلك الحزب، المصنف جماعة إرهابية، نفسه مضطراً لدعم قائد الجيش في الدورة الثانية للانتخابات، بعد معارضة طويلة لترشيحه، في مؤشر على تبدّل ميزان القوى السياسية.

ولطالما هيمن "حزب الله" على المشهد السياسي اللبناني، معطلاً الاستحقاقات الرئاسية لفرض مرشحيه من محور "الممانعة". 

لكن الحزب خاض هذه الانتخابات وسط تراجع ملحوظ في نفوذه الإقليمي وخسائره الميدانية نتيجة الحرب الأخيرة مع إسرائيل، التي كبدته خسائر فادحة، بما في ذلك فقدان عدد من قيادييه وعلى رأسهم أمينه العام السابق حسن نصر الله.

إضافة إلى ذلك، أسهم سقوط نظام بشار الأسد في سوريا في توجيه ضربة قاسية للحزب، إذ انقطع طريق دعمه الاستراتيجي بالمال والسلاح من إيران.

تحول مفاجئ

ولم يحظَ عون في الدورة الأولى بدعم حزب الله، وحصل على 71 صوتاً فقط، ما حال دون فوزه الذي يتطلب 86 صوتاً.

لكن الدورة الثانية شهدت تحولاً مفاجئاً، إذ صوت الثنائي الشيعي لصالحه، مما رفع عدد أصواته إلى 99، ليطوي بذلك صفحة فراغ رئاسي طويل.

برر مقربون من حزب الله تصويته لعون بأنه خطوة محسوبة لإيصال رسالة بأن الحزب لا يزال محورياً في المشهد السياسي، وأن الرئاسة لا يمكن أن تحسم دون أصواته. 

لكن مراقبين اعتبروا هذه الخطوة تنازلاً قسرياً وهزيمة سياسية، خاصة في ظل الأجواء الداخلية والإقليمية الضاغطة.

فور انتخابه، ألقى عون خطاباً يعكس رؤيته للمرحلة المقبلة، إذ تعهد بالاستثمار في الجيش لضبط الحدود الجنوبية وترسيمها شرقاً وشمالاً، ومحاربة الإرهاب. 

كما أكد التزامه بتطبيق القرارات الدولية وحق الدولة في احتكار السلاح، في إشارة مبطنة إلى سحب سلاح حزب الله.

كذلك دعا إلى مناقشة استراتيجية دفاعية شاملة تغطي الجوانب الدبلوماسية، الاقتصادية، والعسكرية، بما "يمكن الدولة اللبنانية من إزالة الاحتلال الإسرائيلي وردع عدوانه".

ورغم وضوح خطاب عون ورؤيته المستقبلية، يبقى موقف حزب الله محاطاً بالأسئلة أهمها، لماذا تخلى عن اعتراضه الأولي وصوّت لعون؟ هل كان ذلك تراجعاً استراتيجياً أم محاولة لاستيعاب ضغوط داخلية وخارجية؟

هل هو استسلام سياسي؟

في الأيام التي سبقت الجلسة الانتخابية الرئاسية، اعتمد حزب الله، كما يقول الكاتب والصحفي مجد بو مجاهد، "نمطاً سياسياً قائماً على المماطلة في محاولة لإيجاد مرشح توافقي يخفف من حدة الانقسامات، حيث لم يكن متحمساً لوصول قائد الجيش إلى الرئاسة". 

ويضيف "شهدت الأيام الماضية مشاورات مكثفة بين محور الممانعة والقوى السيادية المعارضة، لكنها لم تسفر عن نتائج ملموسة، إذ رفض محور الممانعة جميع المرشحين الذين اقترحتهم كتل المعارضة خلال المفاوضات التي حصلت في الأروقة، وحتى الساعات الأخيرة، بقي المحور متوجساً من انتخاب قائد الجيش".

لكن، ثمّة تطوّرات اجتمعت شكّلت أسباباً ضاغطة على حزب الله، وفق حديث بو مجاهد لموقع "الحرة"، وذلك "بدءاً من قرارات حازمة لتكتّلات نيابية عديدة في أن يكون قائد الجيش مرشّحها، تزامناً مع الحضور الدولي في لبنان وتحبيذ ترشيحه. إضافة إلى أن محور الممانعة لم يستطع أن يبقى على تشبّثه التعطيلي لاستحقاق الرئاسة وسط كلّ المتغيرات التي عرفتها المنطقة".

وكان لافتاً، كما يرى بو مجاهد، تأخير حزب الله تصويته للدورة الثانية، حيث يضع ذلك في إطار "محاولة انتظار لمعرفة كيف قد تنحو الأصوات الانتخابية..". 

و"في السياسة، يمكن قراءة تأخير القرار الانتخابي لكلّ النواب الشيعة لإيصال رئيس للجمهورية، على أنّه تأخير يشكّل محاولة للإبقاء على بعض النفوذ في هذه المرحلة والمطالبة بنقاط سياسية وحكومية لاحقة"، يتابع مجاهد.

لكن، تصويت النواب الشيعة في الدورة الثانية لا يمكن قراءته، حسب بو مجاهد، على أنه "استسلام سياسيّ إنما على أنه بحث عن المشاركة في تسوية، خصوصاً أن هناك قراراً خارجياً واسعاً لا يسمح الإبقاء على المراوحة في استحقاق الرئاسة ولأن متغيرات المنطقة ضاغطة على محور الممانعة".

من جانبه، يرى الصحفي علي الأمين، أنه لم يكن لدى حزب الله خيار سوى انتخاب عون. 

ويوضح أن "الحزب يدرك، أكثر من غيره، حجم التحولات التي أفرزتها الحرب الإسرائيلية وسقوط نظام الأسد في سوريا". 

و"هذه التحولات أنتجت معادلة جديدة في لبنان، نقلت حزب الله من موقع المقرر في رئاسة الجمهورية – أي من فرض الرئيس أو تعطيل الانتخابات – إلى مرحلة يشحذ فيها ضمانات تحول دون تهميشه"، طبقا للأمين.

امتناع الحزب عن انتخاب عون في الجلسة الأولى لم يكن، وفق ما يقول الأمين لموقع "الحرة"، "رفض التصويت له. بل أراد الحزب، كما أوضح النائب محمد رعد تحت شعار (التوافق) في الجلسة الثانية، أن يظهر أن فوز عون لم يكن ليتم لولا أصوات حزب الله وحركة أمل". 

وتابع: "وأما الحديث عن الضمانات، فيكفي أن نشير إلى أن عون، في خطاب القسم، لم يتطرق إلى المقاومة، بل تحدث بشكل قاطع عن حصرية السلاح بيد الدولة، وأكد أن الجيش هو المسؤول عن حماية الحدود وحفظ أمن لبنان".

وفي تقديره، "أراد حزب الله أن يظهر لجمهوره أنه كان الطرف الحاسم في وصول عون إلى الرئاسة، ليؤكد أنه لا يزال فاعلاً ومؤثراً، حتى لو كانت الضمانات المقدمة له تقتصر على عدم تهميشه".

"موازين القوى قد تبدلت في لبنان" كما يشدد الأمين، ويضيف "حزب الله خضع بملء إرادته لقرار خارجي بانتخاب عون، وقد عاد إلى حجمه الطبيعي أي كتلة نيابية تضم 15 نائباً". 

و"إذا عبّر بعض نوابه عن استيائهم من الضغط الدولي، فكان الأجدر بهم عدم انتخاب عون أو مقاطعة جلسة الانتخاب. قبولهم بهذه الشروط يعكس إدراكهم لضرورة التأقلم مع الواقع الجديد وتجنب الاصطدام به، وذلك نتيجة تداعيات الحرب الأخيرة مع إسرائيل وسقوط الأسد على دور الحزب ونفوذه"، حسب الأمين.

حقبة مختلفة

على عكس الخطابات التقليدية التي ميزت العهود السابقة بعد الحرب الأهلية اللبنانية، جاء خطاب عون محملاً برسائل واضحة، أبرزها تأكيده على ضرورة "تثبيت حق الدولة في احتكار السلاح" كركيزة أساسية لتعزيز سيادة لبنان. 

وتعهد عون بأن انتخابه يشكل بداية "مرحلة جديدة في تاريخ لبنان"، داعياً إلى تغيير قواعد اللعبة السياسية بقوله "آن الأوان لنراهن على استثمار لبنان في تعزيز علاقاتنا الخارجية، بدلاً من الاعتماد على الخارج للاستقواء على بعضنا البعض".

وحظي انتخاب عون رئيساً للبنان بترحيب واسع على الصعيدين الدولي والعربي، حيث شددت المواقف على أهمية هذه الخطوة في فتح صفحة جديدة تمكّن البلاد من استعادة أمنها واستقرارها.

وهنأ الرئيس الأميركي، جو بايدن، الخميس، عون بمناسبة انتخابه رئيساً للجمهورية، وفق بيان صادر عن البيت الأبيض.

وجرى اتصال هاتفي بين الرئيسين، أعرب بايدن خلاله عن ثقته الكاملة في قدرة الرئيس عون على قيادة لبنان خلال المرحلة المقبلة، التي وصفها بأنها "تحمل تحديات كبيرة لكنها تفتح فرصاً كبيرة للشعب اللبناني". 

كما أكد الرئيس الأميركي مساندة لبنان في مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية، مشيراً إلى أهمية التعاون مع المجتمع الدولي وأصدقاء لبنان الحقيقيين لضمان أمن البلاد وسيادتها وازدهارها.

وهنّأ الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، عون على انتخابه رئيساً للبنان، في تغريدة نشرها عبر حسابه على منصة "إكس". 

ورأى ماكرون أن هذه الانتخابات "تفتح الطريق أمام الإصلاحات واستعادة سيادة لبنان وازدهاره".

"نهاية معادلة"

 عون وضع نهاية لمعادلة "جيش، شعب، مقاومة"، كما يشدد الأمين، ويشرح "هذا جوهر خطابه بشأن أي سلاح خارج إطار الدولة، والتزامه بتطبيق القرارات الدولية، لا سيما القرارين 1701 و1559. وبالتالي، فإن الاستراتيجية الدفاعية أصبحت مرتبطة بالدولة والقرارات الدولية".

ويرى الأمين أن حزب الله "سيحاول التأقلم مع مسار داخلي واضح يعزل دوره العسكري لصالح دور الجيش، ومع توجه إقليمي ودولي جارف لا يستطيع الوقوف في وجهه أو مواجهته".

من جانبه، يرى بو مجاهد أنه لا يزال من المبكر معرفة إن كان في استطاعة رئيس الجمهورية المنتخب أن ينفّذ القرارات الدولية الخاصة بلبنان لأن ذلك يحتاج أيضاً لقرارات حكومية ومنهجية متبعة وربما حوارات سياسية بين القوى اللبنانية.

"ولكن الأكيد أن مرحلة مغايرة عن السابق بدأت مع تراجع قوة محور الممانعة في المنطقة، وهي مرحلة من الأهمية فيها تنفيذ اتفاق الطائف والقرارات الدولية"، يختم بو مجاهد حديثه إلى "موقع الحرة".

عناصر من الجيش اللبناني داخل مركبة عسكرية
المجتمع الدولي قدم دعم مباشر للمؤسسة العسكرية اللبنانية

يواجه الجيش اللبناني اختباراً صعباً لضمان استقرار البلاد، حيث يعمل، رغم محدودية موارده البشرية واللوجستية والعسكرية، على تعزيز انتشاره في جنوب لبنان تنفيذاً للقرار الدولي 1701، الذي أُقر في إطار اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل.

إلى جانب ذلك، اضطر الجيش إلى زيادة عدد قواته على الحدود الشمالية والشرقية بعد سقوط نظام الأسد في سوريا وسيطرة هيئة تحرير الشام، بهدف التصدي لمحاولات تسلل المجموعات المسلحة والحفاظ على الأمن.

تأتي هذه المسؤوليات في وقت يواجه لبنان أزمة اقتصادية خانقة مستمرة منذ عام 2019، ما ألقى بظلاله الثقيلة على موارد الجيش، وللتغلب على هذه التحديات، لجأ المجتمع الدولي إلى تقديم دعم مباشر للمؤسسة العسكرية.

وفي هذا السياق، أعلن المجلس الأوروبي، الأربعاء الماضي، عن تقديم حزمة مساعدات ثالثة بقيمة 60 مليون يورو ضمن إطار آلية السلام الأوروبية. تهدف هذه المساعدات إلى تعزيز قدرات الجيش اللبناني، خاصة في إعادة الانتشار ضمن قطاع جنوب الليطاني، وتثبيت الاستقرار في المنطقة.

وكانت الولايات المتحدة الأميركية، أعلنت في 18 يناير، عن تقديم أكثر من 117 مليون دولار من المساعدات الأمنية الموسعة للجيش اللبناني وقوات الأمن الداخلي، خلال اجتماع للمانحين الدوليين، وأوضحت وزارة الخارجية الأميركية أن هذه المساعدات تهدف إلى دعم القوات المسلحة اللبنانية وقوى الأمن الداخلي لـ"ضمان سيادة لبنان على كامل أراضيه، وتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي 1701 بشكل كامل".

وفي ظل الأوضاع الأمنية الدقيقة التي يعيشها لبنان، تزداد الأنظار تركيزاً على الجيش اللبناني باعتباره الضامن الأساسي للاستقرار الداخلي وحماية الحدود، ومع ذلك، يظل السؤال مطروحاً حول قدرته على مواجهة هذه التحديات المتزايدة ومدى حاجته إلى دعم إضافي لتمكينه من تأدية مهامه بكفاءة.

قدرات محدودة

يحتل الجيش اللبناني المرتبة 115 بين 145 جيشاً حول العالم وفقاً لتصنيف "غلوبال فاير باور" لعام 2025، هذا التصنيف يعكس التحديات التي يواجهها، والتي تتجلى في محدودية ميزانيته العسكرية التي تقدر بنحو 768,250,325 دولار كما أورد الموقع الأميركي.

ويضم الجيش اللبناني وفق الموقع قرابة 60 ألف جندي نظامي، و35 ألف فرد في الاحتياط، و65 ألف بما يعرف بالقوات شبه العسكرية.

أما من حيث العتاد، يمتلك الجيش اللبناني أسطولاً جوياً يتألف من 80 طائرة، من ضمنها 9 طائرات هجومية و9 طائرات للتدريب، إضافة إلى 68 مروحية.

كما يمتلك أسطولاً برياً يضم 4538 آلية مدرعة و116 دبابة و12 مدفعاً ذاتي الحركة و353 مدفعاً ميدانياً و11 راجمة صواريخ، أما أسطوله البحري فيتكون من 64 قطعة، منها 61 سفينة دورية، بحسب "غلوبال فاير باور".

"ورغم تمتّع الجيش اللبناني بقدرات قتالية متنوعة، تمكّنه من تغطية مختلف المناطق اللبنانية، معتمداً على أسلحة تشمل الدبابات والمدفعية والطائرات"، كما يؤكد العميد المتقاعد والنائب السابق شامل روكز، إلا أن "العديد من تجهيزاته تعود إلى أجيال قديمة، ما يستدعي تحديثاً عاجلاً لها".

ويشرح روكز لموقع "الحرة" أن "الدبابات التي يعود تاريخ تصنيع بعضها إلى عامي 1948 و1955 بحاجة إلى تحديث شامل، إلى جانب العربات المدرعة والآليات العسكرية، وكذلك المدفعيات كون غالبيتها ليست مؤهلة وتفتقر إلى عيارات حديثة، كما أن الجيش اللبناني بحاجة إلى أنظمة اتصال حديثة تغطي مختلف المناطق، وإلى أنظمة دفاع جوي".

ويلفت روكز إلى أن "انتشار الألغام في عدة مناطق لبنانية، بما في ذلك تلك التي زرعت خلال الحرب الأخيرة بين حزب الله وإسرائيل، يستدعي تجهيز فوج الهندسة ومكتب نزع الألغام في الجيش اللبناني بالمعدات اللازمة لضمان فعالية عملياتهم".

من جانبه يقول العميد المتقاعد، رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات والعلاقات العامة، الدكتور هشام جابر، إن إمكانيات الجيش اللبناني بحاجة إلى تعزيز كبير على الصعيدين اللوجستي والعسكري، ويشرح "خلال فترة قيادته للجيش، عمل العماد جوزاف عون – الذي أصبح لاحقاً رئيساً للجمهورية – بجهد لتأمين هذه الحاجات من مصادر متعددة، مما ساهم في الحفاظ على استقرار الجيش اللبناني."

ويشدد جابر في حديث لموقع "الحرة" على أن "الجيش بحاجة ماسة إلى تحديث أسلحته، فهو يمتلك أسلحة قديمة. السلاح الدفاعي الجوي هو أحد الاحتياجات الأساسية، حيث يحظر عليه الحصول عليه بسبب موقف إسرائيل الرافض."

كما أن الاحتياجات الدفاعية البحرية أيضاً كبيرة، كما يشير جابر، ويوضح "يمتد الشاطئ اللبناني لمسافة تقارب 250 كم، لكن القوات البحرية لا تستطيع تأمين أكثر من 5% من هذا الخط الساحلي. الجيش اللبناني بحاجة إلى تطوير قدراته البحرية عبر سلاح دفاعي بحري، كما أن القوات البرية تحتاج إلى مدرعات خفيفة تستطيع التعامل مع الظروف الميدانية. في الحقيقة، الجيش بحاجة إلى كل ما هو حديث."

أما الخبير الاستراتيجي، العميد المتقاعد ناجي ملاعب، فيقول إن الجيش اللبناني يواجه تحديات كبيرة في ظل الأزمة الاقتصادية الحالية، التي أثرت بشكل مباشر على قدراته العسكرية واللوجستية.

ويشير ملاعب، في حديث لموقع "الحرة"، إلى أن الجيش اللبناني كان بحاجة إلى ثلاثة مليارات دولار خلال عهد رئيس الجمهورية الأسبق ميشال سليمان، حيث أطلع المملكة العربية السعودية على هذه الاحتياجات أثناء زيارته إليها في عام 2008، ويوضح، "حينها كانت الأولويات تشمل تطوير الخدمات اللوجستية، وتوفير أسلحة حديثة، بما في ذلك أنظمة دفاع جوي، وتجهيز الثكنات، وتحسين أوضاع المستشفى العسكري، وقد وافقت السعودية في ذلك الوقت على تقديم هذا المبلغ كدعم للجيش."

لكن الأمور تغيرت لاحقاً، كما يقول ملاعب، حيث تراجعت السعودية عن تقديم هذه المساعدات "بعد موقف وزير الخارجية اللبناني الأسبق جبران باسيل المحايد تجاه الأزمة اليمنية في الجامعة العربية. هذا التراجع حرم الجيش اللبناني من دعم كان يعوّل عليه بشدة."

تداعيات خطيرة

بعد عام 2019، ومع انهيار العملة اللبنانية وانخفاض قيمة الرواتب، شهدت أوضاع الجيش كما يقول ملاعب "تدهوراً كبيراً"، ويشرح أن "الموازنات المخصصة للجيش كانت تحتسب بالليرة اللبنانية ولم تعدّل لتواكب التضخم وارتفاع الكلفة بالدولار. هذا الوضع أدى إلى تراجع أوضاع الجنود، وتسرب البعض من الخدمة، وانخفاض مستوى التجهيزات العسكرية."

كذلك يحذر روكز من التداعيات الخطيرة للأزمة الاقتصادية على عناصر الجيش، قائلاً إن "رواتب الجنود لا تتجاوز 300 دولار شهرياً، وهو مبلغ لا يكفي لتأمين احتياجاتهم الأساسية، ما ينعكس سلباً على معنوياتهم وقدرتهم على أداء واجباتهم"، ويضيف أن "الوضع المالي الصعب يؤثر على قدرة العسكريين على تحمل تكاليف أقساط أبنائهم المدرسية وعلاجهم، مما يؤثر على نوعية العناصر التي قد تنضم إلى الجيش في المستقبل، خاصة مع إدخال منظومات تكنولوجية حديثة تتطلب شهادات علمية".

كما يشير روكز إلى معاناة المتقاعدين من ضعف معاشاتهم التقاعدية، معتبراً أن "هذا الوضع يؤثر على معنويات الجنود الحاليين ويحد من رغبة الكفاءات الجديدة في الانضمام إلى الجيش، ما يهدد جودة القوى البشرية في المؤسسة العسكرية".

كذلك يؤكد جابر أن "عديد الجيش اللبناني الذي يقارب 70,000 مقاتل، بحاجة ماسة إلى توفير موارد لوجستية ورفع رواتبهم"، ويوضح "قد لا يحتاج الجيش اللبناني إلى زيادة في عدد عناصره، لكنه بحاجة إلى تثبيت هذا العدد عبر إعادة العمل بالتجنيد الإجباري، الذي كان يزود الجيش بدماء جديدة ويعزز الانصهار الوطني بين الشباب".

وقبل فتح حزب الله جبهة إسناد لغزة من جنوب لبنان، كان الجيش اللبناني ينتشر في المنطقة بعدد يقارب 4500 عنصر موزعين بين لواءين وفوج واحد. وكان الجيش يتعاون مع قوات "اليونيفيل" لتنفيذ مهام تتعلق بتطبيق القرار الدولي 1701، ومع وقف إطلاق النار، وضعت قيادة الجيش خطة لتعزيز تواجدها في الجنوب، تضمنت انتشار حوالي 10,000 عنصر. لتحقيق هذا الهدف، تتطلب الخطة تطويع نحو 6,000 عنصر إضافي، إلا أن تنفيذها يواجه تحديات مالية، حيث تقدر تكلفة تجهيز كل عنصر بحوالي 4,500 دولار، كما سبق أن أكد مصدر مطلع لموقع "الحرة"، تشمل العتاد والمستلزمات اللوجستية والأسلحة، ما يرفع التكلفة الإجمالية إلى مليار دولار تقريباً.

وفي 14 يناير، أعلنت قيادة الجيش عن التحاق الدفعة الأولى من الجنود المتمرنين، ضمن المرحلة الأولى من خطة تعزيز الوحدات العسكرية المنتشرة، باشر المتطوعون متابعة الدورات التدريبية في القطع المختصة، تمهيداً لتوزيعهم على الوحدات العسكرية.

هل يغطي الدعم الحاجات؟

لعبت المساعدات الأميركية، "التي تتراوح قيمتها بين 90 و120 مليون دولار سنوياً منذ عام 2005"، دوراً حيوياً كما يقول ملاعب "في الحفاظ على قدرات الجيش، من حيث تأمين العتاد، الأسلحة، الذخائر، وبعض الطوافات والطائرات القتالية مثل "سوبر توكانو" البرازيلية"، كما يشيد ملاعب بالدعم الأوروبي المستجد، بالإضافة إلى المساعدات المقدمة من قطر ودول عربية أخرى مثل الأردن ومصر.

يذكر أن 90 في المئة من تسليح الجيش اللبناني يأتي كهبات من الولايات المتحدة، حيث يعتمد الجيش على برامج أميركية مختلفة من الهبات لتأمين المساعدات التي تشمل توفير الطبابة، وكذلك تأمين السلاح والعتاد العسكري، في المقابل، تقدم الدول الأخرى مساعدات محدودة للجيش.

لكن المساعدات الأجنبية، رغم أهميتها، لا تلبي الاحتياجات الأساسية، كما يقول روكز، ويوضح أن "الدول الأجنبية، وخاصة الولايات المتحدة، تقدم مساعدات تشمل عربات مدرعة وآليات عسكرية، إضافة إلى تدريب الوحدات الخاصة، ما يقلل الخسائر البشرية خلال المواجهات، لكنه الجيش في حاجة كذلك إلى تدريب في الخارج للتمكن من استعمال الأسلحة والمعدات بشكل فعال".

ويشدد روكز على أن "تحسين الظروف المادية والمعيشية للجنود الحاليين والمتقاعدين، إلى جانب تحديث العتاد، هو السبيل الوحيد لضمان جيش قوي وقادر على مواجهة التحديات الأمنية".

كذلك يؤكد جابر على أهمية رفع رواتب العسكريين لتحسين أوضاعهم المعيشية، مشيراً إلى أنه "في حال تبنّى لبنان استراتيجية دفاعية شاملة تشمل دمج صواريخ حزب الله وسلاحه ضمن منظومة الدفاع الوطني، فإن ذلك سيعزز القدرات العسكرية ويسهم بشكل كبير في تعزيز الاستقرار والأمن الوطني".

من جانبه يختم ملاعب حديثه بالتأكيد على أهمية تزويد الجيش بمنظومة دفاع جوي حديثة كأولوية ملحة، قائلاً "لبنان ليس دولة عدوانية، لكن وجود منظومة دفاع جوي قوية وصواريخ دفاعية يمكّن الجيش من ردع أي اعتداء خارجي، وإذا تحسنت الأوضاع الاقتصادية وارتفعت رواتب الجنود، سيكون الجيش أكثر قدرة على أداء مهامه بفعالية".